يمثل تحول الحرب البحرية بواسطة المسيرات البحرية غير المأهولة، والمدفوع بشكل أساسي بالتكنولوجيا الجديدة وظهور الذكاء الاصطناعي، جانبا جديدا محوريا في الحرب البحرية تطور بسرعة مذهلة. ففي أقل من عامين، شهدنا كيف استطاعت أوكرانيا- الدولة التي فقدت معظم أصولها البحرية التقليدية عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم- أن تستخدم المسيرات غير المأهولة والهجمات الصاروخية البحرية لإبعاد أسطول البحر الأسود الروسي القوي عن شواطئها وبعيدا عن المدى الذي يمكن لصواريخه استهداف أوكرانيا منه.
إن الفعالية القتالية المؤكدة لهذه المسيرات البحرية غير المأهولة وغير المكلفة نسبيا، عندما تكون في أيدي مشغلين مهرة، هي التي تجعل هذه التكنولوجيا قادرة على تغيير قواعد اللعبة في الحروب البحرية. وإذا تجاهلت الأساطيل البحرية التقليدية هذه القدرة الجديدة من الناحية الدفاعية، فستشكل نقطة ضعف حرجة لها. ولكن إذا تبنتها ودمجتها في ترساناتها، فإنها ستشكل دعما كبيرا في الحروب المستقبلية.
الحرب البحرية غير المتكافئة ليست جديدة
لعقود من الزمن، شكلت الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز المتقدمة، بسرعاتها فوق الصوتية ودقتها المتزايدة، التهديد الأساسي للمقاتلين البحريين في زمن الحرب. ونتيجة لذلك، طورت القوات البحرية أنظمة دفاعية متطورة ومكلفة مثل نظام الأسلحة “إيجيس” التابع للبحرية الأميركية لحماية السفن من هذه التهديدات. ومع ذلك، في الوقت نفسه كانت هذه الأنظمة، في بيئات معينة، عرضة للتهديدات والتكتيكات غير المتكافئة التي طورتها كل من الدول القومية والمنظمات الإرهابية.
“التهديد الإيراني متعدد الطبقات” شمل صواريخ كروز مضادة للسفن تنطلق فوق سطح البحر، بالإضافة إلى أسراب من الزوارق السريعة المجهزة بالمدافع الرشاشة والصواريخ والقذائف
وكمثال واضح على هذا النوع من التهديد: في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2000، توقف قارب صغير مملوء بالقنابل وعلى متنه انتحاريان اثنان بجانب السفينة “يو إس إس كول” أثناء توقفها اللوجستي في عدن باليمن وفجرا متفجرات قوية مزقت هيكل السفينة. وأحدث الانفجار حفرة عرضها 40 قدما عند خط الماء بالسفينة، مما أسفر عن مقتل 17 بحارا أميركيا وإصابة 40 آخرين.
في السنوات التي تلت ذلك الهجوم، لعبت قوات البحرية التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني دورا رئيسا في تطوير تهديدات بحرية غير متكافئة لمواجهة المقاتلين البحريين التقليديين للولايات المتحدة الذين كانوا متمركزين في الخليج العربي.
ما يُعرف بـ”التهديد الإيراني متعدد الطبقات” شمل صواريخ كروز مضادة للسفن تنطلق على ارتفاع منخفض فوق سطح البحر، بالإضافة إلى أسراب من الزوارق السريعة المجهزة بالمدافع الرشاشة والصواريخ والقذائف، إلى جانب الغواصات الصغيرة والزوارق الصغيرة التي تنشر الألغام البحرية. كان المفهوم هو إغراق أنظمة الدفاع للسفن البحرية التقليدية بوابل من التهديدات المختلفة من الجو والبحر. وتطور المفهوم بشكل أكبر بإضافة مجموعة واسعة من المسيرات الإيرانية غير المأهولة التي كانت تستخدم في البداية للاستطلاع وأصبحت في النهاية مكونا مسلحا جديدا للتهديد الإيراني متعدد الطبقات.
ثم بدأت قوات “الحرس الثوري” الإيراني في تطوير مسيرات بحرية غير مأهولة يجري التحكم فيها عن بُعد وتنفجر عند الاتصال. أُطلق على هذه المسيرات اسم “القوارب المتفجرة” من قبل الصحافة الغربية، وفي عام 2016 بدأت إيران في تصدير المكونات الرئيسة لهذه المسيرات البحرية غير المأهولة إلى الحوثيين لاستخدامها في حربهم ضد السعودية في اليمن. ورغم أنها كانت في مراحلها الأولية من التطوير، فقد أثبتت أنها فعالة في بعض الأحيان.
في 30 يناير/كانون الثاني 2017، نُشر مقطع فيديو يُظهر مسيرة بحرية غير مأهولة تقترب بسرعة عالية وتصطدم بمؤخرة فرقاطة تابعة للبحرية السعودية وتنفجر عند خط الماء أسفل منصة الإقلاع مباشرة. أدى الهجوم إلى إلحاق أضرار جسيمة بالسفينة.
شهد الأسطول الخامس التابع للولايات المتحدة والموجود في البحرين كيفية تطبيق التكنولوجيا الغربية المتقدمة والذكاء الاصطناعي على المسيرات البحرية
وخلال الشتاء الماضي، استخدم الحوثيون هذه التكنولوجيا مرة أخرى عندما بدأوا حملتهم الإرهابية المعروفة ضد الشحن التجاري الذي يمر عبر البحر الأحمر وخليج عدن. في البداية، كان الحوثيون يستخدمون وابلا من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز بالإضافة إلى الطائرات المسيرة لتنفيذ هجماتهم على السفن التجارية غير المسلحة. وعلى الرغم من محاولات الأساطيل المتحالفة مواجهة هذا التهديد، فإن الطبيعة العنيفة لهذه الهجمات والمخاطر التي تشكلها على البحارة التجاريين وشحناتهم كانت أكبر من قدرة شركات الشحن على التحمل. وكانت النتيجة إعادة توجيه جزء كبير من حركة الشحن التجاري بعيدا عن قناة السويس وحول رأس الرجاء الصالح في أفريقيا. وقد أضاف هذا المسار الجديد أكثر من أسبوع من أجل العبور وأضاف ملايين الدولارات إلى تكاليف الشحن.
ومع استمرار الهجمات، وبدء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد قليل من الدول الأخرى في شن ضربات لتقليص مخزون الحوثيين من الأسلحة، تحولت غالبية هجمات الحوثيين إلى استخدام المسيرات الجوية والبحرية غير المأهولة.
وفي النهاية، وعلى الرغم من إطلاق المئات من الصواريخ والمسيرات على مدى عدة أشهر، لم تحقق هذه الهجمات الأثر الفعال المتوقع، نظرا لأن معظمها كان يطلق على السفن التجارية التي لا تمتلك وسائل الدفاع بالقرب من السواحل اليمنية. وفي الواقع، أخفقت معظم الصواريخ والمسيرات في الوصول إلى أهدافها أو جرى اعتراضها وتدميرها من قبل أساطيل التحالف. وبشكل إجمالي، تسببت هذه الهجمات بالضرر لحوالي 30 سفينة، معظمها أضرار طفيفة، كما تسببت في مقتل ثلاثة من أفراد طواقم هذه السفن.
فرقة العمل 59
بفضل متابعته المباشرة لما كانت إيران والحوثيون يطورانه، شهد الأسطول الخامس التابع للولايات المتحدة والموجود في البحرين كيفية تطبيق التكنولوجيا الغربية المتقدمة والذكاء الاصطناعي على المسيرات البحرية، وبدأ في اختبار هذا المفهوم في الخليج العربي والبحر الأحمر على مدى السنوات القليلة الماضية. وباستخدام التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج المتاحة تجاريا، نشرت فرقة العمل 59 أسطولا من المسيرات البحرية الذاتية السطحية وتحت السطحية التي تقوم باستمرار بجمع البيانات لتحليلها وإدارتها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
هذه المسيرات غير المأهولة في الغالب عبارة عن سفن صغيرة، يتراوح طولها بين ثلاثة وعشرة أمتار، وهي مزودة بالرادارات والكاميرات عالية الجودة، والتي يجري التحكم فيها عن بُعد بواسطة الأقمار الصناعية. ومن خلال ربط هذه التكنولوجيا العالية مع الذكاء الاصطناعي، يجري توليد خرائط لأنماط الحياة وتنبيهات يتم توفيرها لمشغل بشري في مركز عمليات بحرية.
غيرت أوكرانيا قواعد اللعبة فيما يخص الفعالية القتالية للمسيرات البحرية غير المأهولة، وحققت النجاح على بُعد مئات الأميال من سواحلها
في البداية، ركزت قوة العمل 59 على المراقبة، وهي مهمة ضرورية نظرا لاتساع نطاق المناطق البحرية التي تمتد من الخليج العربي إلى البحر الأحمر. ومع ذلك، بدأت قوة العمل 59 مؤخرا إجراء تجارب على مسيرات بحرية تحمل ذخائر. وفي أكتوبر/تشرين الأول، أجرت أول اختبار صاروخي حي من زورق سريع آلي. ونجح زورق (تي 38 ديفيل ري) في إطلاق نظام صاروخي مصغر لتدمير قارب مستهدف يجري التحكم فيه من الشاطئ.
أوكرانيا غيرت قواعد اللعبة
غيرت أوكرانيا قواعد اللعبة فيما يخص الفعالية القتالية للمسيرات البحرية غير المأهولة وتأثيرها على المقاتلات البحرية الحديثة، وحققت النجاح حتى على بُعد مئات الأميال من سواحلها. ومثل فرقة العمل 59، فعلت ذلك من خلال الاستفادة من التقدم التكنولوجي، وخاصة الذكاء الاصطناعي، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية وجمع ذلك مع التطوير المبتكر والمشغلين المدربين. وكانت أيضا قادرة على تحسين وتطوير طائراتها المسيرة وإجراء التغييرات السريعة المطلوبة، وفي النهاية، حققت نتائج فعالة ضد المقاتلين البحريين الروس في البحر الأسود.
وحتى الآن، كانت مجموعة المشغلين الأوكرانية، التي تسمى “الفرقة 13″، مسؤولة عن إتلاف أو تدمير أكثر من 20 سفينة روسية، أي أكثر من ثلث أسطول البحر الأسود، مما أدى إلى إقالة كل من قائد البحرية الروسية وقائد أسطول البحر الأسود. وكانت أوكرانيا ناجحة للغاية لدرجة أن روسيا قامت بتقليد المفهوم الأوكراني واستخدمت مسيرة بحرية لمهاجمة جسر زاتوكا في أوكرانيا في فبراير/شباط من عام 2023.
نجاح أوكرانيا في استخدام المسيرات البحرية لم يكن دون تحديات، حيث واجهت الصعوبات نفسها في مجالات الاتصالات عبر الأفق على مسافات طويلة، والتحكم في المسار، وتلبية متطلبات الطاقة، وتعزيز الفعالية القتالية، وتطوير التكتيكات والتدريب، وهي مشكلات واجهها أيضا الإيرانيون والحوثيون. ومع ذلك، استطاعت عبر الابتكار في استخدام التكنولوجيا وعمليات التطوير السريعة التحول من استخدام الزلاجات النفاثة المزودة بالمتفجرات إلى استخدام مسيرات مثل “ماغورا في- 5″، و”سي بيبي”.
وعلى الرغم من صغر حجم “ماغورا في-5″، فإنها تتميز بقوة فعالة، حيث يبلغ طولها حوالي 18 قدما، ووزنها حوالي 2000 رطل، وتتمتع بمدى يصل إلى مئات الأميال، وتتضمن بطارية يمكن أن تدوم لعدة أيام، وتحمل حمولة تصل إلى 440 رطلا. وأثبتت هذه المواصفات، بالإضافة إلى قدرتها على بث الفيديو مباشرة إلى المشغلين، فعاليتها القتالية ضد البحرية الروسية. أما “سي بيبي” فهي أكبر حجما، وتقدر على حمل 1900 رطل من المتفجرات، وتصل سرعتها القصوى إلى 56 ميلا في الساعة، ويبلغ مداها 600 ميل، وهي مثال آخر على الجهود السريعة في التطوير من قبل المجموعة 13.
سوف تقوم القوات البحرية بتكييف وتعديل نظامها الدفاعي لمواجهة المسيرات البحرية
ضرب هذا النوع من المسيرات البحرية الأوكرانية سفينة روسية لأول مرة في أكتوبر 2022، عندما هاجمت سفنا روسية راسية قبالة ساحل شبه جزيرة القرم المحتلة. وفي يوليو/تموز الماضي، ضربت مسيرات أوكرانية جسر مضيق كيرتش، وهو طريق إمداد رئيس يربط روسيا بشبه جزيرة القرم، مما أدى إلى إغلاقه مؤقتا. ثم ضربت المسيرات البحرية الأوكرانية ميناءً روسياً، مما أدى إلى إتلاف السفن الحربية الراسية فيه.
وبحلول شهر مارس/آذار من هذا العام، قامت أوكرانيا بتحسين المسيرات والتكتيكات بما يكفي لإلحاق الضرر بسفينة الدورية الروسية الحديثة والمشغلة حديثا “سيرغي كوتوف”، بالقرب من مضيق كيرتش قبالة شبه جزيرة القرم، وإغراقها في نهاية المطاف. ما الدروس التي يمكن أن نتعلمها من نجاح أوكرانيا؟
أولا، أنه باستخدام التكنولوجيا المناسبة، والذكاء الاصطناعي، والتكتيكات المدروسة بالإضافة إلى وجود مشغلين مدربين، يمكن للمسيرات البحرية أن تكون فعالة ضد المقاتلين البحريين.
ثانيا، أن هذه القدرة تأتي بتكلفة منخفضة جدا نسبيا. في الواقع، يُقال إن تكلفة المسيرات البحرية الأوكرانية تشكل جزءا صغيرا من تكلفة صاروخ جو-جو نموذجي. فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر الـ”ماغورا” حوالي 250 ألف دولار أميركي فقط، وهو مبلغ صغير مقارنة بتكلفة تدمير أو إغراق سفينة حربية تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات.
هل ستكون المسيرات البحرية جزءا من الحروب البحرية المستقبلية في المحيط الهادئ؟
جذب نجاح المسيرات غير المأهولة في البيئة البحرية انتباه مخططي البحرية الأميركية في البنتاغون. وهم يدمجون الدروس المستفادة من أوكرانيا والبحر الأحمر في خططهم لمواجهة القوة البحرية الصينية المتنامية، كما يتضح من إعلان نائب وزير الدفاع كاثلين هيكس في أغسطس/آب عن مبادرة “ريبليكيتور” لنشر مئات المسيرات الجوية والبحرية الصغيرة والرخيصة نسبيا خلال 18 إلى 24 شهرا قادمة لمواجهة القوة الجوية والبحرية الصينية المتنامية بسرعة.
وبشكل أكثر تحديدا، خصص البنتاغون 500 مليون دولار سنويا لمبادرة “ريبليكيتور” التي صممت لتجاوز البيروقراطية وتسريع نشر الآلاف من المسيرات الجوية والبحرية منخفضة التكلفة. وفي يناير/كانون الثاني، أصدرت وزارة الدفاع الأميركية طلبا للشركات الخاصة لتسليم مسيرات بحرية صغيرة إلى البحرية، مما يتطلب من المقاولين أن يكون لديهم قدرة إنتاجية تبلغ 120 سفينة سنويا، على أن يبدأ النشر في أبريل/نيسان من العام المقبل.
وعلى الرغم من أن المبادرة لم تحدد ذلك بشكل صريح، فمن المتوقع أن تشكل أسراب من المسيرات البحرية الصغيرة حاجزا دفاعيا لتعزيز حماية الأصول المأهولة القيمة مثل حاملات الطائرات أو الوحدات الأخرى ذات القيمة العالية. وفي حال وقوعها في أيدي تايوان، فإن أسرابا من المسيرات السطحية وتحت السطحية، إضافة إلى صواريخ كروز المضادة للسفن، ستشكل تهديدا كبيرا للسفن الحاملة للقوات الصينية إذا حاولت بكين غزو تايوان.
هل ستحدث هذه المسيرات البحرية تغييرا في المستقبل؟
الجواب البسيط هو نعم، ولكن إلى حد ما فقط. إذ لا يمكن استخدامها في جميع المواقف، وسوف تقوم القوات البحرية بتكييف وتعديل نظامها الدفاعي لمواجهة هذه القدرة الجديدة. ومع ذلك، فإن تصور سحق المقاتلين البحريين بأسراب من المسيرات عالية التقنية/منخفضة التكلفة هو تصور حقيقي، وقد ثبتت صحته بالفعل، وسيتحسن بمرور الوقت وتقدم التكنولوجيا.
وفي النهاية، لن تبقى هذه القدرة مختلفة، بل ستصبح جزءا لا يتجزأ من الحروب البحرية. وستكون القوات البحرية التقليدية التي تحتضنها وتبني برامج مستدامة للاستفادة من نقاط قوتها هي الأكثر فتكا وقدرة على البقاء. وستتحد المسيرات البحرية السطحية وتحت السطحية مع الصواريخ والطائرات المسيرة لتوفير مزيد من الفعالية القتالية للقادة البحريين على نطاقات أطول وتوفير صورة واضحة لساحة المعركة البحرية.
المصدر : https://www.majalla.com/node/318496/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D9%91%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A