ماهر لطيف
تشهد تونس تزامناً مع الذكرى الثانية عشرة لثورتها أزمات مُركّبة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية، وتشهد معها الساحة السياسية كثيراً من التشظي والانقسام والجدل، فلا المؤيدون للحكم استمروا على قلب رجل واحد، ولا المعارضة واجهت تفرد الرئيس بالسلطة مُتراصة الصفوف.
ورغم توحّد مآخذ هذه المعارضة على تفرد الرئيس بالسلطة فإنها لم توفق إلى الآن على الأقل في تقديم بديل واضح أو الاتفاق على حلّ موحد بينها. في المقابل يتمسك الرئيس قيس سعيد بسياساته، بل ويتهم معارضيه بالخيانة والعمالة.
فأي مخرج من هذه الأزمة السياسية والاقتصادية المتفاقمة؟ وهل يمكن لأية مبادرة أن تنقذ البلاد من حالة الانسداد؟
مشهد اقتصادي واجتماعي متأزم وضبابية الأفق
منذ اللحظة الأولى لإعلان الرئيس قيس سعيد إقالة الحكومة وتجميد مجلس النواب وتعليق العمل بالدستور، في يوليو/تموز 2021، سارع المؤيدون لقراراته إلى التأكيد أن مستقبل تونس سيكون أفضل من ماضيها، وأن أسعار المواد الأساسية والسلع والخدمات ستنخفض كثيراً، وأن قيس سعيد سيُصحح المسار وسينشط الحياة الاقتصادية، وسينهض بالبلاد، ومن ثم تتحسن ظروف عيش التونسي، إضافة إلى تطوير الخدمات العامة المُقدمة للتونسيين والعمل على استرجاع الأموال المنهوبة ومُكافحة الفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة وقطاعاتها، والتعهد بمُحاربة الاحتكار.
ولكن يبدو أن أمل التونسيون في رسم تونس جديدة أرادها الرئيس قيس سعيد جمهورية ثالثة تقطع مع الماضي لم يتحقق، حيث ارتفع منسوب الغموض السياسي، وازدادت الخلافات بين الفرقاء السياسيين، وهو ما ألقى بظلاله على المشهد المالي والاقتصادي برُمّته، حيث ارتفع مستوى التضخم وعجز الميزان التجاري، وخفضت مؤسسات دولية تصنيف تونس الائتماني عديد المرّات ما بين سنتي 2022 و2023.
وازدادت الضغوط على القطاعين المالي والبنكي، فعجزت البنوك عن تأمين حاجيات تونس المالية وتوفير السيولة الكافية لتمويل ميزانية الدولة، والحدّ من ارتفاع مستوى الدين الداخلي وسط تحذيرات من انهيار المنظومة المالية التي بلغت أقصاها.
وبقيت مخرجات القمم التي شاركت فيها تونس حبراً على ورق، ولم تتمكن فيها من تعبئة أي مليم أو الحصول على ودائع، على عكس الدولة المصرية التي استغلت مشاركتها في عدة قمم (القمة العربية بالجزائر/ القمة العربية الصينية بالسعودية/ القمة الإفريقية بواشنطن) لتعبئة ودائع كبيرة من الدول العربية، حيث أصبحت تونس مطالبة بتعبئة حوالي 15 مليار دينار في شكل إقراض خارجي علاوة على تعبئة 9.5 مليار دينار كإقراض داخلي، وهذا أمر صعب إن لم نقل إنه مستحيل في ظلّ الأزمات الراهنة التي تتخبط فيها البلاد.
وفي صورة عدم موافقة صندوق النقد الدولي على منح قرض لتونس، فإن ذلك سيُحدث فجوة مالية كبيرة في نهاية سنة 2023، وقد تعجز الحكومات اللاحقة عن تسديدها.
تصنيف وكالة موديز
بعد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد منذ الإجراءات الاستثنائية التي أقرّها الرئيس قيس سعيد، في يوليو/تموز 2021، تعقّدت الأوضاع أكثر من السابق، بعد أن خفّضت وكالة موديز التصنيف السيادي لتونس من Caa1 إلى Caa2 مع آفاق سلبية، كما خفّضت موديز أيضاً تصنيفها للبنك المركزي التونسي المسؤول قانونياً عن المدفوعات المتعلقة بكلّ سندات الخزينة إلى Caa2 مع آفاق سلبية كذلك.
ويأتي هذا التصنيف ليعكس نتائج مراجعة ودراسة الوضعية المالية والاقتصادية لتونس وتطوراتها المتلاحقة انطلاقاً من شهر سبتمبر/أيلول 2022، ويعود هذا التخفيض أو المراجعة السلبية إلى عدّة أسباب، منها ضعف الحوكمة، والمخاطر الاجتماعية الكبيرة، وصعوبة الحصول على التمويلات المُبرمجة في إطار قانون المالية 2023، حيث برمجت الدولة التونسية قروضاً وتمويلات خارجية في حدود 14 مليار دينار وهو ما يعادل 5 مليارات دولار، لم تتمكن تونس إلى الآن من الحصول على تعهدات لا في إطار التعاون الثنائي من قبل المؤسسات المالية العالمية ولا من قبل الدول الصديقة لتلبية الحاجيات العاجلة للحكومة، وهو ما من شأنه أن يرفع مستوى مخاطر التعثر في سداد القروض الخارجية، كما أنّ عدم وضع البرنامج التمويلي لصندوق النقد حيّز النفاذ يفاقم الوضعية الصعبة للمالية العمومية ويزيد من الضغوط على احتياطي البلاد من النقد الخارجي.
والأمر الثاني في اعتقادي يتنزّل في نفس الإطار؛ وهو عدم توصل تونس إلى الآن إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض المبرمج الذي تحصّل على مُوافقة الخبراء في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ولكن لأسباب عديدة لم يُعرض على أنظار المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي للتصديق على الموافقة النهائية، بل وأُلغي ولم يبرمج إلى الآن، وهذا ما زاد من مخاوف وكالات الترقيم السيادي.
تونس وشبح الإفلاس
تقترب تونس يوماً بعد يوم من السيناريو اللبناني وقبله الفنزويلي، إذ سبق أن خفّضت وكالة موديز تصنيف لبنان في فبراير/شباط 2020 إلى درجة Caa2، لتُعلن الحكومة اللبنانية بعدها بشهر واحد تخلّفها عن سداد ديونها بعد أن بلغت احتياطات البلاد من العملة الصعبة مستويات حرجة في ظلّ انهيار مالي خطير. لذلك فإنّ تصنيف موديز مؤشر خطير يُرسل برسالة خطيرة إلى الأسواق العالمية مفادها أنّ تونس على حافة الإفلاس وأن التمويلات التي سُتقدّم لتونس مستقبلاً تُعد مُخاطرة كبيرة.
من جهة أخرى تُؤكد جميع المُؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في تونس تراجع النمو وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن التونسي في ظلّ ارتفاع نسبة التضخم بشكل مُطّرد، مع وجود مناخ مُنفّر للاستثمار، وبحسب معهد الإحصاء الحكومي ارتفعت نسبة التضخم خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى رقمين، مُسجلة 10.1% وهي أعلى نسبة سجلتها البلاد منذ نحو 40 عاماً، كما ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 14.6%.
وكشف تقرير أصدرته وزارة المالية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أنّ الدين العام ارتفع إلى أكثر من 110 مليارات دينار (حوالي 35.5 مليار دولار) وهو ما يشكل 80.2% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 79.9% في 2021. ولفت التقرير، الذي نشرته وزارة المالية على موقعها الرسمي، إلى صعود الدين الخارجي إلى مستوى 66.2 مليار دينار، ما يشكل 60%من إجمالي الدين العام، وذلك مقابل قروض داخلية بقيمة 43.9 مليار دينار[1].
موقف صندوق النقد الدولي
بعد شهور طويلة ومُضنية توصّلت تونس إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي يقضي بإقراض البلاد 1.9 مليار دولار مقسطة على 4 سنوات، غير أنّ الاتفاق النهائي تعطّل في اللحظات الأخيرة وذلك لعدّة أسباب، أوّلها عدم تعبئة تونس للموارد المالية المنصوص عليها في قانون المالية لسنة 2023 والمُقدّرة بـ5 مليارات دولار، وثانيها يتمثل في تأخر الدولة التونسية على المصادقة على بعض القوانين، خاصّة قانون رقم 9، المتعلق بإصلاح المؤسسات العمومية، أما السبب الثالث فيعود إلى عدم التوافق الوطني وموقف الاتحاد العام التونسي للشغل من برنامج الإصلاحات الذي قدمته الحكومة لصندوق النقد الدولي.
أما السبب الأخير فهو سياسي بامتياز؛ حيث إنّ صندوق النقد الدولي ينظر بعين الريبة والشك إلى المشهد السياسي التونسي بعد مسار 25 يوليو/تموز 2021، وكان ينتظر نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في دورها الثاني.
لذلك فإنّ عدم التوصل إلى الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي هو سبب لتراجع قيمة السندات التونسية، وسبب لارتفاع المخاطر المتمثلة في عدم قُدرة تونس على الإيفاء بتعهداتها الخارجية، وسبب في عزلة تونس عن المجتمع الدولي وجعلها وجهة غير مرغوب فيها في الأسواق المالية العالمية، وهذا ما سينعكس على الداخل التونسي، وسيؤثر في قدرة الدولة على توفير مستلزمات الحياة للمواطن التونسي من غذاء وأدوية ومحروقات.
لكن وبالرغم من كلّ ما قيل لا تزال هناك إمكانية للاتفاق مع صندوق النقد في اللحظات الأخيرة، وهي إمكانية مشروطة بقدرة تونس على التوافق حول حزمة الإصلاحات الضرورية في هذه المرحلة، إضافة إلى ضمان رئيس الجمهورية ومدى قدرته على تبني هذه الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد والدفاع عنها، وتنقية المناخ السياسي، لكن نسبة الإقبال الضعيفة على الانتخابات التشريعية في دوريها الأول والثاني لا تشجع المجتمع الدولي، وتسيء لصورة تونس في الخارج.
مسار سياسي متذبذب
يرى الرئيس سعيد أن مرحلة ما بعد الانتخابات التشريعية ستكون نقطة فارقة في التاريخ السياسي لتونس من خلال تشكل طبقة سياسية جديدة تضع سياسات اقتصادية واجتماعية قادرة على الاستجابة لتطلعات التونسيين، وعلى الرغم من إقراره بصعوبة الوضع الاقتصادي والاجتماعي اليوم، وهو ما أثر في نسبة الإقبال على الانتخابات التشريعية الأخيرة، فإنه يعتبر أن هذا الوضع هو نتيجة تراكمات سابقة[2].
في المُقابل تخوض المعارضة التونسية معركتها مع الرئيس بانقسام داخلي؛ فهي عاجزة عن التوافق فيما بينها لاختيار بديل عن قيس سعيد، ونحن هنا لا نتحدث فقط عن صراع داخلي بين مُكوّنات المعارضة بقدر ما نتحدث عن صراع داخل كل مكون من مكوناتها، مثل الصراع بين جبهة الخلاص (التي تضم حركة النهضة وحركة أمل وائتلاف الكرامة وحركة قلب تونس، إضافة إلى شخصيات سياسية مستقلة ومكونات أخرى)، والدستوري الحر بقيادة عبير موسي، والأحزاب المكونة للخماسي (حزب التكتل وحزب العمال والتيار الديمقراطي والحزب الجمهوري والقطب).
هذا التشرذم في صفوف المعارضة يخدم الرئيس قيس سعيد، فبقدر ما أن تونس تفتقد بديلاً سياسياً واضحاً بقدر ما يطيل هذا في عمر السلطة التنفيذية، غير أن أكبر تحد لقيس سعيد هو الوضع الاقتصادي الكارثي الذي يشكل تهديداً حقيقياً لنظامه، وإذ لم يجد له حلاً فإنه سيكون مدخلاً لإعادة تشكيل المشهد السياسي من جديد.
الراجح أن تونس مُقبلة على سنوات عجاف لا مخرج منها إلا بتضافر الجهود والتوافق حول حوار وطني شامل وتوحد جميع المكونات ضمن مشروع سياسي بامتياز يؤمن بالمفهوم الشامل للسياسة في أبعادها المتعلقة بالتأسيس للديمقراطية ومنهج إدارة الحكم وتحديد الخيارات والتوجهات، وصياغة السياسات العامة في كل المجالات، واتخاذ القرارات المناسبة والحاسمة وإنفاذها على أرض الواقع، وصار من الأكيد أن الحل السياسي في تونس أصبح حتمية تاريخية لعدّة اعتبارات وطنية وإقليمية ودولية، تتشابك عناصرها وتتفاعل ويتأثر بعضها ببعض بحكم التداخل بينها.
[1] تقرير وزارة المالية التونسية المتعلق بـ“ميزانية الدولة التونسية لسنة 2022″، بتاريخ 28/12/2022، www.finances.gov.tn
[2] حمادي معمري، الأزمة الاقتصادية في تونس تهدد مسار قيس سعيد، صحيفة إندبندنت عربية، 13/1/2023، wwww.independentarabia.com
.
رابط المصدر: