جوزيف ناي
كمبريدج ــ لا أحد يستطيع أن يجزم بسيناريو وحيد للمستقبل إلى أن يحدث، وأي محاولة لتصور المشهد السياسي في أعقاب جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) يجب أن تتضمن مجموعة من سيناريوهات المستقبل المحتملة. وأنا أقترح خمسة سيناريوهات معقولة للمستقبل في عام 2030، ولكن من الواضح أننا لا نستطيع أن نستبعد سيناريوهات أخرى.
نهاية النظام الليبرالي الخاضع للعولمة. خلق النظام العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية إطارا من المؤسسات التي أفضت إلى تحرير ملحوظ للتجارة والتمويل الدوليين. وحتى قبل جائحة كوفيد-19، كان هذا النظام يواجه تحديات تمثلت في صعود الصين وتنامي الشعبوية في الديمقراطيات الغربية. وقد استفادت الصين من هذا النظام، لكنها تصر بشكل متزايد، مع نمو ثِـقَـلِها الاستراتيجي، على وضع المعاير والقواعد. فتقاوم الولايات المتحدة، وتصاب المؤسسات بالضمور، وتتزايد المطالبات بالسيادة. وتظل الولايات المتحدة خارج منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ. وتساهم جائحة كوفيد-19 في زيادة احتمالية حدوث هذا السيناريو من خلال إضعاف “مدير النظام” الأميركي.
نشوء تحد استبدادي على غرار ثلاثينيات القرن العشرين. تعمل البطالة الجماعية، واتساع فجوة التفاوت، والارتباك المجتمعي الناجم عن التغيرات الاقتصادية المرتبطة بالجائحة على خلق ظروف مواتية للسياسات الاستبدادية. لن نجد نقصا في الانتهازيين السياسيين الراغبين في استغلال الشعبوية القومية للوصول إلى السلطة. وتتزايد حدة عداء المهاجرين وتدابير الحماية. وترتفع الرسوم الجمركية والحصص المفروضة على السلع والأشخاص، ويتحول المهاجرون واللاجئون إلى كباش فداء. وتسعى الدول الاستبدادية إلى تعزيز مجالات الاهتمام الإقليمية، وتتسبب أنماط التدخل المتعددة في زيادة خطر الصراع العنيف. كانت بعض هذه الاتجاهات واضحة قبل عام 2020، لكن ضعف احتمالات التعافي الاقتصادي، بسبب الفشل في التعامل مع جائحة كوفيد-19، يزيد من احتمالية حدوث هذا السيناريو.
نظام عالمي تهيمن عليه الصين. مع تمكن الصين من قهر الجائحة، تتغير المسافة الاقتصادية بينها وبين القوى الكبرى الأخرى بشكل كبير. يتجاوز اقتصاد الصين نظيره في الولايات المتحدة المتراجعة بحلول منتصف عشرينيات القرن الحالي، وتنجح الصين في توسيع تقدمها على المنافسين المحتملين السابقين مثل الهند والبرازيل. بزواجها الدبلوماسي القائم على المصالح مع روسيا، تصبح الصين على نحو متزايد الشريك الأكبر. وليس من المستغرب أن تطالب الصين بالاحترام والتوقير بما يتفق مع قوتها المتزايدة. وتستخدم الصين مبادرة الحزام والطريق للتأثير ليس فقط على الجيران بل وأيضا الشركاء البعيدين مثل أوروبا وأميركا اللاتينية. وتصبح تكلفة التصويت ضد الصين في المؤسسات الدولية باهظة للغاية، لأنها تعرض المساعدات أو الاستثمارات الصينية للخطر، فضلا عن القدرة على الوصول إلى السوق الأكبر في العالم. ومع ضعف الاقتصادات الغربية مقارنة بالصين بسبب الجائحة، تصبح الحكومة الصينية وشركات الصين الكبرى قادرة على إعادة تشكيل المؤسسات ووضع المعايير كما تشاء.
أجندة دولية خضراء. ليست كل سيناريوهات المستقبل سلبية. بدأ الرأي العام في العديد من الديمقراطيات يعطي أولوية أعلى لتغير المناخ والحفاظ على البيئة. وتقوم بعض الحكومات والشركات بإعادة ترتيب أمورها للتعامل مع مثل هذه القضايا. حتى قبل أزمة كوفيد-19، كان بوسع المرء أن يتنبأ بأجندة دولية لعام 2030 يحدد هيئتها تركيز البلدان على القضايا الخضراء. ومن خلال تسليط الضوء على الروابط بين صحة البشر وصحة كوكب الأرض، تعمل الجائحة على التعجيل بتبني هذه الأجندة.
على سبيل المثال، ينتبه الرأي العام في الولايات المتحدة إلى أن إنفاق 700 مليار دولار على الدفاع لم يمنع كوفيد-19 من قتل عدد من الأميركيين أكبر من كل من قتلوا في كل حروبها بعد عام 1945. وفي بيئة سياسية محلية متغيرة، يقدم رئيس أميركي “خطة مارشال للتعامل مع كوفيد-19” لتزويد البلدان الفقيرة بالقدرة على الوصول الفوري إلى اللقاحات وتعزيز قدرة أنظمة الرعاية الصحية لديها. كانت خطة مارشال لعام 1948 تصب في مصلحة أميركا الذاتية وفي ذات الوقت في مصلحة الآخرين، وكان تأثيرها عميقا في تشكيل المشهد الجيوسياسي في العقد التالي. وعززت هذه القيادة قوة الولايات المتحدة الناعمة. وبحلول عام 2030، تصبح الأجندة الخضراء سياسة محلية جيدة، في ظل تأثير جيوسياسي كبير على نحو مماثل.
المزيد من الشيء ذاته. في عام 2030، تبدو جائحة كوفيد-19 بغيضة بذات القدر الذي بدت عليه في عام 1930 جائحة الإنفلونزا الكبرى التي دامت طوال الفترة من 1918 إلى 1920، مع تأثيرات جيوسياسية محدودة مماثلة في الأمد البعيد. وتستمر الظروف السابقة. ولكن إلى جانب نمو القوة الصينية، والشعبوية المحلية والاستقطاب في الغرب، وظهور المزيد من الأنظمة الاستبدادية، تنشأ درجة من العولمة الاقتصادية والوعي المتزايد بأهمية العولمة البيئية، يدعمها إدراك على مضض بعجز أي دولة عن حل مثل هذه المشاكل بالعمل منفردة. وتتمكن الولايات المتحدة والصين من التعاون في التصدي للجائحات وتغير المناخ، حتى في حين يستمر التنافس بين الدولتين في ما يتصل بقضايا أخرى مثل القيود على الملاحة في بحر الصين الجنوبي أو بحر الصين الشرقي. ورغم محدودية الصداقة، يصبح من الممكن إدارة الخصومة. وتذبل بعض المؤسسات، ويجري إصلاح بعضها الآخر، في حين تنشأ مؤسسات جديدة مخترعة. وتظل الولايات المتحدة الدولة صاحبة القوة الأعظم في العالم، ولكن بدون الدرجة من النفوذ التي كانت تتمتع بها في الماضي.
يحظى كل من السيناريوهات الأربعة الأولى بفرصة واحدة تقريبا من عشرة لرسم صورة تقريبية للمستقبل في عام 2030. بعبارة أخرى، نجد أن احتمالات تسبب تأثير جائحة كوفيد-19 الحالية في إحداث عملية إعادة تشكيل عميقة للمشهد الجيوسياسي بحلول عام 2030 أقل من النصف. وقد تعمل عوامل عديدة على تغيير هذه الاحتمالات. على سبيل المثال، من شأن التطوير السريع للقاحات فـعّـالة وجديرة بالثقة ورخيصة، مع توزيعها على نطاق واسع دوليا، أن يعمل على تعزيز احتمالية الاستمرارية وتقليص احتمالية حدوث السيناريو الاستبدادي أو الصيني.
ولكن إذا أفضت إعادة انتخاب دونالد ترمب إلى إضعاف تحالفات أميركا والمؤسسات الدولية، أو إلحاق الضرر بالديمقراطية في الداخل، فإن احتمالية سيناريو الاستمرارية أو السيناريو الأخضر تتضاءل. من ناحية أخرى، إذا نجح الاتحاد الأوروبي، الذي أضعفته الجائحة في البداية، في تقاسم تكاليف استجابة البلدان الأعضاء، فقد يتحول إلى قوة فاعلة دولية مهمة وقادرة على تعظيم احتمالية السيناريو الأخضر.
لا يخلو الأمر من تأثيرات أخرى محتملة، وربما تنتج جائحة كوفيد-19 تغيرات محلية مهمة ترتبط بأوجه التفاوت في الرعاية الصحية والتعليم، فضلا عن تحفيز إنشاء ترتيبات مؤسسية أفضل في الاستعداد للجائحة التالية. الواقع أن تقدير التأثير البعيد الأمد للجائحة الحالية ليس من قبيل التنبؤ الدقيق بالمستقبل، لكنه ممارسة في تقييم الاحتمالات وتعديل السياسات الحالية.
رابط المصدر: