كانت نتائج صناديق الاقتراع في اليوم الانتخابي الأردني مفاجئة للجميع، وفي بعض المستويات صادمة.
كل ما سبق اليوم الانتخابي وعلى مدار عامين وأكثر كان يوحي وبشكل مباشر بأن الدولة الأردنية التي عقدت العزم على المضي قدما في الإصلاح السياسي وضعت خططها الرديفة لحماية الدستور من أي خروج عن النص. من هنا كانت عملية “هندسة الانتخابات” وكذلك “هندسة الأحزاب” متواليتين كخارطتي تنفيذ تتوازيان مع قانون أحزاب وقانون انتخابات جديدين تم تشريعهما انطلاقا من توصيات لجنة قام بتشكيلها ورعايتها الملك نفسه، لتنفيذ رؤيته الإصلاحية التي تطمح إلى خلق حالة ديمقراطية حزبية في البلاد.
في المحصلة، امتلأت شوارع المدن الأردنية وقراها وحواضرها– حتى الطريق الصحراوي غير المأهول بالسكان- بكل لافتات وصور المرشحين.
انفضت الاحتفالية المتخمة بالصور يوم العاشر من سبتمبر/أيلول، يوم الاقتراع أو “العرس الوطني” كما احتفلت به معظم وسائل الإعلام الأردنية، وكانت نسبة المقترعين 32 في المئة من مجمل من يحق لهم الاقتراع، وهي نسبة أعلى من نسبة الانتخابات السابقة التي بلغت حينها 30 في المئة تقريبا، وكانت ليلة 10-11 سبتمبر/أيلول حبلى بالمفاجآت التي حملتها النتائج الأولية التي تم اعتمادها فيما بعد كنتائج نهائية، لتحصد “الإخوان المسلمون” ممثلة بذراعها الحزبية “جبهة العمل الإسلامي” 31 مقعدا من أصل 138 مقعدا نيابيا في مجلس النواب الأردني. وهي نتيجة قوية يمكن اعتبارها أفضل نتيجة انتخابية في تاريخ حزب “جبهة العمل الإسلامي” في مجمل مشاركاته لا في حصاد المقاعد وحسب، بل في عدد الأصوات التي بلغت ما يقارب نصف مليون صوت على مستوى القائمة الحزبية العامة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تلك الأصوات هي من مجمل الـ32 في المئة من المقترعين.
كانت تلك هي المفاجأة الأولى المرتبطة بالمفاجأة الثانية تباعا وبالضرورة والتي كانت في تواضع نتائج الأحزاب السياسية التي تمت صياغة معظمها على عجل وفي غضون فترة قصيرة لكن مع “دعم رسمي” واضح لم يكن مخفيا لتهيئتها حتى تكون ندا وخصما للتيار الإسلامي التقليدي، وقد كانت التوقعات– وبعض القراءات الرقمية– توحي بأن بعض تلك الأحزاب ستحصد مقاعدها الكثيرة في المجلس بأريحية.
المفاجأة الثالثة، وهي التي يمكن ربطها كعقدة الحبل التي أنتجت كل تلك المفاجآت، كانت تكمن في مستوى النزاهة والشفافية التي تمت إدارة الانتخابات فيها على المستوى الرسمي، وهو ما ربطه كثير من المحللين بانتخابات عام 1989 في عهد الراحل الملك حسين. على الرغم من كل ما صدر من مرويات وحكايات نشرها وروج لها مرشحون “محسوبون على الدولة” بأنهم تلقوا تطمينات “رسمية” بنجاحهم، إلا أن الانتخابات جرت بشفافية كاملة بلا أي تدخلات في مرحلة الصناديق أو الفرز.
الانتخابات جرت بشفافية كاملة بلا أي تدخلات في مرحلة الصناديق أو الفرز
ماذا حدث فعليا؟
نعم، لم تتدخل الأجهزة– كما في انتخابات سابقة تم الإقرار في الماضي بالتلاعب بها- وكانت حدود التدخل لا تتجاوز دعما “ماليا ومعنويا” للأحزاب الناشئة، أو توجيها “ضمنيا غير معلن” لكتل من الأصوات نحو مرشحين معينين، إلا أن تخريب التجربة الحزبية الجديدة كان من داخل “البيت الحزبي” نفسه، بالإضافة إلى تحول المزاج العام عموما على إيقاع تداعيات الحرب على غزة، والتي وظفها التيار الإسلامي خطابيا لاستقطاب مؤيدين له، ليس بالضرورة أن يكونوا جزءا من التيار الإسلامي نفسه.
التخريب الداخلي كان في نقص منسوب الوعي بالتجربة الحزبية حتى لدى المرشحين الحزبيين أنفسهم، وكثير من المرشحين قاموا بتوجيه قواعدهم الشعبية نحو التصويت في القوائم المحلية مع تعليمات بإهمال القائمة الحزبية، وهو ما أهدر كثيرا من الأصوات لصالح أصوات يتم ضخها لصالح “جبهة العمل الإسلامي” الذي عملت كوادره بهندسة انتخابية مضبوطة على الولاء للحزب مع كافة شرائح قواعده الجماهيرية، إلى حد أن المفارقة بلغت أشدها في أن حزب “جبهة العمل الإسلامي” حصد أحد مقاعد الكوتة المسيحية عبر مرشح مسيحي كان في قوائم الحزب “الإخواني”.
بعيدا عن التكهنات، فإن نجاح “الإخوان المسلمين” ليس خبرا سارا على الصعيد السياسي ليس محليا وحسب، بل وإقليميا ودوليا أيضا، يمكن ببراعة وببعض الحيلة أن يتحول الأمر إلى انتصار لنزاهة الدولة ومصداقيتها، لكن الأعمق في التحليل يعكس انزعاجا وحرجا في سياق تحولات إقليمية ودولية عاصفة ومحيطة بالأردن وتحاصره.
النزاهة والمصداقية كانتصار يمكن ترويجهما لدى الجانب الأوروبي لكن في واشنطن التي رشحت مصادر أن الملك عبدالله الثاني سيزورها في الفترة المقبلة، فإن التساؤلات ستكون على صيغة: ما هو شكل الحكومة الجديدة التي ستواجه مجلس نواب فيه هذا العدد من مقاعد تيار قريب من “حماس” ورافض للحلول السلمية ومناهض بالمبدأ لأي تسويات سلمية، وقد خدمته حرب رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الوحشية على غزة في خطابه الذي اختصره بشعاراته الانتخابية “نعم للمقاومة لا للمساومة”.
“مهندسو الانتخابات” والأحزاب كما الأحزاب مطالبون بتقديم تفسيرات لحجم التوقعات المسبقة التي تم ضخها في الرأي العام، وكيف كانت التوقعات بعيدة عن الواقع الذي أنتجته الصناديق وعملية الاقتراع.
التخريب الداخلي كان في نقص الوعي بالتجربة الحزبية حتى لدى المرشحين الحزبيين، وكثير من المرشحين قاموا بتوجيه قواعدهم الشعبية نحو التصويت للقوائم المحلية مع تعليمات بإهمال القائمة الحزبية
وماذا بعد؟
وكعادة الأردنيين في مواسم كتلك، فإن ماكينة بورصة الأسماء المرشحة لخلافة الدكتور بشر الخصاونة بدأت بالعمل ونشر الأسماء التي غالبا ما تكون مبنية على الأمنيات والتمنيات، مع حضور واسع لسيناريو إعادة التكليف أو التمديد لحكومة الدكتور بشر الخصاونة، والذي التقيته نهاية يوليو/تموز الماضي في مكتبه وسألته مباشرة عن خيارات ما بعد حكومته وإشاعة التمديد لها، فأجابني– حينها- أنه لو كان سيقدم المشورة لجلالة الملك فإنه سينصح مخلصا بأن تكون بداية ما بعد الانتخابات بداية جديدة بوجوه شابة جديدة، مؤكدا أن حكومته أنجزت ما تم تكليفها به في كتاب تكليفها، وأنها الحكومة الأطول عمرا في عهد الملك عبدالله الثاني.
وربما على كثير من المسؤولين في الدولة الأردنية تفسير وتبرير عمليات “التبني” غير المفهومة لشخصيات معينة “تمت ترقيتها سياسيا” مؤخرا، ويبدو أنها لا ترتقي للرؤية الإصلاحية وكان حضورها تحت مظلة الرعاية الرسمية الشديدة سببا في جرح مصداقية الأحزاب الناشئة وشخوصها من مؤمنين حقيقيين بالإصلاح الذي يريده الملك.
سيدة أردنية تدلي بصوتها في الانتخابات البرلمانية في مركز اقتراع في الفحيص بالقرب من العاصمة عمّان في 10 سبتمبر 2024
البورصة هذه الأيام تحمل أسماء كما ذكرنا محمولة على التمنيات، لكن التحليل الواقعي ينبئ بأن رئيس الحكومة– أيا كان شخصه أو شخصها- يجب أن يكون قادرا على فرد التفاهمات السياسية مع مجلس النواب الجديد دون تراخٍ أمام التحديات الإقليمية الخطيرة التي تحيط بالأردن، وذا ملاءة بالمعرفة الاقتصادية الكافية لتشكيل فريق اقتصادي حقيقي قادر على تخفيف وطأة العجز الاقتصادي الذي صار يلامس حدود الأمن الاجتماعي في الأردن.
القراءات في صالونات عمّان صارت تتحدث بجرأة وعلنا عن ضرورة إجراء التغييرات الجراحية الواسعة في مجمل طوابق الدولة الأردنية، للخروج من الأزمات العنقودية التي تتوالد بتسارع.
رؤية الملك الإصلاحية حقيقية وينادي بها منذ زمن طويل وقد وثقها هو بنفسه وقلمه في أوراق نقاشية مطروحة للعموم، لكن تطبيقها واجهه كثيرا من التحديات والمعوقات من داخل الدولة الأردنية المليئة بالتشابكات التي راكمتها التعقيدات في المشهد السياسي، وتضخم البيروقراط المحافظ أمام تمدد التكنوقراط المتسرع بالانفتاح، واختفاء حقيقي لطبقة السياسيين المرنين الذين يتحركون في كل الاتجاهات والقادرين على اجتراح الفكرة.