مقدمة
شكَّلت عملية طوفان الأقصى التي شنَّتها حركة حماس، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، صدمة كبيرة في إسرائيل. لم تنحصر الصدمة في الجانب الأمني والإخفاق العسكري، بل تجاوزت ذلك إلى كافة أجهزة الدولة والمجتمع الإسرائيلي برمته. وقد أدخلت العملية أجهزة الدولة والمجتمع في حالة من اختلال التوازن لم تعهده إسرائيل، حتى في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.
ترى هذه الورقة أنه سيكون لعملية طوفان الأقصى تداعيات عميقة على المجتمع الإسرائيلي عمومًا وعلى المشهد السياسي والعسكري على وجه الخصوص، وهو ما تبني عليه نقاشها.
تأطير الهجمات إسرائيليًّا
أخذت عملية طوفان الأقصى تأطيرات كثيرة في الخطاب الإسرائيلي، وتُمثل هذه التأطيرات حجم الصدمة التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي، وقد تباينت فيما بينها، فمنها ما اعتبر الهجمات تشبه هجمات 11 سبتمبر/أيلول على الولايات المتحدة، ومنها ما اعتبر الإخفاق العسكري والسياسي شبيهًا بالإخفاق في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وهناك من رأى فيها استمرارًا للكارثة اليهودية (الهولوكوست) من خلال وصف العملية بأنها أكبر “بوغروم” أي اعتداءات جماعية على اليهود منذ “الكارثة اليهودية”، واصفين حماس بالنازية. ويرى أوري بار- يوسف، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة حيفا، والذي ألَّف كتبًا عن حرب 1973، أن الإخفاق في 7 أكتوبر/تشرين الأول أكبر بكثير من عام 1973، ففي حرب أكتوبر/تشرين الأول كانت جهوزية الجيش ومستواه عاليًا، في حين أن الإخفاق الحالي ينمُّ عن فشل عسكري وسياسي كبيرين للقيادتين العسكرية والسياسية معًا. كما يشير بار-يوسف إلى أن الإخفاق عام 1973 كان إخفاقًا فرديًّا لبعض المسؤولين السياسيين والعسكريين، في حين أن الإخفاق في أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان إخفاقًا مؤسساتيًّا أصاب المؤسسة العسكرية والسياسية(1).
تعبِّر هذه التأطيرات حول هجمات “طوفان الأقصى” عن حالة “الصدمة” وتنعكس في عملية إنتاج الوعي والذاكرة في المجتمع الإسرائيلي، الذي يميل الآن إلى توصيف الحدث بأنه جزء من الكارثة اليهودية، وأن المهاجمين إما نازيون أو دواعش، وأن ما حدث هو أكبر كارثة أصابت المجتمع اليهودي منذ الكارثة اليهودية. يثير هذا التوصيف والتأطير للحدث موجة من المواقف المتطرفة داخل المجتمع الإسرائيلي تجاه قطاع غزة وليس حركة حماس فقط، فقد انتشرت عبارات مثل “يجب محو غزة” أو “تسويتها في الأرض”، دون استعداد لقبول أي نوع من المساواة بين القتلى الإسرائيليين المدنيين والقتلى الفلسطينيين المدنيين، وتفسر هذه الصدمة التجنيد الكبير في المجتمع الإسرائيلي، والتأييد الشامل لعملية عسكرية إسرائيلية قاسية في القطاع سواء من الجو أو من خلال دعم عملية برية للقضاء على حكم حركة حماس في قطاع غزة.
المشهد السياسي: نهاية عهد وبداية جديد
لم يحدث في إسرائيل أن ظهر تيار يطالب رئيس حكومة بالاستقالة خلال حرب. فحتى في خضم الإخفاق في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، لم يطالب أحد رئيسة الحكومة، غولدا مائير، ووزير الدفاع، موشيه ديان، بالاستقالة. أما راهنًا فهناك جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي يطالب نتنياهو بتحمل مسؤولية الإخفاق والاستقالة فورًا وعدم انتظار انتهاء الحرب لمحاسبة المسؤولين عن الإخفاق. ورغم إعلان قادة الأجهزة الأمنية في إسرائيل عن تحملهم المسؤولية منذ العملية في غلاف غزة، بقي نتنياهو مصرًّا على عدم إعلان مسؤوليته عن الإخفاق(2)، وهي ليست أول مرة يرفض فيها نتنياهو تحمل المسؤولية عن إخفاقات سابقة له خلال توليه رئاسة الحكومة، وهو ما اعتبره بعض المحللين الإسرائيليين نرجسية سياسية ونمطًا من إرجاع النجاحات لنفسه والإخفاقات لغيره.
استطاع نتنياهو أن ينجو سياسيًّا من كل الإخفاقات والعقبات التي واجهها في مسيرته السياسية، حتى استطاع أن يكون رئيس الحكومة الأكثر حكمًا بعد أن تجاوزت سنوات حكمه مؤسس دولة إسرائيل، ديفيد بن غوريون؛ فقد نجا سياسيًّا من تحريضه على رئيس الحكومة السابق، إسحاق رابين، عشية اغتياله (1995)، مرورًا بحادثة فتح النفق في القدس عام 1998، وانتهاء بلوائح الاتهام ضده وعددها أربع بتهم الفساد والرشاوى وخيانة الأمانة. ولكن هذا الإخفاق سيكون نهاية عهد نتنياهو في المشهد السياسي، ولن يستطيع هذه المرة الإفلات من “المحاسبة” على هذا الإخفاق بعد انتهاء الحرب. سيحاول نتنياهو كعادته العمل على تشكيل لجنة تحقيق رسمية، ورفض الاستقالة قبل نشر نتائج لجنة التحقيق التي قد تستمر سنوات، لكن الغضب الشعبي والضغط عليه بعد الحرب لن يكون سهلًا، فقد بدأت بوادر تمرد داخل حزب الليكود ضده.
في استطلاع أُجري بعد الإخفاق الأخير حول تأييد الجمهور الإسرائيلي للأحزاب الإسرائيلية، بيَّن انهيار حزب الليكود وصعود المعسكر الرسمي برئاسة بيني غانتس؛ حيث ستحصل المعارضة على 79 مقعدًا، فيما ستحصل قوائم الائتلاف الحكومي على 42 مقعدًا. ويبين الاستطلاع أن المعسكر الرسمي سيحصل على 41 مقعدًا، في حين سيحصل الليكود على 19 مقعدًا فقط، وسيحصل حزب “يوجد مستقبل” برئاسة رئيس المعارضة، يائير لبيد، على 15 مقعدًا، و”إسرائيل بيتنا” برئاسة أفيغدور ليبرمان على 6 مقاعد، وحركة ميرتس 6 مقاعد، ويهدوت هتوراة 7 مقاعد، وحركة شاس 7 مقاعد، وعظمة يهودية برئاسة إيتمار بن غفير 5 مقاعد، والصهيونية الدينية برئاسة بتسلئيل سموتريش 5 مقاعد، والقائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس 5 مقاعد، والجبهة العربية للتغيير 5 مقاعد(3). بالإضافة إلى ذلك، أشار 48% إلى أنهم يريدون غانتس رئيسًا للحكومة مقابل 29% يريدون نتنياهو.
وفي استطلاع آخر أُجري بعد اندلاع الحرب بأسبوعين تقريبًا، أشار 80% إلى أن على نتنياهو تحمل المسؤولية عن الإخفاق كما فعل قادة الأجهزة الأمنية، وحتى في صفوف مصوتي الليكود فقد أشار 69% منهم إلى أن على نتنياهو تحمل مسؤولية ما حدث(4). علاوة على ذلك، يشير أغلب الجمهور الإسرائيلي إلى أن رئيس المعسكر الرسمي، بيني غانتس، أكثر ملاءمة لرئاسة الحكومة من نتنياهو (48% مقابل 28% على التوالي)، وهي المرة الأولى التي يتفوق فيها سياسي إسرائيلي على نتنياهو بملاءمته لرئاسة الحكومة منذ 15 سنة على الأقل.
في نفس السياق، فقد أشار استطلاعان لصحيفة معاريف إلى تراجع تمثيل قوائم الائتلاف الحكومي بشكل كبير من 64 مقعدًا إلى 43 مقعدًا في حالة جرت انتخابات للكنيست، في حين ستحصل قوائم المعارضة على 77 مقعدًا، منها 40 مقعدًا سيحصل عليها المعسكر الرسمي وحده. تشير هذه النتائج أن المعسكر الرسمي برئاسة غانتس الذي دخل إلى حكومة الطوارئ، بات يعتبر “المنقذ” لدولة إسرائيل في المرحلة القادمة. لذلك لن يستطيع نتنياهو في حال “نجحت” إسرائيل في تحقيق أهداف الحرب الادعاء أنه صاحب هذا النجاح، فالكل يعلم أن حكومته كانت فاشلة، ليس فقط لأنها كانت مسؤولة عن الإخفاق العسكري والأمني، بل سيظهر عجز الوزارات الحكومية عن تلبية احتياجات السكان خلال الحرب، فقد كشفت الحرب عن ضعف الوزارات وعجزها عن تقديم الخدمات للناس في كافة المجالات.
المشهد العسكري: حملة عسكرية بدون أهداف سياسية واضحة
أدت عملية طوفان الأقصى إلى رفع سقف الأهداف العسكرية من الحرب؛ حيث أعلن القادة الإسرائيليون، سياسيون وعسكريون، أن الهدف هو “إسقاط حكم حماس”، ومنهم من يستعمل مفردة “تدمير” حركة حماس، أو “القضاء” على حركة حماس. هذه أول مرة تعلن إسرائيل أن الهدف من الحرب هو “إسقاط حركة حماس”، ففي المواجهات التي حدثت بين حماس وإسرائيل، منذ العام 2008 وحتى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تضع إسرائيل هذا الهدف ضمن عملياتها العسكرية، بل كانت تنحصر الأهداف في تدمير القدرات العسكرية للحركة، أو ردعها وكسب مزيد من الأمن والهدوء على الحدود الجنوبية.
ينسجم المشهد السياسي مع المشهد العسكري فيما يتعلق بمسؤولية نتنياهو عن الإخفاق. ففي إسرائيل هناك اتهام لنتنياهو بأنه كرَّس استراتيجية إسرائيلية في التعامل مع حركة حماس خلال سنوات حكمه (2009- 2023 باستثناء عام حكومة التغيير) تقوم على عدم حسم الصراع مع حماس، والحفاظ على الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، وحتى الحفاظ على حكم حماس وردعها دون حسم الصراع معها. ويعتبر الإسرائيليون أن هذه الاستراتيجية فشلت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ويحمِّلون نتنياهو المسؤولية عن تكريس هذه الإستراتيجية(5).
يُجمع الخبراء الإسرائيليون على أن رفع سقف أهداف الحرب يتطلب عملية برية واسعة في قطاع غزة، ويطلق عليها الجيش الإسرائيلي اسم “مناورة عسكرية”. وربما يشير هذا الاسم إلى أن الهدف هو اجتياح القطاع ومن ثم الخروج منه بعد “تحقيق الهدف” من الحرب، ولكن تحقيق الهدف العسكري من الحرب يواجه تحديات ليست بالقليلة، منها:
أولًا: تحقيق هدف القضاء على حكم حماس في قطاع غزة يتطلب عملية برية طويلة، وهذا الأمر قد يؤدي إلى دفع ثمن كبير من الخسائر البشرية والاقتصادية، وغير معروف مدى جاهزية المجتمع الإسرائيلي، رغم حالة التعبئة الكبيرة، لتحمل تكاليف الحرب من حيث الخسائر في صفوف الجيش. ففي حرب لبنان الأولى 1982، خرجت إسرائيل إلى الحرب واجتاحت لبنان مع إجماع إسرائيلي كبير، وبدأ هذا الإجماع بالتصدع كلما طالت الحرب مع ما رافقها من خسائر للجيش الإسرائيلي، فضلًا عن أن جهوزية الجيش الإسرائيلي لتحقيق هذا الهدف غير كافية، فقد صرَّح مسؤولون أميركيون بأنهم قلقون من الخطط الإسرائيلية لاجتياح قطاع غزة، وغير واثقين من قدرة إسرائيل على تحقيق أهداف الحرب(6).
ثانيًا: إطالة الحرب تحمل تكاليف اقتصادية عالية جدًّا، من الصعب معرفة قدرة الاقتصاد والمجتمع الإسرائيليين على تحمل عواقبها، فحسب المصادر الإسرائيلية فإن تكاليف رواتب جنود الاحتياط المتوقعة ستصل حوالي 5-10 مليارات شيكل، وهو بند واحد من ميزانية الحرب الإسرائيلية(7)، والتي تشمل تعويضات وإعادة بناء، وإيواء الإسرائيليين الذي تم إخلاؤهم من بيوتهم والتي وصلت نسبتهم 2% من مجموع سكان إسرائيل. وقد نشرت تقديرات أن معدل النمو الإسرائيلي سوف يتراجع على عكس التوقعات، فضلًا عن انخفاض قيمة الشيكل مقابل الدولار، والتي وصلت لحدها الأدنى منذ حوالي 40 عامًا.
ثالثًا: قضية “الأسرى والمحتجزين”. عدَّل نتنياهو في خطابه، يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في أهداف الحرب وأضاف موضوع “الأسرى والمحتجزين” كهدف ثان للحرب الإسرائيلية. هذا الأمر لم يكن قائمًا ضمن أهداف الحرب في بدايتها(8)، ولكن إطلاق سراح أربع محتجزات في الفترة الأخيرة وتعاظم موضوع “المحتجزين والأسرى” في الشارع الإسرائيلي والضغط الشعبي على الحكومة لحل هذه القضية، أجبر الحكومة على إدراجه ضمن أهداف الحرب رغم محاولتها في البداية تحييد هذه المسألة. قد يشكِّل إدراج موضوع الأسرى والرهائن عائقًا أمام تحقيق أهداف الحرب الأساسية، فيرى خبراء إسرائيليون أنه لا يمكن تحرير “الأسرى والمحتجزين” من خلال عمل عسكري أو عملية برية، وأن إطلاق سراحهم يتم من خلال مسار مفاوضات يشمل تبادل أسرى، وهذا المسار لن يكون إلا مع حركة حماس من خلال وساطة مصرية وقطرية.
رابعًا: تعاظم الضغط الدولي والإقليمي على إسرائيل مع استمرار تفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع، وما يرافقها من تصاعد الاحتجاج الشعبي في العالم، وهو أمر قد يجعل مساحة الدعم الغربي لإسرائيل للاستمرار في حربها تتقلص، فضلًا عن أن الموقف العربي سيزيد من ضغطه على الدول الداعمة لإسرائيل كلما ازدادت الاحتجاجات في الشارع العربي.
خامسًا: المخاطرة باندلاع جبهات عسكرية أخرى، خاصة مع حزب الله في لبنان، وهو أمر تحاول إسرائيل تفاديه، ولكن قد يتفاقم الاحتكاك بين الطرفين ويتحول إلى حرب واسعة على الجبهة الشمالية، مما قد يُغير اعتبارات الحرب وأهدافها كليًّا.
سيناريوهات الحرب على غزة
يمكن الإشارة إلى سيناريوهين اثنين مركزيين حول الحرب على غزة بالنسبة لإسرائيل. يتعلق السيناريو الأول بتنفيذ عملية برية واسعة من أجل تحقيق الهدف الذي وضعته إسرائيل وهو “إسقاط حكم” حماس و”القضاء” على قدراتها العسكرية والانسحاب من قطاع غزة. يواجه هذا السيناريو عقبات وتحديات كثيرة، منها: سير الحرب وطول مدتها، والخسائر التي قد تلحق بالجيش وبداية ظهور تصدع في الإجماع على الحرب بسبب الخسائر وتعاظم الضغط الدولي لوقفها، وزيادة الضغط الإقليمي بسبب الاحتجاجات الشعبية. علاوة على ذلك، فإن إسرائيل لا تملك تصورًا للوضع السياسي بعد انتهاء الحرب على غزة، و”القضاء” على حكم حماس لو تم لها ذلك، وهو أمر تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل بشأنه، أي ليكون لديها تصور سياسي محدد لمرحلة ما بعد الحرب.
أما السيناريو الثاني فيتعلق بتنفيذ عملية برية تهدف إلى ضرب القدرات العسكرية لحركة حماس دون النجاح في تقويض “حكمها” في قطاع غزة. وهذا السيناريو يواجه أيضًا تحديات عدة، منها أنه سيكون من الصعب على إسرائيل التراجع عن أهداف الحرب بعد أن رفعت سقفها، لأنها ستُعتبر خسارة إستراتيجية لها وتهديدًا لمكانتها وانهيارًا لقوة ردعها، فضلًا عن تداعياتها السياسية الداخلية على مستوى الثقة بين الجمهور والجيش والحكومة.
خاتمة
سوف تبدأ إسرائيل عمليتها البرية بهدف القضاء على حركة حماس كما صرحت بذلك. لن تهتم إسرائيل بالأفق السياسي لأهداف الحرب، فما يُحركها هو الانتقام وتدفيع قطاع غزة ثمنًا باهظًا، وهي تترك الأفق السياسي للدور الأميركي مع قيود إسرائيلية تتعلق بالتسوية مع السلطة الفلسطينية. تتوقع الورقة حدوث تصدع في الإجماع الإسرائيلي مع مرور الوقت، خاصة أن قضية “الأسرى والمحتجزين” تأخذ منحى مختلفًا ومركزيًّا في المجتمع الإسرائيلي في الأيام الأخيرة، كما أن التصدع قد يحدث بسبب إمكانية دفع الجيش الإسرائيلي أثمانًا باهظة للحرب فضلًا عن التداعيات الاقتصادية التي تتفاقم يومًا بعد يوم في إسرائيل.
المصدر:
https://studies.aljazeera.net/ar/article/5772