حيدر الحيدر الاجودي
تشهد منطقة الشرق الأوسط تطورات سياسية ودبلوماسية متسارعة مع مسار مصالحات وتهدئة للتوترات بين الخصوم الإقليميين، ما يضع المنطقة أمام احتمالات جديدة، فالثبات في السياسة جمود والجمود معيق للتطور، والتفكير خارج الصندوق على مشقته نافع حين تجتمع معه الرؤية والإرادة، وقد مرت منطقة الشرق الأوسط بعقودٍ من الزمن تصارعت فيه المحاور والعالم يراقب ولا يتدخل إلا بقدر ما يحفظ التوازن بين تلك المحاور دون حلول خلاقةٍ أو اختراقاتٍ مهمة.
فمنذ عامين ورياح التصالح لا تهدأ في منطقة الشرق الأوسط، مع خطوات التقارب والتطورات السياسية والدبلوماسية المتسارعة في مسار المصالحات وتهدئة التوترات بين مختلف القوى المتنازعة، خاصة بعد أن وجدت دول المنطقة نفسها مضطرة للتقارب أكثر، والنظر بجدية للمستقبل في ظل انقسام دولي غير معهود منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتحوّلات دولية عميقة أعادت ترتيب المصالح السياسية وسقوفها.
لا حديث اليوم كالحديث عن الاتفاق السعودي – الإيراني الذي جرى توقيعه بوساطة صينية في بكين، وجاء بعد عامين من جولات التفاوض الشاقة بين الطرفين في بغداد ومسقط، شكّل هذا الاتفاق تحوّلاً تاريخياً ومفاجئاً لكل السياسيين والمراقبين، فيما عجزت عن فعله القوى الغربية حيال الأزمة الأكثر تعقيداً في المنطقة، واستطاعت الصين ان تحقق اختراق دولي حقيقي لهذه الأزمة كراعية وضامنة لهذا الاتفاق.
وليس غريباً الانخراط الصيني في ملف مصالحات الشرق الاوسط، فهي تتمتع بعلاقات متميزة مع كل الاطراف وأيضاً تسعى لحماية مصالحها الاقتصادية الكبيرة في المنطقة وتوسيع خارطة نفوذها كقوة دولية مؤثرة، وكما تعتبر بكين هذه المصالحات دعوة لايقاظ إدارة بايدن، لأنها تكشف عن شلل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، مقابل محاولة الصين تقديم نفسها كقوة لتحقيق السلام، وهي عباءة تخلت عنها الولايات المتحدة إلى حد كبير في السنوات الأخيرة.
فقد بدا واضحا أن سقوط مشاريع جماعات الإسلام السياسي في المنطقة ساعد في توجيه بوصلة معظم القادة العرب إلى العمل على تصفير المشاكل وإعادة تنظيم فوضى تراكمات الربيع العربي. واستعادة إدارة زمام الأمور في المنطقة وإعادة ترتيب الوضع بما يخدم المصالح العربية مرتبط أساسا بملف سوريا وهو أعقد الملفات بسبب أن الساحة كانت مفتوحة لتدخلات واسعة أبرزها الأميركي والتركي والروسي وكلها تدخلات تقف على طرف نقيض من أطراف الأزمة.
وتعزز هذا الاتجاه وبدا جليا حين توصلت إيران والسعودية لاتفاق تم بموجبه استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة استمرت نحو سبع سنوات في خطوة باركتها الولايات المتحدة بحذر وهي التي ترتبط بتحالف استراتيجي مع المملكة السعودية لكن العلاقات بينهما مرت على مدى عقود بتقلبات وتوترات في حين تناصب واشنطن طهران العداء وتفرض عليها عقوبات اقتصادية قاسية وفي الوقت ذاته تعمل على احتواء أنشطتها النووية من خلال مفاوضات لإحياء الاتفاق النووي للعام 2015 الذي انسحب منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 2018.
في ظاهرها، تبدو حركة التصالح والتهدئة في الشرق الاوسط وكأنها تقود المنطقة إلى مرحلة جديدة من التهدئة والسلم ونظام مستقر للعلاقات بين الدول، بعد عشرية طويلة ومؤلمة من الصراع والحروب الأهلية، وخصوصا اذا ما علمنا سلسلة المصالحات تشمل القوى الرئيسة في المنطقة، مثل تركيا والسعودية وإيران ومصر! ولكن المشكلة حتى الآن، على الأقل، أن حركة التصالح، وإن أسهمت في التهدئة النسبية وتخفيف حدة التوتر، لم ينجم عنها متغيرات ملموسة في طبيعة ملفات الخلافات الشائكة، التي تقع في أصل قضايا التدافع والصراع.
صحيح أن الحملات الإعلامية بين مصر وتركيا، والإمارات وتركيا، تراجعت إلى حدٍّ كبير، وأن ليبيا تجنَّبت، حتى الآن، التصعيد واندلاع جولة أخرى من الحرب الأهلية، وأن الإمارات تبدو جادة في تعزيز علاقات الاستثمار والتجارة مع تركيا. ولكن الصحيح أيضا، أن الانقسام الليبي لم يتراجع في حدته وتباعد مواقف أطرافه، ليس ثمة مؤشر بعد على أن مصر ستذهب إلى ترسيم الحدود البحرية مع تركيا في شرق البحر المتوسط، بالرغم من أن هذا الترسيم يصب في صالح مصر (إلا إن كان هناك مستوى خافيا من المباحثات المستمرة ببطء بين البلدين). كما لم تظهر القاهرة أي تراجع عما يشبه العلاقة التحالفية التي أقامتها مع اليونان وقبرص اليونانية، والموجهة في أصلها ضد تركيا.
وبالرغم من أن الحوار الإيراني-السعودي قطع شوطا بعيدا، لم تتوقف الهجمات الحوثية الجوية على أهداف سعودية، ولا غارات التحالف العربي على الأهداف الحوثية في اليمن، ولا تراجع عنف الحرب في مناطق الاشتباك اليمنية بين قوات الحوثيين وقوات الجيش الوطني. وبالنظر إلى الصعوبة البالغة التي أحاطت بتشكيل الحكومة اللبنانية، وهشاشة الوضع الأمني اللبناني الداخلي، والتوتر البالغ الذي ولَّدته نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية، فليس من الواضح ما إن كانت جلسات الحوار الإيراني-السعودي قد حققت شيئا من التوافق.
ما لا يقل أهمية عن ذلك كله أن مناخ المصالحة لم يترك أثرا يُذكر على المسائل المتعلقة بالشعوب ذاتها، التي كانت الخاسر الأول لعشرات السنوات من الصراع والتدافع، الأنظمة التي واجهت شعوبها بالعنف، وبدعم من حلفاء إقليميين تزداد عنفا، والأنظمة التي سيطرت على الحكم بقوة السلاح تزداد قمعا وتحكما، والحروب الأهلية التي أشعلتها خلافات الحلفاء لم ينطفئ لهيبها. وحتى تونس، التي نُظر إليها دائما باعتبارها آخر ديمقراطيات حركة الثورة العربية، لم تلبث أن شهدت تراجعا فادحا في نظامها الديمقراطي ومنظومة الحقوق والحريات التي كفلها دستور الثورة التونسية.
طوال السنوات العشرة الماضية، أثقل صراع المحاور والقوى في الشرق الاوسط كاهل الدول والشعوب، موديا بأرواح عشرات الآلاف من الأبرياء، وهدر الثروات، وإضاعة سنوات من فرص التنمية والإصلاح. انفرط خلالها عقد المنظمات العربية الإقليمية، مثل الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، ولا تستطيع التدخل بأية صورة ملموسة لمساعدة الشعوب والدول على التعامل مع أزماتها الداخلية أو خلافاتها البينية.
طوال عشر سنوات، لم يُسجل لدولة واحدة في الشرق الاوسط جهد حقيقي لمحاولة احتواء الخلافات، وتخفيف حدة التوتر الإقليمي، أو تجنب الخسائر الباهظة للصراع والتدافع. ولكن، فجأة، وبدون سابق إنذار، أخذت رياح التصالح تهب على المنطقة. تراجعت لغة الشيطنة والعداء والخصومة والإهانات الشخصية الرخيصة إلى حدٍّ كبير، أو تلاشت وعادت علاقات ثنائية إلى طبيعتها في لحظة عناق واحدة لقادة الدول.
ربما ادرك قادة دول الشرق الاوسط أن إنجاز المصالحات الإقليمية يعود إلى إنهاك الأطراف الإقليمية من الصراعات المعقدة التي استنزفت قدرات الجميع، وأنتجت معادلة لا غالب ولا مغلوب، وعكست الحاجة إلى الحفاظ على وحدة الدول العربية وتماسكها والحفاظ على سلامتها الإقليمية، وبالتالي فإن المصالحات الإقليمية ستزيد من فرص التعاون التنموي وخلق مساحات للقواسم المشتركة والحد من التنافس الدولي والإقليمي في المنطقة بدءاً بالانفتاح العربي على سوريا، وجهود إنهاء الأزمة اليمنية، وعودة العلاقات العربية التركية لطبيعتها، وليس آخرها الاتفاق السعودي الإيراني، كلها مؤشرات على نزع فتيل الأزمات، وتصفير المشكلات، وتعزيز التعايش والأمن المشترك، وتعظيم فرص التطور والتنمية والرخاء.
أخيراً، صناعة الأمل والمستقبل تبدو مهمة شاقة في منطقة أدمنت الصراعات، ولكنها ليست مهمة مستحيلة بحال. هذه التسويات والمصالحات والاتفاقات ليست وليدة الساعة ولم تحدث بين عشية وضحاها، بل هي عملٌ متقنٌ ودراسات مستفيضة ومفاوضات ليست باليسيرة، فيها كثير من التفاصيل والتعقيدات والتشابكات التي استمر النقاش حولها شهوراً، وربما سنين عدداً، حتى وصلت إلى هذه اللحظة التاريخية في منطقة سيطرت عليها الصراعات طويلاً وألهتها عن الأخذ بأسباب التقدم والرقي.
.
رابط المصدر: