مقدمة:
انتهت قمة مجلس التعاون الخليجي الحادية والأربعون، التي عُقدت في مدينة العلا بالمملكة العربية السعودية في الخامس من يناير 2012م، بإعلان المصالحة والعودة الكاملة للعلاقات الدبلوماسية بين قطر ودول المقاطعة الأربع[1]، وجاءت هذه المصالحة بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة على الأزمة الخليجية التي أدت إلى مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر وحصارها لقطر.
شارك في التوقيع على بيان القمة الخليجية الحادية والأربعين كلٌ من أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الجابر المبارك الصباح، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد، ونائب رئيس الإمارات الشيخ محمد بن راشد، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وولي العهد البحريني الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ونائب رئيس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء بسلطنة عمان فهد بن محمود آل سعيد، ووزير الخارجية المصري سامح شكري.[2]
يرى بعض المحللين أنه من المبكر الحديث عن أن ما جرى في قمة العلا سينتج عنه مصالحة خليجية بمفهومها الشامل بين دول مجلس التعاون الخليجي؛ ويصف البعض الأخر اتفاق العلا بانه جرى بين الدوحة والرياض فقط، وهو أقرب الى ما يسمى اتفاق سعودي- قطري، وهو ما تتواجد عليه بالفعل الكثير من الدلائل.
وفي المقابل يرى آخرون أن اتفاقية العلا ستكون نهاية للأزمة الخليجية بشكل دائم، والقرار الإماراتي بإعادة فتح كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية مع قطر[3]، بعد القرار السعودي المشابه والذي تلاه أيضاً القرار البحريني والقرار المصري دليل على هذا.[4]
فماذا عن قمة العلا؟ وماذا كان الدافع لإبرام تلك المصالحة بعد ثلاث سنوات ونصف من القطيعة وتوتر العلاقات؟ وما هي الأطراف التي دفعت لإبرام المصالحة؟ هل تحقق الاتفاق بالفعل بضغط أمريكي قوي من إدارة ترامب؟ أم أن هناك دوافع أخرى لبعض دول المنطقة؟ ولماذا تم الاتفاق في هذا التوقيت وبشكل مفاجئ بعد محاولات كثيرة للتوصل لهكذا اتفاق دون نتيجة تذكر، أخرها منذ شهر واحد فقط؟ هذه الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عنها من خلال هذه الورقة بتحليل دوافع الأطراف المختلفة للتوصل إلى هذا الاتفاق.
أولاً: دوافع الإدارة الأمريكية من المصالحة الخليجية:
تتجلى دوافع إدارة ترامب لتحقيق المصالحة الخليجية في هذا التوقيت بالتحديد في التالي:
الدافع الأول:
محاولة ممارسة أقصى ضغط على إيران وزيادة عزلتها السياسية، وإلحاق مزيد من الخسائر الاقتصادية عليها قبيل مغادرة ترامب للبيت الأبيض، بحيث تمثل المصالحة حرمان إيران من مداخيل مالية مهمة، كانت تحصل عليها من قطر نتيجة فرض الحصار على الأخيرة من طرف دول الرباعية (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر)، وذلك من خلال استخدام الأجواء الإيرانية من طرف الطيران القطري بعد فرض الحصار عليها وحرمان طائرتها من عبور الأجواء السعودية[5].
فضلاً عن ذلك، فالهدف العام الذي تريد إدارة ترامب تحقيقه هو توحيد الموقف الخليجي تجاه إيران لتشديد الخناق عليها وعزلها إقليميا؛ وهذا الهدف لن يتحقق في ظل المقاطعة الخليجية. وتستهدف إدارة ترامب تكبيد إيران مزيد من الخسائر التي طالتها منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي 5+1 وتوالي العقوبات الأمريكية عليها تباعا. وذلك عبر توجيه إدارة ترامب ضربة اقتصادية أخيرة لإيران قبل خروجها من البيت الأبيض، فضلاً عن حرمانها من طرف داعم سياسياً مثل قطر.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ترامب ومستشاره جاريد كوشنر وضعوا خطة ثانية، وهي توجيه ضربة عسكرية محدودة أو شاملة ضد إيران أو ضد وكلائها في العراق سواء أمريكية، أو عبر إسرائيل من خلال إعطائها الضوء الأخضر لضرب المنشآت النووية الإيرانية أو الاستمرار في سلسلة الاغتيالات التي تطال أبرز علماء الذرة والمسؤولين البارزين في البرنامج النووي الإيراني، والتي كان آخرها اغتيال العالم النووي وأحد الأذرع الرئيسية في البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده. وبالتالي تكوين جبهة تضم دول الخليج وإسرائيل ضد إيران[6].
خسارة ترامب أمام بايدن في الانتخابات الأمريكية جعلته يفتح الباب على مصراعيه لتأجيج العلاقة مع إيران وتعقيدها إلى مستويات كبيرة يستحيل معها تحقيق مخطط بايدن تجاه طهران وهو إدارة الأزمة معها عبر النهج الدبلوماسي من خلال وضع مجموعة من التفاهمات والتسويات لإرجاعها إلى طاولة المفاوضات وبالتالي فتح الطريق أمام الرجوع للاتفاق المبرم في العام 2015 أو إبرام اتفاق جديد بين إيران والخماسية الدولية.
إلا أنه، وفي ضوء التطورات الأخيرة في الولايات المتحدة، منذ فشل ترامب في تحقيق أي تقدم فيما كان يسعى إليه بالدفع بوجود تزوير في الانتخابات الرئاسية، وما تلا ذلك من عملية اقتحام الكونجرس من خلال أنصاره، وما ترتب على ذلك من شبه عزلة يعيشها ترامب من أي دعم مؤسسي، حتى من حزبه الجمهوري، في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، فإن ذلك يقلل كثيراً من احتمالات القيام بأي عمل عسكري ضد إيران، بالرغم من المحاولات المستميتة للمزيد من شيطنة إيران وخاصة عن طريق وزير الخارجية الأمريكي بومبيو بأشكال مختلفة، أخرها ما أطلق عليه الكشف عن معلومات استخباراتية بدعم إيران لتنظيم القاعدة[7].
الدافع الثاني:
الهدف العام لدى إدارة ترامب هو تسجيل المصالحة الخليجية في عهده، بعدما كان من بين الأسباب التي أجّجت الأزمة الخليجية، والتي جنى من ورائها مكاسب سياسية واقتصادية كبيرة. ولقد أرادت إدارة ترامب من وراء هذه المصالحة قطع الطريق على إدارة بايدن للتفاعل في هذا الملف ولعب دور أساسي فيه من أجل تحقيق انتصار دبلوماسي يسجل باسمها بأنها استطاعت رأب الصدع لخلاف إقليمي لم تستطع معه جل المحاولات الدولية أو العربية فردية كانت أم جماعية حلحلة الأزمة خلال السنوات الثلاث الماضية[8].
إلا أننا، وبمتابعتنا لهذا الملف نستبعد أن يكون الضغط الأمريكي هو الذي دفع إلي اللقاء الأخير بالذات، حيث فشل الجهد الذي قام به كوشنر منذ نحو شهر بالتعاون مع دولة الكويت، وبدا أن إدارة ترامب بدأت تقتنع بعدم القدرة على إحداث اختراق في هذا الملف، خاصة في ظل ما تواجهه من أزمات داخل أمريكا نفسها، ويؤكد هذا توافر معلومة لدينا من بعض المصادر القريبة من الملف أن الأمير محمد بن سلمان هو الذي سعى لهذا الأمر الآن تحديداً، وهو الذي وجه الدعوة لكوشنر للحضور وليس العكس.
ثانياً: الدوافع السعودية من المصالحة الخليجية:
تتنوع العوامل التي دفعت بالسعودية، وبالأمير محمد بن سلمان تحديداً، إلى تغيير موقفه بعد أكثر من 3 سنوات من حصار قطر، وفي هذا التوقيت تحديداً، ومن ذلك:
الدافع الأول: المصالحة الخليجية والتحالفات في المنطقة:
يعتبر تغيير التحالفات أهم السمات التي ستطبع مرحلة ما بعد المصالحة الخليجية؛ وتعتبر السعودية أكثر دول الخليج التي ستسعى إلى بناء تحالفات إقليمية جديدة، وذلك اعتبارا لمصالحها الاستراتيجية؛ هذه المصالح التي تضررت في ظل تحالفاتها الماضية خصوصا مع الإمارات ومصر، سواء استراتيجيا، بتراجع مكانتها وموقعها في الخليج، أو اقتصاديا في ظل الركود الكبير الذي ضرب اقتصادها والعجز الكبير الذي تعاني منه ميزانيتها المالية جراء دخولها في صراعات ونزاعات إقليمية من أبرزها حرب اليمن التي استنزفت مواردها المالية نتيجة تكلفتها الباهظة، ودون تحقيق أي أهداف تذكر، خاصة في ظل انتهاء إدارة ترامب وتوقع أن تمارس إدارة بايدن الجديدة بعض الضغوط على المملكة طبقاً للوعود الانتخابية التي قطعها بايدن على نفسه.
وأمام هذه الاعتبارات قد تجد السعودية نفسها أمام ضرورة المضي في ظل الظروف التي تحكمها مجموعة من التحولات الإقليمية والدولية إلى تحسين علاقاتها مع عدة دول وعلى رأسها قطر ثم تركيا؛ وهذه الأخيرة التي كانت مستهدفة ضمن الشروط ال 13 التي فرضتها الرباعية (السعودية-الإمارات-البحرين-مصر) لرفع الحصار على قطر، من خلال المطالبة بإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر.
لذلك من المتوقع أن تشهد العلاقات السعودية مع تركيا تغيرا كبيرا ربما ينقل العلاقات من حالة الحرب الباردة إلى حالة من السلام البارد، قد يصل إلى تعاون في ظل مؤشرات التقارب الأخيرة بين الطرفين خلال الأشهر الأخيرة من العام 2020، منها الاتصال الهاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والملك سلمان بن عبد العزيز، وبين وزيري خارجية البلدين، مولود جاووش أوغلو وفيصل بن فرحان؛ ثم تصريحات فرحان تجاه تركيا واصفا العلاقات التي تربط بلاده مع أنقرة “بالطيبة والرائعة”، وأنه لا توجد بيانات تشير إلى وجود مقاطعة غير رسمية للمنتجات التركية، في حين اعتبر وزير الخارجية التركي أن “الشراكة بين تركيا والسعودية ليست لصالج البلدين فحسب، ولكن لصالح المنطقة بأكملها”[9].
هذه التصريحات التي تشير إلى قرب نهاية الخلافات القائمة بين الرياض وأنقرة والتي زادت من فرصها المصالحة السعودية-القطرية التي من الممكن أن تلعب دوراً كبيراً في تقريب وجهات النظر بين السعودية وتركيا، بحكم العلاقات القوية التي تربطها بتركيا باعتبارها شريك استراتيجي مميز لأنقرة.
وذلك يمكن أن يكون عاملا مساعدا في تطوير العلاقة بين الدول الثلاث، إذا ما تم تجاوز نقاط الخلاف الرئيسية بين الرياض وأنقرة، كالموقف من المناورات المزمع القيام بها في منطقة شرق المتوسط والتي كان من المخطط مشاركة السعودية فيها بالتعاون مع اليونان وقبرص ومصر، وهو ما تعتبره تركيا تهديداً، وينعكس سلباً على علاقتها مع السعودية إذا شاركت في هذه المناورات. [10]
وكانت أنقرة من أوائل الدول التي رحّبت بقرار فتح الأجواء والحدود المغلقة بين السعودية وقطر، مؤكدة في بيان لوزارة الخارجية أنها على “استعداد على الارتقاء بالتعاون المؤسسي مع مجلس التعاون الخليجي.. تركيا شريك استراتيجي للمجلس وتولي أهمية كبيرة لأمن منطقة الخليج واستقرارها”.
بالإضافة إلى إشادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالانفراجة التي حقّقتها دول خليجية في حل خلافها مع قطر، موضحا أنها “خطوة استعادة العلاقات ورفع القيود مفيدة جدا للمنطقة. كما أكّد على أمله في استعادة تركيا مكانتها في التعاون مع دول الخليج، مما سيجعل هذا التعاون أكثر قوة[11].
ومن بين مؤشرات التقارب التركي ـ السعودي إعلان شركة “Intra” السعودية للصناعات الدفاعية، في تاريخ 11 يناير 2021م، عن البدء في صناعة الطائرة المسيرة HABOOB التي تصنعها بنقل تكنولوجيا للطائرة Vestel karyal المملوكة لشركة Vestel التركية، ونشرت شركه Intra السعودية للصناعات الدفاعية صورة للطائرة مزودة بصواريخ Mam l صناعة شركة روكيستان Rokestan التركية. وأعلنت أنه سيتم صناعة 6 طائرات في عام 2021 ومجموع 40 طائرة في 5 سنوات[12]
موقف أنقرة من المصالحة سينعكس إيجابا على علاقاتها مع السعودية التي ستنظر بعين المصلحة من خلال السعي لتحسين علاقاتها مع تركيا، وذلك بالنظر للثقل الاستراتيجي لتركيا، الذي ثبت خلال السنوات الماضية بشكل كبير كقوة إقليمية رئيسية في منطقة الشرق الأوسط في ظل الانتصارات المهمة التي حققتها في ملفات عديدة من أبرزها تغيير المشهد العسكري بشكل جوهري في ليبيا وأذربيجان وسوريا وإلى حد ما في العراق وتواجدها القوي في الصومال فضلاً عن دعمها لقطر في بداية الحصار، وهي بذلك أثبتت أنها حليف يعتمد عليه ويحقق نجاحات في كل الصراعات التي يدخلها دعماً لحلفائه .
لذلك فالتحالف معها يشكل ربحاً كبيراً للسعودية لتخليصها من تبعات التحالف القديم مع الإمارات الذي أدى إلى تراجع مكانتها الإقليمية ورصيدها الاستراتيجي، ولأسباب كثيرة منها الحرب في اليمن وقضية خاشقجي وغيرها من الملفات التي تلعب فيها تركيا دورا حيويا ولا يمكن حلها دون وجود علاقات قوية بين الرياض وأنقرة.
تركيا أيضاً ستكون مستفيدة بشكل كبير من هكذا تحالف، فسيدعم هذا مكانتها الإقليمية وأهميتها الجيواستراتيجية، يضاف إلى انتصاراتها الدبلوماسية في المنطقة، كما سينعكس إيجابياً على الاقتصاد التركي بإنعاش الاستثمارات الخليجية التي واجهت عوائق كثيرة من قبل حكومات الرياض وأبو ظبي في السنوات الأخير، حيث تريد تركيا في الوقت الراهن تهدئة الصراعات المختلفة التي تعتبر طرفاً فيها، وذلك للتركيز على الملف الداخلي فيما يتعلق بالتحديات الاقتصادية، الأبرز في هذه المرحلة.
ومما يلفت النظر في سياق العلاقات السعودية – التركية الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري صاحب العلاقات الوثيقة بالمملكة العربية السعودية الى أنقرة، والتي قد تأتي في سياق الوساطات التركية السعودية للتفاهم في العديد من ملفات منطقة الشرق الأوسط، فالمملكة العربية السعودية هي إحدى أهم دول التأثير في المشهد اللبناني المتأزم منذ سنوات،[13] فضلاً عن الملف السوري المهم بالنسبة لتركيا ولبنان.
ومن جهة أخرى، فمن المتوقع أن ينعكس موضوع المصالحة الخليجية إيجابياً على العلاقات التركية-المصرية من جهة، والعلاقات التركية-الإماراتية من جهة أخرى، وذلك عبر تخفيف حدة التوتر الذي شهدته العلاقات بين هذه الدول خلال السنوات الأخيرة، خصوصا بعد انقلاب 3 يوليو 2013، والاتهامات التي كان يوجهها المحور المصري-الإماراتي بأن تركيا أصبحت تشكل خطرا على الأمن الإقليمي من خلال دعمها لحركة الإخوان المسلمين في مصر التي تم تصنيفها من طرف هذا المحور في خانة “المجموعات الإرهابية”، هذه الاتهامات التي كانت ترفضها تركيا على الدوام لأن رؤيتها كانت مبنية عبر دافع عدم الاعتراف بالانقلاب العسكري على الشرعية والإرادة الشعبية. هذا بالإضافة إلى الخلافات حول الأزمة الليبية، وأيضا فيما يتعلق بمناطق النفوذ والتنقيب عن الغاز شرق لبحر المتوسط.
لكن على الرغم من احتدام شدة الصراع بين هذه الأطراف، فقد شهدت علاقاتهم، حتى قبل اتفاق المصالحة انفراجا وبالخصوص في العلاقات ما بين تركيا ومصر على وجه التحديد والتي عرفت في الفترة الأخيرة نوعا من التهدئة عكستها تصريحات بعض المسؤولين، وأيضا التنسيق الأمني-الاستخباراتي بين البلدين، والذي بدأ ينتقل إلى المستوى الدبلوماسي، وكان وزير الخارجية التركي قد صرح في ديسمبر 2020، “إن بلاده ومصر تسعيان إلى وضع خريطة طريق بشأن علاقاتهما الثنائية، كما أوضح، أن التواصل مع مصر على الصعيد الاستخباراتي مستمر لتعزيز العلاقات، في حين أن الحوار قائم على مستوى وزارتي الخارجية وممثلي الدولتين في أنقرة والقاهرة”[14]. كما شهدت الاتصالات بين الطرفين تفاهمات على مستوى الملف الليبي، أدت إلى تحقيق تقدمات مهمة نحو تسوية هذا الملف سياسياً.
ولذلك، ربما تشهد العلاقات البلدين انفراجه أو تهدئة تحد من التوتر القائم منذ 2013، لكن ليس من المنتظر أن يصل الأمر إلى عودة العلاقات بشكل طبيعي وكامل أو إلى حد دخول الطرفين في تحالف مشترك من أي نوع، لكن بالمقابل من الممكن أن تكون هناك ترضية، أو تعايش بشكل ما، بين الطرفين تبعا لدوافع استراتيجية فيما يخدم مصالحهما في عدة ملفات، ومن أبرزها تخفيف حدة الصراع فيما يخص غاز المتوسط والتقارب الذي تحكمه البراغماتية فيما يخص الملف الليبي، وهو ما عكسته أول زيارة لمسؤولين مصريين للغرب الليبي منذ 2014 ولقاءهم لمسؤولين عن حكومة الوفاق، بالإضافة إلى التنسيقات الأمنية الأخيرة بين الطرفين على مستوى هذا الملف.
أما فيما يخص العلاقات التركية-الإماراتية التي تعتبر خلافاتها أعمق من التوتر الذي طبع العلاقات سواء التركية-المصرية، أو التركية-السعودية، فإنه على الرغم من الوضع الذي فرضته المصالحة الخليجية أو التغيرات التي تشهدها البيئة الإقليمية والدولية التي تفرض على جميع الأطراف الحد من الخلافات التي كانت لها تداعيات على مختلف الأصعدة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، فإنه من المرجح أن العلاقات بين الطرفين لن تخرج عن مرحلة تخفيف اللهجة في التصريحات خصوصا من الجانب الإماراتي، على غرار تصريحات وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش، الذي أوضح فيها “أن بلاده تريد علاقات طبيعية مع تركيا طبيعية تحترم السيادة بيننا وبينها…وأن لا تكون أنقرة الداعم الأساس للإخوان المسلمين”، كما شدد أنه “لا يوجد لدى بلاده أي سبب أو مشكلة لكي تختلف مع تركيا فيها”. وأشار “أن الإمارات تعتبر تركيا الشريك الأساسي رقم واحد لتركيا في الشرق الأوسط، موضحاً أن بلاده لا تعتز بأي عداء مع أنقرة”[15].
ومن المرجح أن العلاقات بين أنقرة وأبوظبي لن تخرج عن طابع العلاقات الاضطرارية، التي فرضتها التحولات التي شهدتها الظروف الإقليمية والدولية، خصوصا على الإمارات، فالخلافات بينها وبين الرياض من جهة وبين القاهرة من جهة أخرى في العديد من الملفات والقضايا، تجعلها تعدل العديد من مواقفها وتخفف من سلوكياتها العدائية وحملاتها التحريضية على تركيا التي تدخل معها في صراع مباشر خصوصا في ليبيا من خلال دعمها عسكريا وتمويليا لخليفة حفتر، بالإضافة إلى الدعم الذي تقدمه لليونان وقبرص في ملف غاز شرق المتوسط. وانطلاقا من كل ذلك فإن الحذر هو الذي سيحكم تعاملات تركيا مع الإمارات نتيجة غياب عنصر الثقة التي تظهرها الوقائع الميدانية القائمة على مواجهة تركيا في جميع الملفات التي تكون فيها أنقرة فاعل رئيسي فيها.
الخلاصة هنا أن هناك من الدوافع والشواهد التي تؤشر على حدوث تغيير مرتقب في طبيعة التحالفات في منطقة الخليج، يكون مؤثراً بشكل كبير على الملفات الأخرى، إن أمكن تجاوز نقاط الخلاف الأساسية بين كل من السعودية من جهة وقطر وتركيا من جهة أخرى بشكل حقيقي، على الرغم من اختلاف التوجهات الاستراتيجية العليا بين هذه الأطراف.
الدافع الثاني: مواجهة الدور الإيراني:
تشكل إيران السبب الرئيسي الذي دفع بالسعودية إلى إنهاء القطيعة مع قطر والإعلان عن المصالحة الخليجية، حيث تعتبر السعودية التهديدات الإيرانية بمساعدة وكلائها في اليمن والعراق ولبنان وسوريا أكبر خطر محدق بمصالحها وأمنها ، وهذا ما أكده محمد بن سلمان خلال القمة الخليجية في العلا، بحيث أوضح أن السبب الرئيسي لطي الخلافات هو الوحدة ضد التهديدات الموجهة من طهران، وما يتعلق ببرنامجها النووي والصواريخ الباليستية التي يتبناها من تعتبرهم الرياض وكلاء إيران في المنطقة (الحوثيون-حزب الله) وترى أنه مشاريع تخريبية تشكل تهديدا للأمن والسلم الإقليمي والدولي[16].
وترى الرياض في المصالحة الخليجية فرصة لتوفير سياق لعزل إيران إقليميا في ظل موقف خليجي موحد، أو على الأقل تقوية الموقف السعودي الإستراتيجي في مواجهة إيران بعد أن ضعف هذا الموقف كثيراً في السنوات الأخيرة، خاصة أن أزمة الحصار قد فرضت وضعاً خاصا بعلاقات قطر مع إيران، حيث اضطرت قطر إلى توسيع نطاق علاقتها مع إيران من خلال فتح الأجواء الإيرانية للطيران القطري، وتوسيع العلاقات التجارية معها، وذلك بهدف تخفيف شدة آثار الحصار عليها.
ومن هنا، فإن المفارقة تكمن في أن علاقات الدوحة مع طهران لن تتأثر عقب المصالحة الخليجية (وهو ما لم يكن غائبا بكل تأكيد عن السعودية عند تقدمها لتحقيق المصالحة)، وهذا ما أكده وزير الخارجية القطري محمد عبد الرحمن آل ثاني لصحيفة “فاينانشيال تايمز”، حيث أوضح أنه لن يطرأ على هذه العلاقات أي تغيير، وذلك في إشارة على عدم تقديم تنازلات لصالح الرباعية[17].
إن مسار العلاقات القطرية-الإيرانية لن يتخذ الاتجاه الذي تسعى إليه السعودية وهي جلب الطرف القطري للمحور المعادي لإيران، وعلى الرغم من المصالحة الخليجية، فإن قطر قد تنأى بنفسها عن الدخول في أي صراع في المنطقة؛ فهي تريد أن تبقى طرفا محايدا في المعادلة السعودية-الإيرانية، مع إمكانية تخفيف بعض من علاقاتها التجارية مع طهران بعد فك الحصار وإرجاع الوضع كما هو عليه قبل الأزمة، من أجل ترضية الجانب السعودي من خلال تقديم بعض الأوراق الرابحة له مع اقتراب مونديال عام 2022؛ حيث يشكل هذا الحدث فرصة رابحة للطرفين، بحيث ستتخلص قطر من عائق استخدام الأجواء السعودية خلال المونديال؛ وفي المقابل سيشكل هذا الحدث الرياضي فرصة مهمة للسعودية في جانبين، الأول العائدات المالية التي ستجنيها من خلال تعاونها مع قطر فيما يخص التحضير للمونديال، والثاني حرمان إيران من إيرادات باهظة كانت ستجنيها من وراء هذا الحدث الذي كان سيشكل لها ربحا إضافيا في ظل استخدام الدوحة لمجالها الجوي.
وبما أن العلاقات القطرية -الإيرانية شهدت طفرة خلال السنوات الماضية، فإننا نرجح انه ربما بعد المصالحة القطرية-السعودية أو التفاهمات التي شهدتها قمة العلا في الرياض، ستعمل قطر على إيجاد حلول للأزمات العالقة بين السعودية وإيران، وأن السعودية تدرك ذلك، وخصوصاً في الملف اليمني، والذي يعتبر من اهم الملفات لدى السعودية كونه أصبح يهدد الأمن القومي للمملكة بشكل فعلي، والإمارات ومصر لم يقدما للمملكة أي أدوار إيجابية تجاه هذا الملف؛ بل إن للإمارات مشروعاً خاصاً داخل اليمن بعيداً عن مصالح السعودية.
بعد المصالحة، يمكن لقطر أن تلعب دوراً في التهدئة في ظل علاقاتها الجيدة مع كل من السعودية وإيران، وسيتعزز هذا الأمر إذا ما توصلت إدارة بايدن إلى اتفاق جديد مع إيران بعد خروج إدارة ترامب من الاتفاق القديم، لكن سيظل هذا الأمر مرهوناً بإمكانية تحقيق توافق وقبول إيراني حول أدوارها الإقليمية، سواءً بالتخلي عن دعم الحوثيين أو بالتوصل إلى اتفاقات حول سوريا والعراق، فضلاً عن تحقيق تحسن جوهري بالفعل في العلاقات السعودية مع قطر وتركيا لأنه في المقابل توجد قيادات إيرانية ضد هذه التفاهمات ويدعون الى تبني إيران مشروع خاصاً، وهذا ما دعا إليه الجنرال محسن رضائي أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني ومرشح الرئاسة للعام الحالي، حيث دعا إلى بناء مشروع إيراني جديد، وصفه بـ «الحزام الذهبي الإيراني» في منطقة الشرق الأوسط.[18]
الدافع الثالث: إدارة بايدن والمصالحة الخليجية:
من أهم أهداف السعودية من وراء المصالحة مع قطر أن يكون لذلك تداعيات إيجابية وعاملاً مساعداً في مواجهة التوجس من الإدارة الأمريكية المقبلة التي تقول إن لها رؤية خاصة حول أوضاع حقوق الإنسان والحريات في السعودية بجانب دول الخليج ومصر بالإضافة إلى نظرتها من الحرب في اليمن.
يدرك بن سلمان تمام الإدراك أن مواقف الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه النظام السعودي لن تسير على نفس النحو كما كانت عليه في ظل إدارة ترامب التي شكلت غطاء حماية لممارسات بن سلمان ونظامه في العديد من الملفات والقضايا، أبرزها قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي التي مثلت إحدى أبشع الجرائم التي هزت الرأي العام العالمي، وملف حقوق الإنسان فيما يخص الانتهاكات والاعتقالات وسياسة الاضطهاد التي تمارسها السلطات السعودية ضد المعارضين والناشطين السياسيين. والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبتها السعودية إلى جانب الإمارات في حربهما على اليمن.
ومسار العلاقات السعودية-الأمريكية في ظل إدارة بايدن يمكن أن يعاد تقييميه بحسب ما أعلن عنه بايدن نفسه خلال حملته الانتخابية، حيث أكد أن ملف حقوق الإنسان سيكون حاضرا في علاقات السعودية مع الإدارة الأمريكية، كما أكد أنه لن يعطي شيكا على بياض للحكام المستبدين كما فعلت إدارة ترامب، وهو ما ظهر جليا في الذكرى الثانية لمقتل جمال خاشقجي بحيث أصدر تصريحا حول الجريمة أكد من خلاله أن الصحفي جمال خاشقجي دفع حياته ثمنا لانتقاد سياسات حكومته، كما قدم بايدن في تصريحات سابقة وعودا بمحاسبة نظام بن سلمان على ارتكابه هذه الجريمة[19].
وكان الكونغرس الأمريكي بقيادة رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأمريكي النائب الديمقراطي آدم شيف قد قدم مشروعاً قانون يحمل اسم “الصحفي جمال خاشقجي” يسعى من خلاله إلى حظر المساعدات الأمريكية وضمان محاسبة الأفراد الذين يرتكبون عمليات قتل خارج نطاق القانون وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ضد الصحفيين، وتعزيز التزام الولايات المتحدة بمحاسبة أولئك الذين يستهدفون الصحفيين بالعنف والاضطهاد[20].
وفي ظل تضييق الدائرة على بن سلمان مع قرب مجيء إدارة بايدن تدرس إدارة ترامب طلبا في إمكانية توفير الحصانة لابن سلمان من الملاحقة القضائية وذلك حسب ما نشرته “واشنطن بوست ونيويورك تايمز”، ويرتكز طلب الحصانة في الدعوى الفدرالية المرفوعة ضد بن سلمان بمحاولة اغتيال سعد الجبري المقيم في كندا ومسؤول الاستخبارات السابق، المقيم في كندا .وفي إطار ذلك يتعين على الخارجية الأمريكية تقديم توصياتها حول طلب الحصانة، إلى وزارة العدل الأمريكية، بعد تشاورها مع الأطراف المعنية ومن تم يكون قرار وزارة العدل ملزما للمحكمة الفيدرالية، وفي حالة الموافقة على طلب الحصانة، فإن ذلك سيؤدي إلى شطب اسم ابن سلمان من قائمة المدعّى عليهم في أية قضايا أخرى مرفوعة ضده في الولايات المتحدة ومن ضمنها قضية اغتيال خاشقجي[21].
ولكل ذلك، فإن السعي السعودي في موضوع المصالحة يعكس مدى القلق الذي يحدق بنظام بن سلمان من تعامل إدارة بايدن مع جل الملفات السالفة الذكر، وتغييرها لمنحى العلاقة مع السعودية في مسلك آخر تحكمه مجموعة من الضوابط، خصوصا أن بايدن تعهد في مرات عديدة على إعادة النظر في علاقات واشنطن مع الرياض.
يحاول بن سلمان من خلال المصالحة الخليجية تقديم نفسه للإدارة الأمريكية على أنه رجل يسعى إلى إحلال السلام والاستقرار في المنطقة من خلال إنهاء جميع الخلافات البينية، في محاولة منه لتجميل صورته التي اهتزت بسبب قضايا انتهاكات حقوق الإنسان ومقتل الصحفي جمال خاشقجي والحرب في اليمن.
وعلى الجانب الأخر فإن العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية، والتي تعود إلى نشأة المملكة ذاتها، لا يمكن تقويضها بسبب مثل هذه القضايا، ولذلك فإننا نرجح أن تستفيد إدارة بايدن من هذه المصالحة، ومن أية خطوات تجميلية أخرى قد تقوم بها المملكة في مجال حقوق الإنسان، أو إنهاء الصراع في اليمن، بأن تتجنب الوقوع في حرج تقويض العلاقة بالمملكة والتضحية بالمصالح الإستراتيجية معها. ومما يعضض هذا الترجيح، أن هناك معلومات غير مؤكدة وصلت إلينا تفيد بأن مستشارين من فريق بايدن قد نصحوا ابن سلمان بالإسراع بالمضي قدماً في ملف المصالحة قبل تنصيب بايدن رسمياً حتى يمكن البناء على ذلك.
ويصب هذا التحليل أيضاَ في اتجاه توجه إدارة بايدن للتهدئة مع إيران والسعي للتوصل إلى اتفاق جديد معها، وأنها قد تسعى في هذا الإطار للتوصل لتفاهمات إقليمية كبرى لمعظم الملفات المفتوحة حالياً، بما في ذلك التفاهم بين دول الخليج بقيادة السعودية مع إيران، ويتيح هذا للولايات المتحدة تحت إدارة بايدن التخفيف من مسئولياتها في المنطقة للتركيز على مواجهتها الإستراتيجية الأكثر أهمية بالنسبة لها حالياً مع الصين.
الدافع الرابع: تعزيز مكانة محمد بن سلمان في قيادة الخليج
يسعى محمد بن سلمان لتكريس دوره كقائد لمنظومة مجلس التعاون الخليجي، والذي يقوم بجمع الشمل ويحدد الأجندة حتى يوصل رسالة للعالم أن من يريد أن يتحدث مع دول الخليج، فعليه أن يخاطب قائدها والمتحدث باسمها، مما يكرس وضعه الإقليمي والدولي بصفته الجالس على عرش المملكة قريباً، وبالطبع لم يكن هذا ممكناً إلا بطرح قضية المقاطعة جانباً، وهو ما تم بالفعل.
في نفس السياق، يسعى ابن سلمان من خلال أخذ زمام المبادرة في خطوة المصالحة، أن يرسل رسالة ضمنية إلى أبو ظبي أنه من يتصدر الزعامة الإقليمية في محاولة لتحجيم دور دولة الإمارات الذي برز إلى السطح في السنوات الأخيرة، خصوصا مع قيادتها لمحور الثورة المضادة، وتنصيب نفسها على أنها قائدة تحالف المقاطعة، وامتداد توسعاتها إلى خارج المنطقة الخليجية أو لمناطق ودول كانت لوقت قريب تحتل فيها السعودية مكانة مهمة.
وتفاقم التخوف السعودي من تنامي الدور الإماراتي في عدة قضايا وملفات، على الرغم من التحالف الاستراتيجي بينهما عبر محطات عديدة، منها محاربة الإسلام السياسي، الحرب على اليمن، الحصار على قطر، حدا بالسعودية، ومن منطلق العودة إلى الواجهة الإقليمية، إلى تقرير خطوة أحادية الجانب فيما يخص المصالحة الخليجية دون الأخذ بالاعتبار حسابات باقي الأطراف الأخرى وعلى رأسها الإمارات التي كانت حجر الزاوية في إشعال فتيل الأزمة الخليجية؛ كما أنها سعت وإلى وقت قريب إلى إفشال جميع مخططات التسوية وتخريب كل جهود الوساطات الإقليمية والدولية التي سعت إلى حلها.
الدافع الخامس: زيادة الضغط على جماعات “الإسلام السياسي”:
يعتبر موقف قطر من الإسلام السياسي وعلاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين والفصائل الفلسطينية إحدى أبرز القضايا الخلافية بين السعودية والإمارات ومصر، مع قطر بحيث يعتبرها هذا المحور إحدى أبرز الدول الداعمة لحركات الإسلام السياسي خصوصا بعد موجة الربيع العربي التي عرفت صعودا لهذا التيار في عدة دول عربية وعلى رأسها مصر؛ هذه الأخيرة التي تحفظت على خطوة المصالحة في ظل مناهضة نظام عبد الفتاح السيسي لحركات الإسلام السياسي، وقيادته إلى جانب الإمارات والسعودية تحالفا -الثورة المضادة- لمحاربة هذه الحركات وعلى رأسها الإخوان المسلمين التي تصنفها الدول الثلاث على قائمة “المنظمات الإرهابية المحظورة”. وعلى الرغم من ذلك، فهذه الدول، وخصوصا مصر، لا زالت تتمسك بشرط قطع قطر علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من إعلان المصالحة الخليجية.
وقد شكّل غياب السيسي عن قمة العلا، والاكتفاء بإيفاد وزير خارجيته سامح شكري، دليلا على عدم رضاه وعدم موافقته على بنود المصالحة الخليجية مع قطر؛ وخصوصاً في ضوء ما تواتر من أنباء أن قرار المضي قدماً في المصالحة قد تم بدون التشاور مع مصر، وهذا ما أكدته صحيفة هآرتس الإسرائيلية التي قالت إن اتفاق العلا اعتبره السيسي تنازلا مفرطا لصالح الدوحة في مقابل انتهاك مصالح القاهرة؛ أو بالأحرى إسقاط الشروط التي كانت سببا لانضمام السيسي لمحور المقاطعة، وأبرزها المطالبة بوقف قطر دعم الإخوان المسلمين وإغلاق قناة الجزيرة[22].
وفي إطار ذلك، نفى وزير الخارجية القطرية ما تم تداوله في مجموعة من وسائل الإعلام المصري عن وجود اشتراطات تم فرضها حتى يتم توقيع الاتفاق وذلك في إشارة للشروط الــ 13 التي كانت قد وضعتها الرباعية لفك الحصار عن قطر، بحيث أكد الوزير القطري أنه “لا يوجد هناك شرط على أي دولة من دولة أخرى، موضحا أنه “يوجد خطوات تبادلية بين الدول، فمن جهة دولة قطر هناك قضايا نشأت بسبب الأزمة وهناك إجراءات اتُخذت من الدول الأربع ومن الطبيعي أن يكون هناك سحب أو وقف لهذه الإجراءات والعودة بشكل طبيعي والعمل على إغلاق القضايا بشكل قانوني”.
أما فيما يخص العلاقات مع مصر، فقد أوضح أنه “سيتم بحث مسائل العلاقات بشكل ثنائي بين الأطراف ومن ضمنها مصر التي هي طرف في الأزمة؛ بحيث أكد أن هناك اجتماعات ستعقد بين الأطراف لبحث حلول مستقبلية لبعض القضايا العالقة”[23]. وقد حدثت بالفعل بعض الإشارات الإيجابية على طريق استعادة العلاقات بين البلدين ومنها زيارة وزير المالية القطري لمصر مؤخراً للمشاركة في افتتاح فندق سانت ريجيس بالقاهرة والذي تمتلكه شركة الديار القطرية، الذراع الاستثماري لدولة قطر في المجال العقاري.[24]
وكانت حركات الإسلام السياسي وعلى رأسها حركتا الإخوان المسلمين وحماس قد رحبت بالتقدم الملموس في جهود المصالحة الخليجية لإنهاء جميع الخلافات البينية. بحيث أعلنت جماعة الإخوان المسلمين المصرية عن “ترحيبها بالخطوات والإجراءات التي تم إعلانها لإتمام المصالحة الخليجية بين دول مجلس التعاون الخليجي، وأن الجماعة تدعم ما يُنهي أي خلافات تسهم في وحدة شعوب الأمة العربية والإسلامية”. ومن جانبها هنّأت حركة حماس مجلس التعاون الخليجي بالنتائج التي أسفرت عنها القمة الخليجية في العلا ومن أهمها فتح الأجواء والحدود بين السعودية وقطر. كما تأمل الحركة، بحسب البيان الذي أصدرته على إثر المصالحة، “أن تنتهي الأزمة الخليجية بشكل كامل وذلك من أجل استعادة الوحدة والتضامن الخليجي الذي يصب في وحدة الصف العربي المأمول[25].
الإ أن كل ذلك لا يمنع من أن أحد أهم أهداف مضي السعودية قدماً في هذا الملف هو تخفيف الوضع الاستراتيجي لحركات الإسلام السياسي في المنطقة بما تراه سحباً لأهم حلفائه، قطر ثم تركيا لاحقاً، دعمهم أو التخفيف منه على أقل تقدير، وخاصة في ضوء الأجواء الدولية والإقليمية المتنامية العداء لكل ما يمكن أن يقع تحت ما يسمى ب “الإسلام السياسي”، بما يقوي من الجبهة المواجهة له في المنطقة بدعوى أنه مصدر رئيس للإرهاب في العالم (وهو ما أخذ حيزاً لا بأس به في البيان الختامي لقمة العلا).
ومع كل ذلك، فمن غير المتوقع أن تغيّر الدوحة من طبيعة علاقاتها مع تيار الإسلام السياسي أو تنهج سلوكا يرضي الأطراف المعادية لهذا التيار، وهو القطيعة التامة معه، لكن من الممكن مثلاً تخفيف دعم قطر لهذه الجماعات على المستوى الإعلامي، وهو ما لا يشكل ثمناً كبيراً أو تنازلاً تقدمه لكي تحدث المصالحة. لكن من غير المتوقع أن تقوم قطر بقطع علاقاتها سواء بالإخوان المسلمين أو حركات المقاومة الفلسطينية، خصوصا أن قطر تنتهج منهجاً في السياسة الدولية تحتفظ بموجبه بخيوط وعلاقات مع الجميع مما يهيئ لها أن تقوم بدور الوساطة والتهدئة كلما احتاج الأمر (على غرار ما حدث مثلاً في الملف الأفغاني مؤخراً) وهو ما يجعل قطر دائماً تمتلك وضعاً مهماً ومرغوباً فيه على الساحة الدولية.
خلاصات واستنتاجات:
جاء توقيع اتفاق المصالحة الخليجية ورفع الحصار عن دولة قطر بشكل مفاجئ لكثير من المحللين نظراً لفشل محاولات كثيرة في هذا الإطار خلال العام الماضي على الأقل، وأخرها الشهر الماضي عندما تولد انطباع بأن المصالحة وشيكة، لكن لم يتمخض ذلك عن شيء.
وقد ذهب معظم المحللين إلى أن إدارة الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، قد مارست ضغطاً كبيراً هو ما أدى الى حسم هذا الأمر في هذا التوقيت، الإ أننا لا نميل إلى هذا الرأي، حيث لم تفلح هذه الضغوط في تحقيق أي تقدم خلال شهور طويلة، بينما نرى أن الساعي الرئيسي لتوقيع هذا الاتفاق في هذا التوقيت كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ( وربما ببعض الضغوط من الإدارة الأمريكية القادمة لجو بايدن كما ترشح بعض المعلومات المتوافرة لدينا)، لما في ذلك من مصالح كبيرة تتحقق للمملكة بهكذا اتفاق، ولمحمد بن سلمان شخصياً في تكريس دورة كقائد لمنظمة مجلس التعاون الخليجي في الوقت الذي يستعد فيه لاستلام الحكم من والده.
ويوضح التحليل الذي قدمناه في الورقة أن السعودية شعرت بأن وضعها الإستراتيجي في المنطقة، خاصة في مواجهة إيران، قد تضرر كثيراً باستمرارها في التحالف الاستراتيجي الكامل مع الإمارات ومصر، الذي لم تجني من خلاله السعودية أية مكاسب، بل على العكس تقلص نفوذها ودورها الاستراتيجي بشكل كبير من خلال مشاركتها فيه. وعلى هذا الأساس يبدو لنا أن المملكة ستسعى من خلال هذا الاتفاق، الذي مضت إليه بمفردها ودون تنسيق مع شركائها في التحالف، إلى التخفيف من قوة هذا التحالف، دون قطع علاقاتها معه بالطبع، والاتجاه لتحسين علاقاتها مع المحور الآخر في المنطقة، قطر وتركيا، لتنتقل من حالة الحرب الباردة التي كانت قائمة معه، إلى حالة من السلام البارد على المدى القصير، تتحول مع الوقت إلى سلام دافئ، قد يصل إلى علاقة تحالف تكتيكي من نوع جديد على المدى المتوسط، يمكن أن يغير الكثير من الموازين في المنطقة. وسواءً وصل الأمر إلى درجة التحالف أم لا، فإن هذه العلاقات الجديدة ستدعم الدور الاستراتيجي الذي تقوم به المملكة في المنطقة، وسيقوي موقفها الاستراتيجي في مواجهة غريمها التقليدي في المنطقة، إيران.
وبكل تأكيد، فإن التغيير الذي سيحدث في الإدارة الأمريكية بتولي جو بايدن للرئاسة، بدلاً من دونالد ترامب الحليف الصلب لمحمد بن سلمان، قد دعا بن سلمان لإعادة تقييم تحالفاته في المنطقة، وخاصة في ضوء السعي المتوقع لإدارة بايدن في استعادة التنسيق مع إيران وتوقيع اتفاق جديد بدلاً عن ذلك الذي انسحب منه ترامب.
وعلى هذا الأساس، فإننا نرى، في ضوء التحليل المقدم في الورقة، إمكانية أن تؤدي جميع هذه الظروف إلى إعادة بحث مجمل ملفات المنطقة التي تتداخل فيها المصالح الإيرانية والخليجية، بحيث يمكن إذا امكن تمتين العلاقات الخليجية- الخليجية، والخليجية-التركية وهو الأمر الذي لا زال أمامه طريق طويل ويحتاج أن يتحقق على أرض الواقع في ضوء الخلافات الممتدة في الكثير من الملفات، والاختلافات في التوجهات الاستراتيجية الأساسية، يمكن الوصول إلى تفاهمات تهدئ وتيرة الصراعات، وإذا أمكن التوافق على حلول مرحلية لإنهاء الصراعات في اليمن وسوريا والعراق بما يزيل من الكثير من التهديدات الموجهة لدول الخليج، وفي نفس الوقت يسمح لإيران بالاستمرار بأداء دور هام في المنطقة، مع مراعاة المصالح التركية في نفس الوقت، خاصة أن مثل هذه التفاهمات تخدم التوجه الاستراتيجي لإدارة بايدن في تسكين الأوضاع، ولو نسبياً في منطقة الشرق الأوسط، لكي يمكن لها التركيز على ملف صراع الولايات المتحدة مع الصين. لكن بالطبع فإن الطبيعة الملتهبة للصراعات في المنطقة، والدور الذي يمكن أن تلعبه إسرائيل والإمارات في تخريب هكذا توجهات، تجعل الوصول الي تسويات في الوقت الراهن أمرا بعيد المنال في ضوء القابلية لاشتعال الموقف بسرعة على أي جبهة ولأي سبب، خاصة إذا لم تنجح مساعي التوصل لاتفاق نووي جديد مع إيران واستمر تهديها النووي قائماً، فضلاً عما تقوم به من أدوار في المنطقة.
ومن الممكن أن تنقلب الموازين وتتحول من مسار التهدئة إلى المواجهة، إذا استمرت إسرائيل بدعم أمريكي باستفزاز إيران في كل من سوريا أو العراق، أو توجيه ضربات لها في هذه الأماكن أو في الداخل الإيراني بتأشير من إدارة ترامب التي تسعى إلى بعثرة الأوراق مع قرب نهاية ولايتها. على غرار الضربات الأخيرة التي تمت في دير الزور والبو كمال وتسببت في خسائر فادحة.
ويظل العداء لحركات الإسلام السياسي دافعاً رئيسياً للمملكة للسعي قدماً في ملف المصالحة، كمحاولة مغايرة لنهج المواجهة مع قطر، وذلك بهدف الاستمرار في إضعاف هذه الحركات مع الناحية الاستراتيجية، خاصة في ضوء بروز توجهات دولية وإقليمية متنامية لمواجهة هذه الحركات بشكل متصاعد.
الهامش
[1] قادة الخليج يوقعون البيان الختامي للقمة و”بيان العلا”، وكالة الأناضول، تاريخ النشر 05 يناير 2021، تاريخ الدخول 08 يناير 2012، الرابط
[2] نص البيان الختامي لـ “قمة العلا” في السعودية، بوابة الأهرام، تاريخ النشر 05 يناير 2021م، تاريخ الدخول 08 يناير 2021م، الرابط
[3] الإمارات تعلن إعادة فتح كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية مع قطر، إرم نيوز، تاريخ النشر 08 يناير 2021م، تاريخ الدخول 09 يناير 2021م، الرابط
[4] اليوم.. مصر ترفع الحظر الجوي المفروض على رحلات الطيران القطرية، بوابة الأهرام، تاريخ النشر 12 يناير 2021م، الرابط
[5] – صلاح الدين كمال: كيف ستتأثر إيران بإتمام مسار المصالحة الخليجية؟، عربي 21، 9 ديسمبر 2020، الرابط
[6] – بشار نرش: المصالحة الخليجية و”دبلوماسية الدقائق الأخيرة، العربي الجديد، 12 ديسمبر 2020، الرابط
[7] تنظيم القاعدة: مايك بومبيو يقول إن إيران هي “المقرّ الرئيسي الجديد” للجماعة، بي بي سي، تاريخ النشر 12 يناير 2021، الرابط
[8] – المرجع نفسه.
[9] – إسماعيل جمال: المصالحة الخليجية.. هل تُبعد قطر عن تركيا أم تقرب الرياض من أنقرة؟، جريدة القدس العربي، 5 يناير 2021، الرابط
[10] قلق تركي من إرسال السعودية طائرات F 15 إلى جزيرة كريت اليونانية، روسيا اليوم، تاريخ النشر 08 يناير 2021م، الرابط
[11]– أردوغان في أول تعليق له على المصالحة الخليجية.. ثمَّنها واعتبرها “مفيدة جداً للمنطقة”، عربي بوست، 8 يناير 2021، الرابط
[12] السعودية تعلن البدء في صناعة الطائرة المسيرة التركية HABOOB، الدفاع العربي، تاريخ النشر 11 يناير 2021م، الرابط
[13] أردوغان يلتقي سعد الحريري في إسطنبول، الجزيرة نت، تاريخ النشر 08 يناير 2021م، الرابط
[14]– صحيفة: تطورات لافتة في العلاقات بين مصر وتركيا والإمارات، ترك برس، 11 يناير 2021، الرابط
[15]– الإمارات: نريد علاقات طبيعية مع تركيا وثمة مؤشرات مشجعة، روسيا اليوم RT، 10 يناير 2021، الرابط
[16]– في افتتاح قمة العلا. السعودية تثمن جهود المصالحة الخليجية، وكالة الأناضول، 5 يناير2021، الرابط
[17] – قطر: اتفاق المصالحة لن يؤثر على علاقات قطر بإيران وتركيا، روسيا اليوم RT، 07 يناير 2021، الرابط
[18] محسن رضائي يدعو إلى بناء “الحزام الذهبي الإيراني”، صحيفة القبس، تاريخ النشر 12 يناير 2021م، الرابط
[19] – أنظر في ذلك: حمل محمد بن سلمان مسؤولية قتل خاشقجي.. بايدن يتعّهد بإعادة تقييم” العلاقات مع السعودية، عربي بوست، 3 أكتوبر 2020، الرابط وأيضا: رويترز: قلق سعودي من فوز بايدن.. هل يفتح ملف خاشقجي؟، عربي 21، 23 أكتوبر 2020، الرابط
[20] – الولايات المتحدة ودول الخليج.. هل ينتهي شهر العسل بمجيء بايدن؟، دويتشه فيله DW، 9 نوفمبر 2021، الرابط
[21] – أنظر في ذلك: إدارة ترامب تدرس طلبا سعوديا لمنح محمد بن سلمان الحصانة القانونية، العربي الجديد، 22 ديسمبر 2020، الرابط
[22] – السيسي غاضب من الإمارات وغير راضٍ عن المصالحة.. هآرتس: أبو ظبي تحولت من حليف لمصر إلى منافس لها، عربي بوست، 9 يناير 2021، الرابط
[23] – قطر توضح مسألة حل الخلافات مع مصر في ظل اتفاق العلا، روسيا اليوم، 07 يناير 2021، الرابط
[24] وزير المالية القطري يزور القاهرة، الشرق الأوسط، تاريخ النشر 06 يناير 2021، الرابط
[25] –حركة حماس و”الإخوان” ترحبان بتقدم جهود المصالحة الخليجية وتدعوان لإنهاء الخلافات بالكامل، الجزيرة نت، 5 يناير 2021، الرابط
رابط المصدر: