حسناء رياض عباس-ماجستير في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية-كلية العلوم السياسية
تقع دولة جنوب السودان في قلب القارة الافريقية بين دائرتي عرض (2-13) شمالاً وبين خطي طول (24-36) شرقا، وتعد دولة جنوب السودان من الدول الحبيسة، تحيط بها الدول من جميع الجهات ولا تطل على أي مسطح مائي، تحدها ست دول هي السودان من الشمال واثيوبيا من جهة الشرق، وكينيا من جهة الجنوب الشرقي، واوغندا من جهة الجنوب، والكونغو الديمقراطية من الجنوب الغربي، وافريقيا الوسطى من الغرب، وتبلغ مساحة جنوب السودان (648052) كم2.
ولقد اكتسب الموقع الاستراتيجي لدولة جنوب السودان أهمية كبيرة في الاستراتيجية (الإسرائيلية)، وذلك لقربه من منابع نهر النيل والذي تسعى (إسرائيل) للاستحواذ عليه، فقد استثمرت (إسرائيل) حالة التنافر والصراع الدائر بين الحكومة السودانية و(الحركة المسلحة) في الجنوب آنذاك، من أجل تعميق حدة ذلك الصراع عن طريق اتباع استراتيجيتها المعروفة بـ(شد الاطراف وبترها) التي وضعها نخبة من ابرز المفكرين في حقبة الخمسينات، والتي على أساسها سعت (إسرائيل) إلى إذكاء الصراع في المنطقة عن طريق اقناع الجنوبيين بأن صراعهم يعد مصيرياً، وهو يدور بين شمال عربي مسلم محتل، وجنوب زنجي مسيحي.
وهذا يعني أن (إسرائيل) اعطت الصراع الدائر في جنوب السودان بعداً حضارياً حينما صورت الحرب في الجنوب على أنها حرب بين الحضارة العربية والحضارة الأفريقية بهدف زعزعة الثقة بين العرب والافارقة، وتعميق الفجوة بين الشمال والجنوب وصولاً الى هدف التفتيت ومن ثم الانفصال.
وعملت (إسرائيل) على دعم انفصال جنوب السودان عبر أدوات مختلفة منها أداة تقديم المعونات الصحية والإنسانية، والمعونات العسكرية والاستخباراتية، أو عبر دعم ناشطين جنوبيين من خلال الالتقاء بهم مباشرة، أو عبر سفارات الدول المجاورة للسودان ولا سيما أثيوبيا، ولقد استفادت إسرائيل من عدة عوامل للتوغل في جنوب السودان، منها حالة الفقر والعزلة التي عاشتها هذه المنطقة دون ادنى مبالاة من دول الجوار العربي، والتحكم والسيطرة التي حققها الدعم السياسي والعسكري الذي كانت تقدمه إسرائيل الى الحركات الملحة في الجنوب في صراعهم ضد نظام الحكم، فضلا عن وجود عدد كبير من اللاجئين السودانيين في إسرائيل واستخدامهم كورقة ضغط للتواصل مع قيادات الدولة الوليدة.
وكما انشغال الدول العربية في المدة الاخيرة بثورات الربيع العربي وما سببته من اضطرابات وازمات سياسية داخلية والذي ساعد إسرائيل في تنفيذ مخططاتها في جنوب السودان من خلال دعم الانفصال، فقد كانت (إسرائيل) أول دولة تبادر بالاعتراف بجنوب السودان بعد الانفصال، وساهمت بشكل كبير في الترويج لهذا الانفصال، حتى تستطيع السيطرة على تلك المنطقة المهمة في حوض نهر النيل، وكما شهدت العلاقات (الإسرائيلية) الجنوب السودانية تنامى وتطوراً ملحوظاً عقب الانفصال مباشرة، وذلك من خلال توقيع عدد من الاتفاقيات للتعاون بين الدولتين في المجالات المختلفة، وتبادل التمثيل الدبلوماسي.
ويمكن القول بشكل عام هناك وجود مصالح عدة لإسرائيل مع دولة جنوب السودان والتي تتمحور بثلاثة مجالات رئيسة وهي:
اولا- الأمني والاستراتيجي:
تسعى إسرائيل إلى تطويق العالم العربي من الجنوب، وقطع أي ارتباط له بالقارة الافريقية من خلال تواجده في جنوب السودان بشكل رسمي، وتلافي نقاط الضعف الاستراتيجي التي عانت منها إسرائيل لسنوات طويلة والمتمثلة بإحاطتها بطوق عربي محكم، والسيطرة على السودان بصورة مباشرة أو غير مباشرة والتحكم بموارده الطبيعية وزيادة الضغط على مصر وحرمانها من عمق استراتيجي هام، كما أن عدم الاستقرار الأمني في السودان سيخلق بؤرة من بؤر التوتر على حدود مصر الجنوبية، فضلا عن ذلك تسعى إسرائيل إلى ابتزاز مصر مائياً عبر التحكم بمياه نهر النيل، وإقامة شبكة من السدود في إثيوبيا وتأليب دول المنبع الواقعة على بحيرة فيكتوريا ضد مصر.
والجدير بالذكر أن توغل إسرائيل في افريقيا عطل على مصر انشاء مشروع قناة “جونقلي ” التي كانت ستؤدي إلى زيادة حصتها من مياه النيل، نتيجة قيامها بتقليل الفاقد من المياه نتيجة التبخر، بالتالي ستدخل مصر في دائرة الابتزازات الغربية وقد ترغمها على تقديم تنازلات رفضتها من قبل، كما تسعى إسرائيل من خلال وجودها في دولة جنوب السودان بآن تؤدي دور أكبر في تمويل جماعات التمرد في دارفور، واستمالة المتمردين في المناطق المختلفة من السودان، مما قد يفتح الباب على مصراعيه لانفصال الولاية الغربية والشرقية في السودان، فضلا عن الضغط على حكومة الخرطوم من اجل تقليل دعمها للقضية الفلسطينية مادياً ومعنوياً، من خلال توريطها في صراعات داخلية.
كما أن الوجود الإسرائيلي في جنوب السودان يوفر لها أداة قوية واقرب لرصد كل المعلومات والاحداث التي تدور في المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بخطوط امداد المقاومة بالسلاح والمال والتحركات الايرانية في المنطقة، وتهدف إسرائيل للسيطرة على البحر الاحمر الذي تعده منفذاً حيوياً، وتحرص على أن تبقيه حراً أمام سفنها خشية من أن يصبح بحيرة عربية يمكن استخدامه في حصارها، تكراراً لما حدث في حربي 1976 و1973، وبهذه الخطوة ستعزز إسرائيل حصارها للدول العربية وستسهل على اجهزتها الأمنية رصد ومتابعة كل التحركات عبر هذا المنفذ.
كما تهدف إسرائيل إلى إقامة قواعد عسكرية موجهة ضد الدول العربية عند المدخل الجنوبي للبحر الاحمر، فضلا عن القواعد الجوية في اثيوبيا وكينيا، تمكنها من مراقبة الحدود الليبية والسودانية، فضلا عن امكانية استخدامها ضد مصر لضرب اهداف منتخبة على الجبهة المصرية، كما تهدف إسرائيل إلى وقف التمدد الايراني في القارة السمراء الذي بدأت مؤشراته تظهر بعد التقارب الاقتصادي بين النظام الايراني ودول القارة بشكل عام والسودان بشكل خاص، الامر الذي تخشاه إسرائيل لما له من تداعيات أمنية وسياسية خطيرة عليها، لاسيما بعد أن تحولت هذه المنطقة لساحة حرب جديدة بين ايران وإسرائيل، فضلا عن ذلك تهدف إسرائيل إلى تحقيق مكاسب أمنية وعسكرية من خلال صفقات بيع الاسلحة التي تدر عليها مبالغ طائلة ولا سيما أنها استغلت وستستغل النزاعات والصراعات الموجودة في هذه المنطقة لتسويق منتجاتها العسكرية.
ثانيا- السياسي:
تسعى إسرائيل لإيجاد كيانات جديدة متفرقة تكون اقرب لها وتقف على مسافة واحدة معها من العداء مع العرب وقضاياه الحساسة، فانفصال جنوب السودان عن السودان قد يمهد الطريق “لانفصالات” اخرى قد تطال دول المنطقة، إذ نشهد هناك مطالبات لكيانات اخرى بالاستقلال عن حكوماتها المركزية منها “جنوب مصر، إقليم دارفور، إقليم كردفان”، كما تهدف إسرائيل إلى ربط الدولة الوليدة بعلاقات دبلوماسية معها وهذا ما أكده اكثر من مسؤول في جنوب السودان، وبالتالي تحديد سياسات دولة الجنوب اتجاه دول المنطقة وقضاياه الحساسة بما يتوافق مع الرؤى والخطط “الإسرائيلية”.
فضلا عن أن إسرائيل تسعى للتخلص من اللاجئين السودانيين والافارقة في تل ابيب، والذي تعدهم بمثابة تهديد استراتيجي ووجودي لها، بعد أن استثمرت هذه القضية لصالحها دوليا وسوقت لنفسها على أنها اكثر دول المنطقة ديمقراطية وانسانية، فقد شرعت بتسيير رحلات جوية مباشرة إلى جوبا تحمل عدد من اللاجئين السودانيين مع مساعدة مالية ووعود بتوفير فرصة عمل لهم، ومن الاهداف السياسية للإسرائيل هو التواصل مع الجاليات اليهودية المتواجدة في القارة السمراء بكل حرية والعمل نقل افرادها إلى تل ابيب.
ثالثا -الاقتصادي:
ستستغل إسرائيل فقرة الدولة الوليدة وانعدام خبراتها، وحاجتها للمساعدة في إدارة مواردها لتحقيق اهدافها الاقتصادية والمتمثلة: في استغلال الثروات الطبيعية الموجودة في اراضي الجنوب، ابرزها النفط والغاز الطبيعي، إذ يحتوي الجنوب وحده على احتياطات نفطية تقدر بنحو(7) مليارات برميل أي ما يعادل (95%) من جملة النفط السوداني، هذا الاحتياط سيكون تحت تصرف إسرائيل التي تعاني بين مدة واخرى من ازمة في مصادر الطاقة، واستغلال الاراضي الزراعية الخصبة التي تساعد إسرائيل بخبراتها في زراعتها واستغلالها الامثل، ليصبح الجنوب السوداني (سلة الغذاء لإسرائيل).
والعمل على إلغاء اتفاقيات النفط الموقعة بين السودان والصين “المنافس الأبرز للولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل في القارة السمراء”، وستذهب تلك العقود بطبيعة الحال إلى الشركات الامريكية والإسرائيلية، وما يعزز ذلك قرار حكومة جنوب السودان إعطاء الشركات الإسرائيلية حق التنقيب عن النفط في ولاية اعالي النيل، وترك اعمال التنقيب في مجال النفط بولاية الوحدة لشركة “شيفرون” الامريكية.
فضلا عن حرمان الدول العربية ولا سيما مصر من السوق الافريقية، إذ تشير الارقام إلى أن الصادرات المصرية للدول الافريقية غير العربية تقدر بنحو (639، 5) مليون دولار سنوياً، ومن المتوقع أن تكون الصادرات الامريكية والإسرائيلية المصنعة في دولة جنوب السودان هي البديل القادم، وامكانية إقامة مشاريع مشتركة عند منابع نهر النيل، لحجز المياه، وتوليد الطاقة الكهربائية، وضبط حركة المياه تجاه مصر السودان، فضلا عن السيطرة على السياحة من خلال إقامة الفنادق في جنوب السودان، وتطوير مطار “جوبا” عاصمة الجنوب الذي سيفح امام الرحلات الجوية القادمة من إسرائيل.
رابط المصدر: