عملية الاستفادة من تلك الثقافات والمفاهيم، لا تتم عن طريق الإسقاطات المفاهيمية من واقع أو نظام فكري إلى آخر مغاير لذلك النظام في المنطلق والوجهة.. طريق الاستفادة والتوظيف الحضاري من مكاسب الثقافات الإنسانية، يتم وفق نظرية التكييف.. بمعنى العمل على هضم ذلك الإنجاز أو المكسب الثقافي…
دائما ولدى كل الشعوب والمجتمعات، تشكل المنظومة المعرفية الذاتية بعناصرها العقدية والثقافية، عنصرا أساسيا لتوازن الكيان المجتمعي. بحيث أن وجود أي خلل في هذه المسألة يعني على المستوى العملي بداية الأفول والاندثار الحضاري.
فالعالم العربي والإسلامي في العصر الحديث، بدأ بالتفكك والضعف والدخول في نفق السيطرة الأجنبية والتخلف الداخلي، كنتيجة طبيعية لما حدث للأمة على مستوى الذات الثقافية والحضارية.
وتنبع أهمية التأكيد على مسألة النظام الفكري الذاتي، والمفاهيم الأصيلة المنبثقة من النظام، من أن التطور العلمي والتكنولوجي الهائل، الذي أسقط الحدود، وأوصل مناطق العالم ببعضها البعض، والتوسع المعلوماتي الهائل كل هذه التطورات قد تجرف الإنسان إلى مهاو سحيقة، أو في أحسن التقادير تحوله إلى لاهث وراء الجديد من التكنولوجيا والمعلومات المصنعة..
لهذا فإن القاعدة الأساسية، للتعامل مع هذه التطورات، هي تأسيس حالة من التوازن الاجتماعي حتى يتمكن المجتمع من ملاحقة التطورات دون إضاعة الذات.. ولا شك أن تأسيس عملية التوازن الاجتماعي، لا تتم إلا على قاعدة النظام الفكري المنبثق من المنظومة المعرفية الذاتية، والعمل على تفعيل عناصر ذلك النظام في الوجود الاجتماعي الشامل.
فوظيفة النظام الفكري الأساسي، هي صياغة الكيان المجتمعي، بما ينسجم والمنطق العقدي والتاريخي بتلك الجماعة البشرية.. وفي كل الحقب التاريخية التي مر بها الإنسان على وجه هذه البسيطة، كان لغياب النظام الفكري أو ضموره الدور الأساسي والجوهري، في دخول الكائن البشري في نفق اللاتوازن النفسي والاجتماعي.
فالتاريخ الحقيقي الذي يتجه إلى صنع المنجز الحضاري لأي مجتمع يبدأ من اتساق العلاقة بين الحركة الاجتماعية والنظام الفكري بحيث تكون الحركة الاجتماعية مجسدة لعناصر النظام الفكري في المجتمع وهذا ما يقربنا من المفهوم الاجتماعي للزمن.
إن النظام الفكري بعناصره العقدية والحضارية، بمثابة القدرة الخلاقة المستمرة التي تمد الكيان المجتمعي بأسباب وعوامل تحقيق التوازن بين الحاجات المادية والمعنوية، الروح والجسد، المصلحة الخاصة والعامة، الدولة والمجتمع، وهكذا يكون النظام الفكري هو صانع التضامن بين أبناء المجتمع الواحد، وبه يسعى أبناء المجتمع جميعاً إلى تحصيل الكمالات الإنسانية، والدخول في غمار منافسة الأمم والشعوب على بلوغ سبل العلم والمدنية والحضارة.
شروط التكييف:
ومن الطبيعي أن قولنا إن لكل بيئة حضارية وثقافية، ومنظومة معرفية مفاهيمها الخاصة ذات الدلالة المتناغمة مع تلك البيئة أو المنظومة المعرفية، لا ينفي مسألة الاستفادة من إنجازات الثقافات الإنسانية الأخرى، والمفاهيم العلمية الجديدة.. بل إن عملية الاستفادة من تلك الثقافات والمفاهيم، لا تتم عن طريق الإسقاطات المفاهيمية من واقع أو نظام فكري إلى آخر مغاير لذلك النظام في المنطلق والوجهة.. إننا نرى أن طريق الاستفادة والتوظيف الحضاري من مكاسب الثقافات الإنسانية، يتم وفق نظرية التكييف.. بمعنى العمل على هضم ذلك الإنجاز أو المكسب الثقافي أو المفاهيمي، وإدخاله في المنظومة المعرفية الجديدة (الذاتية). وحتى تكون هذه المسألة عملية وذات جدوى، نؤكد أن شروط التكييف هي الآتي:
1- الاستيعاب: إن غموض المصطلح، أو عدم وعيه بشكل مناسب، يعد أحد الأسباب الرئيسية، التي تؤدي إلى الاقتباس الفوضوي واللاواعي للمصطلحات وأطرها المعرفية. لهذا فإن من الشروط المهمة لعملية الاستفادة من المنجز الثقافي الإنساني، هو وضوح المصطلح واستيعاب عناصره، وفهم موقعه في المنظومة المعرفية الكلية، فحينما يتوفر الفهم والاستيعاب لذلك المصطلح، تسهل عملية التفاعل معه، وتتأكد سبل هضمه وتكييفه مع المنظومة المعرفية الجديدة.
2- التجديد والإبداع: إننا على ضوء التطورات التي تجري في ساحتنا على كل الأصعدة والمستويات، ينبغي أن نقوم بمراجعة فكرية – ثقافية، نعود من خلالها إلى أصولنا الفكرية ومفاهيمنا الأصيلة، كخطوة أولى في سبيل إعادة تأسيس لمفاهيمنا ومقولاتنا الفكرية والثقافية، لكي نشارك بفكر فاعل وثقافة ناهضة ومبدعة في تطورات العالم.. وعلى قاعدة التجديد والإبداع في حقل الفكر والثقافة، نتمكن من التعاطي المقتدر على هضم وتكييف المعارف والعلوم والمفاهيم الإنسانية الجديدة. إذ لا يمكننا القيام بعملية الهضم الثقافي، ونحن نعيش الجمود في منظومتنا المعرفية.
إن الشرط الضروري الذي يؤهلنا لاستيعاب منجزات الإنسان ومفاهيمه الجديدة، هو الانطلاق من أرضية ثقافية حيوية – فاعلة تنشد الحقيقة وتسعى نحو إدراكها واستيعابها بما يخدم وضع إنسانها المعاصر، لأن “أية أمة لا تستطيع على كل حال أن تحلم بالخروج من تأخرها واستدراك ما فاتها من تقدم إلا على قاعدة إحياء ثقافتها، وبالدرجة التي تنجح فيها باستعادة أصالتها وقيمها الحية” (راجع الوعي الذاتي، برهان غليون، ص 135).
وبالاجتهاد والتجديد والإبداع، تتطور الثقافات وتنمو، وتتفتح إمكاناتها وتنفتح على حريات وآفاق ومطامح إنسانية جديدة.
وجماع القول: إن المفاهيم والمصطلحات تشكل نسقاً متكاملاً، بحيث أن كل مفهوم جزئي يستدعي الآخر، ليشكلا منظومة متكاملة، وإن انتزاع مفهوم من نسق حضاري مغاير، يؤدي إلى عدم التكامل على المستوى المفهومي، مما يؤدي إلى غياب النسق النظري المتكامل.. ويشير إلى هذه المسألة المرحوم (مالك بن نبي) بقوله: فالمعادلة الاجتماعية للفرد في العالم غير الأوروبي تختلف كثيراً عن المعادلة الاجتماعية للفرد الأوروبي، حيث أن الواقع الإنساني حسب معادلتين:
الأولى: معادلة بيولوجية تسوي بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل مكان بحيث يستطيع هذا كل ما يستطيع الآخر، إلا فيما فضل الله فيه بعض الأفراد على الآخرين.
والثانية: معادلة اجتماعية تختلف من مجتمع لآخر، وفي المجتمع الواحد تختلف من عصر إلى آخر حسب الاختلاف في الظروف الاجتماعية والثقافية ودرجة النمو والتخلف (مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، ص 67).
وتأسيساً على ما ذكر أعلاه نقول: إن هناك علاقة سببية تربط المصطلح بالواقع والبيئة المحلية.. بحيث تكون المصطلحات في حقيقتها الثقافية والاجتماعية، كاستجابة واعية لمعطيات تاريخية يمر بها المجتمع.
وهذه المعطيات وتداعياتها هي التي تفرز الحاجة إلى المصطلح في البناء النظري، والنظام الفكري للمجتمع، حتى يسير بعد ذلك وفق سياق هذا المصطلح.
فالمصطلح يعبر عن الروح العامة، ونظام الأفكار، وقواعد القانون السائدة في مجتمع ما.. لذلك فهو جزء من المعادلة الاجتماعية، ويضرب بجذوره في الكيان المجتمعي.. ودائما المصطلح الذي يأتي من خارج إطاره التاريخي والثقافي، يبقى مشلولاً، ولا يشكل مصدراً للتعبئة الحسنة والتحشيد المجتمعي.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/39078