تقف المكونات الكردية في سوريا، وتحديدًا تلك المكونات المنضوية في إطار “الإدارة الذاتية” وذراعها العسكرية “قوات سوريا الديمقراطية”، أمام موقف ميداني تشوبه ضبابية كبيرة، تقف حياله تلك المكونات للمرة الثالثة منذ عام 2016، وهو موقف يبدو في جوهره مشابهًا للمرات الثلاث السابقة، خاصة من حيث ماهية الجهة التي تشكل “تهديدًا وجوديًا” على الأكراد في سوريا، ألا وهي تركيا، لكن حقيقة الأمر أن هذه المرة تختلف عن المرات السابقة في عدة عناصر جوهرية، أهمها المشهد الإقليمي والدولي المغاير لما كان الحال عليه خلال العمليات العسكرية التركية الثلاث السابقة.
من نقاط الاختلاف الأساسية أيضًا حقيقة أن الموقف الميداني والتكتيكي لقوات سوريا الديمقراطية يبدو حرجًا بشكل أكبر من كافة المرات السابقة، وهو ما يجعل من الضروري بحث الخيارات الميدانية المتاحة لهذه القوات، خاصة في ظل تزايد احتمالات بدء الجيش التركي للجانب البري من العملية العسكرية “المخلب – السيف” التي بدأ جانبها الجوي في العشرين من الشهر الماضي.
يبدو في الوقت الحالي، وبالنظر إلى قناعة قوات سوريا الديمقراطية أن ميزان القوى في حالة اندلاع جولة ثالثة من القتال لا يمنحها أفضلية قتالية نوعية تسمح بالصمود على الأرض، خاصة لو وضعنا في حسباننا النتائج الميدانية التي أسفرت عنها العمليات العسكرية التركية الثلاث السابقة، يبدو خيار التواصل مع الجيش السوري ومنحه سيطرة كاملة أو شبه كاملة على كافة الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا، هو الخيار الأقرب أمام قوات سوريا الديمقراطية؛ لتجنب تدمير ما تمتلكه من قدرات بشرية وتسليحية.
حقيقة الأمر أن هذا الخيار سبق وتم الجنوح إليه -ولو بشكل جزئي- في مناسبتين سابقتين، وبالتالي يجب أولًا مراجعة ما تحقق في هذا الإطار سابقًا، ومن ثم النظر في احتمالات نجاح هذا الخيار إذا ما تم تنفيذه بشكل كامل وسريع في النطاق الشمالي والشمالي الشرقي السوري، وكذلك في بقية المناطق التي تتداخل فيها السيطرة الكردية مع السيطرة السورية، خاصة في نطاق شرق الفرات ومحافظة الحسكة.
نظرة عامة على الوجود التركي في سوريا
تظهر الخريطة المرفقة المناطق التي توجد فيها القوات التركية والوحدات المسلحة الرديفة لها في النطاق الشمالي والشمالي الشرقي السوري، وتبلغ مساحتها مجتمعة ما يناهز 16 ألف كيلو متر مربع، وتنقسم إلى ثلاث مناطق أساسية، منها منطقتين تتصلان جغرافيًا ببعضهما البعض في الجانب الغربي من الحدود المشتركة، وتضمان مناطق تتبع إداريًا محافظتي إدلب وحلب، في حين توجد المنطقة الثالثة في قطاع منفصل في القسم الأوسط من الحدود المشتركة، وتضم مناطق تتبع إداريًا لمحافظتي الرقة والحسكة.
تضم المناطق الثلاث مدنًا مهمة في الشمال السوري، مثل مدن الباب ورأس العين وتل أبيض وعفرين وأعزاز. السيطرة على المناطق الثلاث كانت حصيلة ثلاث عمليات عسكرية أساسية نفذتها القوات التركية منذ عام 2016؛ بهدف رئيس وهو التأسيس التدريجي لـ “حزام أمني” على الجانب السوري من الحدود المشتركة، بعمق 30 كيلو مترًا.
خلفية العمليات العسكرية الثلاث التي نفذتها تركيا في هذا النطاق بدأت عمليًا أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين أطلق حزب العمال الكردستاني سلسلة من العمليات ضد الأراضي التركية انطلاقًا من سوريا، ووصلت هذه العمليات إلى ذروتها مطلع عام 1998، مما فاقم من التوتر بين أنقرة ودمشق، وحينها حشدت أنقرة قوات كبيرة على حدود البلدين، مهددة باجتياح الجانب السوري منها إذا استمرت دمشق في توفير ملجأ آمن لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وعناصر حزبه.
عقب وساطات إقليمية لاحتواء الأزمة، وقع البلدان في أكتوبر 1998 اتفاقًا أمنيًا تمت تسميته “اتفاقية أضنة”، أهم بنودها كان البند الثالث، الذي يعطي لتركيا الحق في ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، لمسافة تصل إلى خمسة كيلومترات داخل الأراضي السورية، وهو البند الأساسي الذي استندت إليه تركيا، في كافة اختراقاتها للأراضي السورية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.
لكن في يوليو 2012 وبعد سنوات من الهدوء بين الجانبين، أصدرت الحكومة التركية تحذيرًا شديد اللهجة للحكومة السورية، متهمة إياها بالعودة إلى دعم حزب العمال الكردستاني، والفرع السوري له “حزب الاتحاد الديمقراطي”، واتهمت أنقرة دمشق بتسليمها المدن المحاذية للحدود المشتركة، لعناصر الحزبين، من أجل تنفيذ هجمات على جنوب تركيا، وهي اتهامات استمرت انقرة في كيلها لدمشق خلال العامين التاليين، مع اقتراحها عام 2014، إقامة منطقة عازلة تفصل بين المناطق المحيطة بمدينة “عفرين” والمناطق المحيطة بمدينة عين العرب “كوباني”، وهما النطاقان الأهم في منظومة الإدارة الذاتية للأكراد في الشمال السوري، لكن لم تتجاوب دمشق مع هذا الطلب، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الدولي اللذان كان يركزان جهودهما في تلك المرحلة على مواجهة تنظيم داعش، وكان لقوات سوريا الديمقراطية دور أساسي في هذه الجهود.
أوعزت الحكومة التركية للبرلمان في أكتوبر 2014 بالموافقة على طلبها السماح للجيش التركي بالتدخل في الشمال السوري، وبدأت أنقرة في تنفيذ خطتها التدريجية لإنشاء منطقة عازلة على طول الحدود مع سوريا، ومهدت لبدء هذه الخطة عبر دخولها العسكري الأول للأراضي السورية، في 22 فبراير 2015، والذي من خلاله وصلت إلى قرية “قره قوزاق” في محافظة حلب، وقامت بنقل ضريح جد مؤسس الدولة العثمانية “سليمان شاه” إلى الأراضي التركية لفترة وجيزة، ومن ثم إعادته للداخل السوري، وتحديدًا إلى قرية “أشمة”، وقد شاركت في هذه العملية نحو 50 دبابة ومئة آلية مدرعة، ومئات الجنود، وذلك لتأمين عملية نقل الضريح.
عقب ذلك، بدأ سلاح الجو التركي في ممارسة أنشطته القتالية في الأجواء السورية منذ يوليو 2015. وفي 24 أغسطس 2016، بدأ الجيش التركي العملية العسكرية الأولى في خطة فرض المنطقة العازلة على الحدود مع سوريا، تحت اسم “درع الفرات”، والتي استمرت حتى أواخر مارس 2017، ونتج عن هذه العملية السيطرة على مثلث تبلغ مساحته 1900 كيلو متر مربع، يمتد ما بين مدن جرابلس شرقًا، وأعزاز غربًا، والباب جنوبًا، وهو ما سمح بقطع التواصل بين مدينتي عفرين ومنبج، وبالتالي شق منطقة السيطرة الأساسية للأكراد شمالي سوريا، ودفعهم إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات.
أسس الجيش التركي في هذا المثلث نحو 22 نقطة مراقبة، ومن ثم أطلق في يناير 2018\ العملية الثانية في هذه الخطة وهي “غصن الزيتون”، بهدف أساسي وهو السيطرة على مدينة عفرين، وتأمين كامل نطاق محافظة إدلب، وهو ما تحقق بالفعل بحلول مارس من نفس العام، وبهذا تكونت المنطقتان الظاهرتان في الخريطة المرفقة باللون الأخضر، وتضمان محافظة إدلب وأجزاء من محافظة حلب، وهما تتاخمان عدة مدن تعد من أهم الأهداف التي تسعى تركيا -في الوقت الحالي- إلى السيطرة عليها، وهي مدن عين العرب ومنبج “شرقي الخريطة”، ومدينة تل رفعت التي تقع في الجيب الصغير الذي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية شمال مدينة حلب.
أنشأ الجيش التركي بعد انتهاء عملية “غصن الزيتون” عددًا كبيرًا من النقاط العسكرية والمعسكرات في نطاق ريفي حلب الشمالي والشرقي، عبر سلسلة من التحركات للوحدات العسكرية التركية، في المناطق الشمالية لمحافظة إدلب التي أسست عشرات نقاط المراقبة في نطاق ريف حلب الغربي، وريف إدلب الجنوبي، وريف حماة الشمالي، وريف اللاذقية الشرقي؛ وذلك بالاتفاق مع إيران وروسيا، لمراقبة ما يعرف بمناطق “خفض التصعيد”.
بحلول سبتمبر 2018، وطبقًا لتفاهمات أستانا، تم الاتفاق على وجود 12 نقطة مراقبة تركية، لمنطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، وهي تختلف في وضعها القانوني عن قواعد الجيش التركي في عفرين، أو في المنطقة التي سيطرت عليها تركيا خلال عملية “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
انتقلت تركيا عام 2018 للتركيز على القطاع الشرقي من الحدود المشتركة مع سوريا في اتجاه الأجزاء الشمالية من محافظة حلب، بجانب بعض المناطق التابعة إداريًا لمحافظتي الحسكة والرقة، وتحديدًا القطاع الرابط بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، بعمق يصل إلى 25 كيلو مترًا، وقد سيطرت أنقرة بالفعل على هذا القطاع عبر العملية العسكرية الثالثة التي تمت تسميتها “نبع السلام”، وتم إطلاقها خلال الفترة بين شهري يناير ومارس 2018.
أسس الجيش التركي على إثر هذه العملية المزيد من نقاط المراقبة ومحطات الاستخبارات، ليبلغ العدد الإجمالي لهذه النقاط نحو 120 نقطة في كافة المناطق التي تمت السيطرة عليها خلال العمليات العسكرية التركية الأربع التي تم تنفيذها في شمال وشمال شرق سوريا، علمًا بأن الاستخبارات التركية تشرف بشكل مباشر على عمل جميع الجهات الفاعلة الأخرى المُشارِكة في أمن المنطقة والتي تُعَدّ السلطة العليا في مناطق تسيطر عليها تركيا بشكل كامل، مثل عفرين وأعزاز والباب وجرابلس.
كذلك أسست وزارة الداخلية التركية فرقة المهام السورية التابعة للقوات الخاصة التركية في مديرية الأمن العام التركي، وهي القوة الأمنية التركية الضاربة في المدن السالف ذكرها، وتتألّف الفرقة من 30 وحدة عسكرية، وكذلك أنشأت تركيا وحدة مهام خاصة سورية تتبع للشرطة المدنية في عفرين ومناطق درع الفرات، ولكنها عمليًا تحت إمرة الاستخبارات التركية، وهي تنفّذ مهامها إلى جانب القوات الخاصة التركية.
تعقيدات التعاون بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية
بالعودة إلى خيار “التعاون مع الجيش السوري” والذي يبدو أحد أهم “الخيارات” الواقعية أمام قوات سوريا الديمقراطية في هذه المرحلة الحساسة، ربما من المفيد العودة إلى مآلات محاولات التعاون بين الجانبين، والتي مثلت عملية “غصن الزيتون” التركية عام 2018 المثال الأول والأبرز على طبيعة هذا التعاون وإمكانية تحققه على الأرض.
كانت العلاقة بين الجيش السوري ومكونات “الإدارة الذاتية” في شمال شرق البلاد وفي نطاق شرقي الفرات، تشوبها خلال السنوات الماضية عدة تعقيدات وخلافات، خاصة في المناطق التي تتداخل فيها سيطرة كلا الجانبين، مثل محافظة الحسكة أقصى شرقي البلاد، ومناطق مثل حيي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب، ومدينة تل رفعت شمالي حلب، وهي جميعها تعقيدات تعود إلى محاولات الإدارة الذاتية فرض “حكم ذاتي” في مدينة عفرين وغيرها من المناطق التي سيطرت عليها في شمال وشمال شرق سوريا.
رغم هذه التعقيدات، فإن قوات سوريا الديمقراطية -مدفوعة بخسارتها التواصل الجغرافي بين مدينتي عفرين ومنبج خلال عملية “درع الفرات” عام 2017- اضطرت إلى الاستغاثة بالقوات السورية قبيل بدء الجيش التركي عمليته العسكرية الثانية “غصن الزيتون” في يناير 2018. في ذلك التوقيت، وضعت دمشق بعض الشروط لقيامها بالتعاطي مع التحركات العسكرية التركية التي كانت مرتقبة في ذلك التوقيت، على رأسها عودة المؤسسات الحكومية السورية لممارسة مهامها بشكل كامل في المناطق الواقعة تحت سيطرة الأكراد قرب الحدود مع تركيا، خاصة مدينة عفرين، وكذلك انتشار وحدات الجيش وقوات الشرطة السورية داخل عفرين وحولها وعلى خط الحدود مع تركيا.
بدا في فبراير 2018 أن كلا الجانبين قد توصلا إلى حل وسط يسمح بوجود الجيش السوري داخل مدينة عفرين، وتوزيع بعض نقاطه على الحُدود المُواجهة لِتركيا، مع بقاء الوحدات العسكرية الكردية داخل المدينة، إلا أن هذا الاتفاق لم ينفذ فعليًا، بعد أن أبلغت تركيا روسيا أنها ستقوم بتنفيذ هجومها طالما ظلت القوات الكردية في عفرين ومحيطها.
وفي نهاية المطاف، شرعت أنقرة في عمليتها العسكرية، وسيطرت على مدينة عفرين. رغم هذه النتيجة، فإن الوقائع الميدانية أظهرت أنه ربما كان هناك جانب “خفي” من جوانب التنسيق بين قوات سوريا الديمقراطية والجيش السوري، خاصة فيما يتعلق بتنقل التعزيزات الكردية من مدينة عين العرب “كوباني” نحو مدينة عفرين، وهو ما كان يتم عمليًا ضمن مناطق يسيطر عليها الجيش السوري.
التجربة الثانية للتعاون بين الجانبين كانت خلال العملية العسكرية التركية الثالثة “نبع السلام” في أكتوبر 2019، حيث بدأت كل من موسكو والقاهرة بعد أيام من بدء العملية التركية، في مشاورات مع كل من دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، استهدفت إيجاد صيغة ولو مؤقتة تسمح بعزل الوحدات الكردية عن التماس مع قوات الجيش التركي، وإحلال وحدات من الجيش السوري مكانها، ما يحبط المبرر الأساسي الذي تتخذه أنقرة سببًا لتحركاتها العسكرية، وهو ودود الوحدات الكردية قرب الحدود المشتركة بين تركيا وسوريا.
تم حينها التوصل إلى اتفاق يتكون من مرحلتين أساسيتين يقضي بانتشار وحدات من الشرطة العسكرية الروسية والجيش السوري في نقاط محددة شمال وشرق البلاد، وانسحاب الوحدات الكردية لمسافات تتراوح بين 30 و40 كيلو مترًا في عمق مناطق شرقي الفرات، وقد تقاطع هذا الاتفاق مع اتفاق رعته الولايات المتحدة بين الوحدات الكردية وتركيا التزمت فيه الوحدات الكردية بالانسحاب إلى الداخل السوري.
وقد دخلت الوحدات العسكرية السورية حينها بالفعل -بموجب المرحلة الأولى من هذا الاتفاق- إلى مدينة عين العرب “كوباني” وريفها، وعين عيسى شمال غرب الرقة، ومناطق بريفي الرقة والحسكة، ومناطق أخرى في محيط مدينتي تل رفعت والقامشلي، بجانب مدينة منبج التي دخلتها القوات السورية للمرة الأولى في أكتوبر 2019.
كذلك ثبتت موسكو وجودها الدائم في مطار مدينة القامشلي. في ديسمبر 2019. وحاولت موسكو الإشراف على تنفيذ المرحلة الثانية من هذا الاتفاق، والتي شملت نشر الشرطة العسكرية الروسية في كل من بلدتي عامودا وتل تمر بالحسكة، ومدينة عين عيسى بالرقة، وانتشار قوات حرس الحدود السورية على طول الشريط الحدودي مع تركيا، بدءًا من مدينة منبج بريف حلب الشرقي، مرورًا بمدينة عين العرب “كوباني”، وصولًا إلى مدينة الدرباسية والمعبر الحدودي “سيمالكا – فيشخابور” الرابط بين الأراضي السورية وكردستان العراق.
لم يتم تنفيذ المرحلة الثانية من هذا الاتفاق بشكل كامل -خاصة ما يتعلق بانتشار شرطة الحدود السورية على كامل الشريط الحدودي مع تركيا- لكن بغض النظر عن هذا أسهم هذا الاتفاق بشكل رئيس في تجنيب مدن منبج وعين العرب وتل رفعت مصير مدينتي رأس العين وتل أبيض اللتين تمت السيطرة عليهما وعلى النطاق الرابط بينهما من جانب القوات التركية والوحدات الموالية لها خلال تلك العملية.
إلا أنه يجب الوضع في الحسبان أن هذه النتيجة كانت بشكل أساسي نتيجة لتوافق روسي – تركي، خاصة بعد الاشتباك المحدود الذي تم في يونيو 2019 بين القوات السورية ونقاط المراقبة التركية خلال عمليات الجيش السوري في جنوب إدلب وشمال حماة. هذه النتيجة الميدانية ربما كانت من ضمن الأسباب التي دفعت كلًا من دمشق وأنقرة لاحقًا إلى الدخول في اشتباك عسكري مباشر عدّته انقرة بمثابة عملية عسكرية رابعة أطلقت عليها اسم “درع الربيع”، دارت رحاها في فبراير 2020، وتبادل فيها كلا الجانبين الغارات الجوية، وحاصرت خلالها القوات السورية نحو اثني عشرة نقطة مراقبة تركية، في ريف إدلب الجنوبي، وريف حماة الشمالي، وريف حلب الغربي، وربما يجب وضع هذا الاشتباك في الحسبان لتحديد مدى جاهزية كلا الطرفين للاشتباك مع الطرف الأخر بشكل مباشر.
هل تلجأ قوات سوريا الديمقراطية إلى الخيار “السوري”؟
بالعودة إلى الموقف الحالي فيما يتعلق بعملية “المخلب – السيف” العسكرية التركية التي تم إطلاق جانبها الجوي في العشرين من الشهر الماضي يمكن القول إن تركيا تستهدف من تنفيذها إكمال خطة “المنطقة العازلة”، بحيث يتم السيطرة على مدن رئيسة مثل عين العرب “كوباني” ومنبج وعين عيسى وتل تمر وتل رفعت، بحيث يكون الحد الشمالي لهذه المنطقة هو خط الحدود المشتركة، والحد الجنوبي لها هو طريق “إم-4″، بعرض من 20 إلى 30 كيلو متر، وصولًا إلى الحدود مع كردستان العراق، لتتم بذلك عملية إبعاد القوات الكردية عن الحدود المشتركة بين تركيا وسوريا.
وإذا ما نظرنا لتجربة عام 2019، يمكن القول -نظريًا- إن الاستعانة بالقوات السورية وتمكينها من الانتشار في المدن الرئيسة السالف ذكرها، قد منع أنقرة من محاولة دخولها، ولذا يبدو من التطورات الميدانية التي تم رصدها منذ يونيو الماضي أن قوات سوريا الديمقراطية والقوات السورية، قد استشعرتا مبكرًا قرب انطلاق العملية العسكرية التركية الجديدة، فبدأت القوات السورية في تعزيز مواقعها التي كانت توجد فيها حسب اتفاق 2019، خاصة في نطاق أرياف حلب والحسكة والرقة، بجانب وصول فرقة مظلية سورية في يوليو الماضي إلى مطار مدينة القامشلي شرقي البلاد، وانتشارها في مدن عين عيسى وتل رفعت والباب ومنبج وعين العرب “كوباني”.
هذه التعزيزات السابقة تضاف إلى تعزيزات أخرى تابعة للفرقة الخامسة والعشرين مهام خاصة بالجيش السوري، تم رصدها خلال الأيام الماضية أثناء تجمعها شرقي وجنوبي مدينة حلب، ومن ثم انتقالها إلى محيط بحيرة الأسد في محافظة الرقة، علمًا بأن هذه القوات قد تدربت خلال الفترة الماضية على عمليات الإنزال الجوي من المروحيات. ويضاف هذا إلى تعزيزات سورية – روسية مشتركة في ريف حلب الشمالي، في مدن “مرعناز” و”تل رفعت” و”الشيخ عيسى”، قرب خط التماس غرب مدينة “الباب”، وهي الجبهة الأقرب التي يتوقع أن تتقدم فيها القوات الموالية لتركيا.
المعضلة الأساسية في هذه التعزيزات تتعلق في عدم وضوح الغرض الأساسي منها، وما اذا كانت جزءًا من تفاهم “جديد” بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية أم تطبيقًا للتفاهم السابق، لكن بغض النظر عن هذه المعضلة يمكن القول إن الوجود العسكري السوري في هذه النطاقات يمثل تحديًا مهمًا أمام القوات التركية، وإن كان هذا التحدي قد تأثر بعدم تطبيع العلاقات بين دمشق والإدارة الكردية الذاتية حتى الآن، وهو ما كانت له انعكاسات سلبية على مدار الأشهر السابقة، رغم تصاعد التهديدات التركية.
ففي أبريل الماضي، دخل كلا الجانبين في مواجهة تبادلا فيها حصار المناطق، حيث حاصرت القوات السورية حيي الشيخ مقصود والأشرفية اللذين توجد فيهما القوات الكردية في مدينة حلب، في حين منعت حواجز التفتيش التابعة لقوات “الأسايش” الكردية مرور الإمدادات إلى القوات السورية المتواجدة في مدينتي الحسكة والقامشلي. وعلى الرغم من انتهاء هذه الأزمة بشكل سريع، فإنها كانت دليلًا على حالة عدم الثقة المستمرة بين الجانبين، خاصة أن الطرف الكردي يتحسس من نوايا سورية لإنهاء الحالة القائمة حاليًا في حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب وجيب “تل رفعت” الكردي في ريف حلب الشمالي.
الوجود العسكري السوري في النطاقات التي يحتمل أن تستهدفها تركيا في القسم البري من عمليتها العسكرية “المخلب-السيف” يضاف إليه وجود عسكري مهم لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، حيث تحتفظ موسكو بنقاط عسكرية شمال طريق “إم-4” سواء في نطاق عين العرب “كوباني” أو شرقي مدينة رأس العين وصولًا إلى القامشلي، في حين تنتشر النقاط الأمريكية في شرقي القامشلي وصولًا إلى الحدود مع كردستان العراق، وهي جميعها نقاط تم إخلاء بعضها بشكل جزئي ومؤقت، لكنها حتى الان م ازالت تمثل دليلًا على وجود أو عدم وجود تفاهم تركي مع كل من موسكو وواشنطن بشأن العملية العسكرية المقبلة.
وهنا لابد من الإشارة إلى ان دخول المقاتلات التركية للأجواء السورية خلال الأيام الماضية قد تم بالتنسيق مع التحالف الدولي والقوات الروسية، خاصة فيما يتعلق بالضربات الجوية التركية للمواقع الكردية في محافظة دير الزور وجنوب شرق محافظة الحسكة.
بالعودة إلى الوجود العسكري السوري، يمكن القول إن هذا الوجود -وتعزيزه- ربما يكون عاملًا ذا حدين في تحديد ما إذا كان الجانب البري من العملية العسكرية التركية سوف يبدأ أم لا، فأنقرة كانت سابقًا -عام 2019- قد ربطت بين قبولها بوجود القوات السورية على الحدود المشتركة وابتعاد القوات الكردية بشكل دائم وتام عن خط الحدود.
يضاف إلى هذا الأمر حقيقة أن سلاح الجو التركي قد استهدف خلال الأسابيع الماضية بشكل مباشر وحدات الجيش السوري الموجودة قرب مدينة تل رفعت، وكذا موقع تابع للجيش في قرية “جيشان” في الريف الشرقي لمدينة عين العرب “كوباني”، وبالتالي يمكن فهم أن الوجود العسكري السوري في النطاقات الكردية ربما لن يكون له حيال العملية التركية القادمة نفس التأثير الذي مثله على العمليات العسكرية التركية عام 2019.
لذا يمكن من خلال هذه الزاوية فهم الاقتراحات التي قدمها قائد القوات الروسية في سوريا العميد ألكساندر تشايكو لقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبادي خلال اجتماع ضمهما في مطار القامشلي مؤخرًا، وتمحورت حول سحب قوات سوريا الديمقراطية الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من مناطق منغ وتل رفعت شمال حلب باتجاه شرقي الفرات، وسحب عناصر المشاة التابعة لها من المناطق الحدودية باتجاه حي الشيخ مقصود في مدينة حلب، ومن مدينة منبج في ريف حلب الشرقي نحو شرقي الفرات، ومن مدينة عين العرب “كوباني” نحو الجنوب، على أن تستلم الشرطة العسكرية الروسية أو قوات سورية مهام الانتشار في هذه المناطق، وهو ما يعني عمليًا أن وجهة النظر الروسية -وربما الأمريكية أيضًا- ترى أن وجود الجيش السوري على الحدود مع تركيا يجب أن يقترن بانسحاب القوات الكردية نحو شرق الفرات.
سيناريوهات المرحلة المقبلة في الشمال الشرقي السوري
بالنظر إلى ما تقدم، يمكن القول إن العامل الأوحد في منع أنقرة من تنفيذ الجانب البري من عملية “المخلب-السيف” هو تولد اتفاق برعاية روسية وأمريكية لانسحاب القوات الكردية مما تبقى من مناطق متاخمة للحدود المشتركة بين سوريا وتركيا، بما في ذلك المدن الرئيسة عين العرب “كوباني” ومنبج وعين عيسى وتل تمر وتل رفعت. في حالة تحقق ذلك، ستكون أنقرة أمام خيار إكمال الجانب الجوي من عمليتها العسكرية، إلى أن يتم الانسحاب الكامل للقوات الكردية من محيط الخط الحدودي، أو إيقاف العملية بشكل كامل.
لكن على الجانب الآخر، وفي حالة استمرار قوات سوريا الديمقراطية على موقفها الحالي، تظهر سيناريوهات عدة لطبيعة التقدم البري للقوات التركية، وهنا يظهر السيناريو الأقرب وهو أن يكون هذا التقدم على شكل “عملية محدودة”، تستهدف فقط مناطق غرب الفرات، وتحديدًا جيب “تل رفعت” في ريف حلب الشمالي، بجانب النطاق الواقع شرق مدينة الباب، خاصة مدينة منبج وريفها، مع تجنب مدينة “عين العرب”؛ نظرًا إلى خصوصيتها. هذا السيناريو يبدو أقرب لعدة أسباب، أهمها أنه لا يتصادم بشكل مباشر مع الوجود الأمريكي والروسي شرق الفرات، وإن كانت العملية التركية الواسعة تبقى مطروحة على الطاولة، خاصة في ظل عدم وضوح الموقف الأمريكي من هذه العملية.
أخيرًا، يمكن القول إن لجوء قوات سوريا الديمقراطية -مجددًا- إلى الجيش السوري وكذا تلويحها بخطورة العملية التركية على جهود التصدي لتنظيم داعش -خاصة في ظل تزايد مؤشرات عودة التنظيم لنشاطه السابق شرق الفرات وآخر إرهاصات هذه العودة كان هجوم عناصر التنظيم على دورية للجيش السوري في قرية “المسرب” غربي دير الزور- ربما قد يكون مفيدًا على المستوى التفاوضي، لكنه عمليًا لن يؤدي -على الأرجح- إلى نفس النتائج التي من خلالها احتفظ الأكراد بالقوام الأساسي لوجودهم على الحدود التركية عام 2019، وبالتالي يقف المكون الكردي أمام خيار الانسحاب التام من الخط الحدودي، أو مواجهة عملية عسكرية تركية ستكون تفاصيلها مشابهة بشكل كبير لعملية “درع الفرات” عام 2016.
.
رابط المصدر: