بعد أكثر من تسع سنوات على ثورة يناير في مصر، والإطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك، تبدو المعارضة المصرية في وضع شديد الاضطراب، بل تبدو الحياة السياسية في مصر، وهي في حالة تجريف وجدب، حتى بات من الصعب تلمس آثار الميراث السياسي المصري العميق والراسخ على صعيد المعارضة منذ ثورة عرابي في القرن التاسع عشر.
وفيما أوحت ثورة يناير بفرص كبيرة لإحياء النشاط السياسي في مناخ ديمقراطي ومشاركة شعبية، اتجهت الأوضاع عكس ذلك تمامًا، وكان من نتائج الاضطراب السياسي والأمني، والانقلاب على حكم الرئيس المنتخب، محمد مرسي، أن تآكلت سريعًا الآمال المعقودة على الثورة، ومنها الحريات السياسية وتوفير مناخ مناسب لنشوء معارضة سياسية فاعلة ومؤثرة، ومؤهلة لتمثيل المجتمع المصري بكل مكوناته واتجاهاته.
معارضة مأزومة
تعيش المعارضة المصرية، واقعًا مأزومًا ذا أبعاد ثلاث: الأول: نابع من داخلها بسبب استمرار أزمة عدم الثقة بينها، فضلًا عن استمرار التباينات الأيديولوجية لاسيما بين الإسلاميين والعلمانيين، والثاني: من خارجها ويُقصد به نظام الانقلاب ومؤسساته، الذي بات يهيمن على كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية، فضلًا عن تسخير كافة مؤسسات الدولة وفي مقدمتها الإعلام في تشويه الصورة الذهنية للمعارضة وشيطنتها من ناحية، ومحاولة تحسين صورة النظام بشكل أو آخر، ما أدى للبُعد الثالث المتمثل في تراجع الدعم والتأييد الشعبي لها.
تعاني المعارضة أزمة حقيقية بسبب مجموعة من العوامل الداخلية الخاصة بها:
- استمرار حالة عدم اليقين وعدم الثقة بين أطرافها. فبالرغم من اتضاح خداع المؤسسة العسكرية للقوى السياسية الداعمة لانقلاب 3 يوليو/تموز، إلا أن الكثير منها لا يزال يرفض التعاون مع الطرف الثاني المنقَلَب عليه “الإسلاميون، وفي القلب منهم الإخوان المسلمون”، وبالتالي لجأ البعض للعمل بمفرده مثل حركة 6 أبريل، بينما سعى آخرون مثل ما يُعرف بالحركة المدنية “تحالف لمجموعة من القوى اليسارية الصغيرة” لتشكيل تيار ثالث يقود المعارضة الداخلية.
- يرتبط بذلك أيضًا أزمة عدم الثقة بين القوى المعارضة خاصة الليبرالية في الداخل والإخوان؛ إذ إن النخب العلمانية الليبرالية واليسارية تاريخيًّا تتضامن وتؤيد الدولة السلطوية ليس في مواجهة الإسلاميين فحسب، وإنما في مواجهة ما تصفه بالمجتمع الظلامي غير العقلاني الذي يشكِّل بيئة خصبة للظلامية الدينية من وجهة نظرهم. وبالتالي فهي تبرر كل ممارسات النظام السلطوية كمفاهيم الضرورة الوطنية التي تلزم بالاصطفاف خلف الحكام، وهي فكرة تاريخية منذ نشأة الدولة الحديثة في عهد محمد علي في القرن التاسع عشر(1) .
- وجود حالة أشبه بالإحباط داخل المعارضة السياسية، لاسيما شريحة الشباب من صعوبة التغيير أو استحالة الإطاحة بالانقلاب.
- يرتبط بذلك أيضًا غياب قيادات المعارضة نتيجة التصفية أو السجن، أو اضطرارهم لاعتزال العمل السياسي بصورة مؤقتة، أو الهجرة خارج الوطن، وقد أثَّر ذلك بكل تأكيد على أدائها.
- الهاجس الأمني الذي يجعل هذه القوى إما تخشى من التقارب فيما بينها، أو تدخل في طور الكمون والتهميش الذاتي، فضلَا عن سعى أعضائها للتنصل منها. فقد ذكر بعض القائمين على ما يُعرف بالحركة المدنية وجود تهديدات أمنية للحركة بالاعتقال حال التفكير في التقارب مع القوى الإسلامية بصفة عامة، يستوي في ذلك الإخوان، والوسط، ومصر القوية، وبالنسبة للأخير فقد شهد جملة من الاستقالات الداخلية بعد الانقلاب ليس بسبب عدم قناعة هؤلاء بفكر الحزب، بل بسبب الرغبة في إبعاد شبح الاعتقال عنهم(2) .
- قلة البدائل المتاحة للمظاهرات “عصيان مدني، إضرابات.. غيرها”، فضلًا عن ندرة المظاهرات بسبب القبضة الأمنية المشددة “ذكرى 25 يناير 2020 نموذجًا”.
- ضعف التواصل الشخصي للمعارضة مع الكتلة الصامتة من أجل تغيير موقفها بسبب الموانع الأمنية.
قيود النظام على المعارضة
فرض النظام المصري قيودًا واسعة على القوى السياسية المعارضة سواء كانت ممنوعة من العمل، أو تلك التي تعمل بشكل قانوني، وأحاطها ببيئة ترهيب مشددة لم تُبقِ لها فرصًا للقيام بدورها في الرقابة على الأجهزة الحكومية، أو العمل الميداني الحر والسليم.
فمن جهة، استمر التنكيل بالمعارضة (الممنوعة) خاصة من الإخوان عبر التوسع في أحكام الإعدام والعقوبات المشددة، وزادت عمليات التصفية الجسدية التي تمارسها أجهزة الأمن خارج إطار القانون منذ 2014 لتسجل 356 جريمة على الأقل، بينها 242 لم تعلن الدولة عن هوية ضحاياها(3) .
ومن جهة ثانية، استمر إغلاق المجال العام عبر تجريم التظاهر بموجب قانون التظاهر رقم 107 لسنة 2013 الصادر بعد الانقلاب، والذي يعطي سلطات الأمن صلاحية اعتقال من يُشتبه في رغبته في التظاهر كما حدث في مظاهرات 2016 احتجاجًا على التنازل عن تيران وصنافير للسعودية، وكما حدث في مظاهرات جمعة 20، و27 سبتمبر/أيلول الماضي التي دعا إليها الفنان والمقاول، محمد علي، وكما حدث في مظاهرات يناير/كانون الثاني 2020 الأخيرة.
وقد ارتبط بذلك حالة القمع الأمني بموجب قانون الطوارئ الصادر في أبريل/نيسان 2017، والذي منح السلطة التنفيذية “أجهزة الأمن” صلاحيات استثنائية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي، منها: الاعتقال، أو التصفية الجسدية خارج نطاق القانون وغيرها.
وكان من نتيجة هذه الإجراءات أن تكرست الهيمنة الحكومية والأمنية تحديدًا على المجتمع المدني عبر إصدار قانون العمل الأهلي، أغسطس/آب 2019، وهو في جوهره امتداد لقانون 2017، والذي يضع قيودًا كبيرة على عمل هذه المنظمات، لاسيما ما يتعلق بقيامها بدور سياسي، فضلًا عن عملية تمويلها، بما يؤدي في النهاية إلى التضييق على القائمين عليها، لاسيما من الناشطين السياسيين(4) .
لقد نجح النظام في تهميش المعارضة أو ضمان تبعيتها له، وقد أتاح له الانفراد بالساحة السياسية والمجال العام مكاسب داخلية لاسيما على صعيد التأييد الشعبي للنظام ومؤسساته. ويمكن متابعة معالم ذلك في نتائج استطلاع البارومتر العربي لعام 2019، وقد بيَّنت أن حوالي 66% من المصريين أبدوا قدرًا كبيرًا من الثقة في الحكومة، كما لا يزال التأييد الشعبي للجيش مرتفعًا، 85% عام 2019. رغم تراجعه بمقدار 4% عن عام الانقلاب، ونفس الأمر بالنسبة لمؤسستي الداخلية والقضاء(5) .
ويمكن تفسير هذا التأييد بما يأتي:
- قيام النظام ببعض الإصلاحات “الاقتصادية” الشكلية المؤقتة، كما حدث بعد مظاهرات سبتمبر/أيلول الماضي (2019). ففي محاولة لاحتواء آثار دعوة محمد علي للتظاهر، عمل النظام على تقليل سعر البنزين للمرة الأولى، كما تم تأجيل المرحلة الأخيرة من رفع الدعم النهائي عن البنزين بالاتفاق مع البنك الدولي، ثم أعلن السيسي نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن طرح بعض الشركات الحكومية والمملوكة للجيش في البورصة بدعوى امتلاك المصريين أسهمًا في هذه الشركات، رغم أن ذلك كان أحد طلبات البنك الدولي(6) .
- عملية تزييف الوعي التي يقوم به الإعلام لتحسين صورة النظام مثل الحديث عن تحسن الأداء الاقتصادي عبر مجموعة من المؤشرات مثل ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي، وتراجع معدلات البطالة والتضخم، وانخفاض نسبة الدَّيْن العام للناتج المحلي الإجمالي، أو تحسن سعر صرف الجنيه أمام الدولار.
- لكن، وفق بعض الخبراء الاقتصاديين، فإن ارتفاع الاحتياطي مرتبط بزيادة الدين الخارجي، كما أن الحديث عن تراجع نسبة الدين العام للناتج يفقد مصداقيته أمام الفجوة التمويلية بالموازنة العامة للدولة، وكذلك تحسن سعر صرف الجنيه، يعود بنسبة كبيرة إلى استثمارات الأجانب في الدين العام المحلي(7) .
- يرتبط بما سبق استمرار الثقة الشعبية التقليدية المعروفة في مصر بكل من المؤسسة العسكرية والحكومة والمؤسسات المكلفة بحماية القانون والقضاء.
هيمنة النظام والمؤسسة العسكرية على مؤسسات الدولة
هذا التراجع السابق للمعارضة قابله تصاعد متنام للنظام لسيطرته على موارد ومؤسسات الدولة وإخضاعها له بصورة شبه كلية، ناهيك عن احتواءه المؤسسة العسكرية بالترهيب تارة، وبالترغيب تارات أخرى.
فالسلطة القضائية باتت خاضعة لرئيس الجمهورية بعد قيام البرلمان بإصدار قانون، في يونيو/حزيران 2019، يمنح رئيس الجمهورية الحق في اختيار رؤساء الهيئات القضائية، المحكمة الدستورية، ومحكمة النقض، والنيابة الإدارية، وهيئة قضايا الدولة، والقضاء العسكري، والنائب العام، ومجلس الدولة، في عدوان على الباقي من استقلال القضاء؛ وذلك بموجب التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في أبريل/نيسان 2019.
أما بالنسبة للبرلمان، فقد بات هو الآخر تابعًا للسلطة التنفيذية. فبالرغم أن من المهام الرئيسية له هي التشريع والرقابة على أداء الحكومة، إلا أنه أصبح بمنزلة المحلِّل لمشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة، فمن بين 48 قانونًا وتعديلًا في دور الانعقاد الرابع “أكتوبر/تشرين الأول 2018- يوليو/تموز 2019″، وافق على 44 قانونًا وتعديلًا مقدَّمًا من الحكومة، في حين لم يقدم النواب سوى 4 فقط، بل إن بعض القوانين المهمة مثل قانون العمل الأهلي لم يأخذ وقتًا كافيًا لمناقشته رغم أهميته لتنظيم العلاقة بين المجتمع المدني والدولة(8) .
وبالنسبة للإعلام، فقد حاصرت الدولة الأصوات المعارضة والمستقلة، وأغلقت كافة قنوات ومنافذ التعبير الحر، بالإضافة لترهيب الإعلاميين المستقلين والقبض على ما لا يقل عن 111 إعلاميًّا بسبب عملهم، وفصل مئات الصحفيين من الصحف والقنوات أو وقف تجديد عقودهم بسبب انتقادهم أو تحفظهم على سياسات الدولة. كما شرعت الدولة بشكل ما في تأميم وسائل الإعلام والهيمنة على السوق الإعلامية، من خلال تأسيس الأجهزة الأمنية شركات تجارية مهمتها شراء القنوات التليفزيونية والصحف لضمان التحكم في الرسالة الإعلامية(9) .
أما بالنسبة للمؤسسة العسكرية، فقد سعى النظام لتمكينها واحتوائها في آن على النحو التالي:
اقتصاديًّا، قرر السيسي عام ٢٠١٥ إعفاء ٥٧٤ منشأة عسكرية من الضرائب، كما أُسندت للمؤسسة العسكرية المشروعات الكبرى مثل ازدواجية قناة السويس، والعاصمة الإدارية الجديدة، ومشروع المليون وحدة، وبالتالي يصعب الحديث عن إمكانية انقلاب المؤسسة العسكرية عليه بسبب استفادتها القصوى من النظام، بل ربما تعد أحد عناصر القوة التي يمكن استخدامها في وجه معارضيه(10) .
وسياسيًّا، عمل النظام على تمكين المؤسسة العسكرية من السياسة بحيث تكون مهمة القوات المسلحة ليست فقط حماية حدود البلاد الخارجية كما هو متعارف عليه، وإنما أيضًا حماية الديمقراطية والدستور، ما قد يعني إمكانية عدم سماحها بوصول أي مرشح مدني للحكم، أو إمكانية إزالته حال وصوله بدعوى انتهاكه للدستور أو مبادئ الديمقراطية، فضلًا عن إمكانية التصدي لأي حراك شعبي بدعوى مخالفة الدستور أو تهديد الديمقراطية.. فبموجب الفقرة 1 من المادة 200 المُعدَّلة في الدستور “أبريل/نيسان 2019″، ستوكل للجيش مهام “صون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد”(11) .
وقانونيًّا، عمل النظام على تحصين كبار قادة القوات المسلحة من المساءلة الجنائية داخليًّا وخارجيًّا وتقديم الامتيازات مقابل منعهم من الترشح للرئاسة عبر إصدار البرلمان، في يوليو/تموز 2018، قانون معاملة كبار قادة القوات المسلحة، والذي تنص مادته الأولى على أنه بإمكان الرئيس استدعاء الضباط من كبار قادة القوات المسلحة للخدمة العسكرية مدى حياتهم، حتى لو كانوا قد استقالوا من مناصبهم العسكرية وانضموا للقوى العاملة المدنية، وهذا يحول دون تمكُّن هؤلاء من الترشح للرئاسة، من أجل عدم تكرار تجربة رئيس الأركان السابق، سامي عنان، الذي أعلن ترشحه ضد السيسي في الانتخابات الرئاسية، في مارس/آذار 2018.
كما تنص المادة الخامسة من هذا القانون حول كبار القادة العسكريين على أنه لا يجوز مباشرة أي تحقيق أو إجراء قضائي في مواجهة هؤلاء الضباط عن أي فعل ارتكبوه بصفتهم الرسمية خلال فترة تعطيل الدستور وحتى انعقاد أول جلسة لبرلمان الانقلاب، لذا استثنى الفترة الممتدة من 3 يوليو/تموز 2013 “تاريخ الانقلاب” إلى 10 يناير/كانون الثاني 2016، إلا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. والهدف حماية كبار القادة العسكريين من أية محاولة للتحقيق في هذه الأحداث ومن إمكانية مقاضاتهم داخليًّا في مجازر الحرس الجمهوري، 8 يوليو/تموز 2013، ومجزرتي رابعة والنهضة 14 أغسطس/آب، ورمسيس 16 أغسطس/آب وغيرها. كما تؤمِّن المادة السادسة حصانة دبلوماسية لهؤلاء الضباط لدى سفرهم إلى الخارج، في محاولة لحمايتهم من أية ملاحقة قضائية دولية محتملة رغم عدم عضوية مصر في المحكمة الجنائية الدولية.
وبخصوص الامتيازات المادية، فتنص المادة الثانية على أن كل ضابط يستدعيه الرئيس للخدمة مدى الحياة يتمتع بجميع الحقوق والمزايا المقررة للوزراء في الحكومة -في حال لم يكن يشغل منصبًا عاليًا يخوِّله أصلًا الحصول على هذه الامتيازات. ويمكن أن يشمل ذلك، مثلاً، رواتب مرتفعة وعلاوات ومخصَّصات للسفر وحرَّاسًا شخصيين(12) .
أما بالنسبة لسياسة الاحتواء داخل المؤسسة العسكرية، فقد عمل السيسي على احتواء أية حالات تذمر محتملة، لاسيما بعدما تردد وقوف بعض القوى النافذة داخل الجيش والمخابرات العامة وراء محمد علي صاحب دعوات التظاهر في 20 سبتمبر/أيلول 2019 وما بعدها، بعد سيطرة السيسي من خلال مدير مكتبه، عباس كامل، ونجله، محمود، على المخابرات العامة، منذ 2018، بعد الإطاحة باللواء خالد فوزي، ويتردد أن المشير طنطاوي لعب دورًا في تهدئة الأمور بين الطرفين. ويمكن تفسير إبعاد نجله، محمود السيسي، عن الأضواء لهذا السبب، لاسيما بسبب أسلوبه العنيف في التعامل مع معارضيه داخل الجهاز، وإن كان يتردد أن هدف الإبعاد المؤقت تهيئته ليكون الوريث القادم بعد الحصول على الخبرة الروسية في مجال التخابر والتسليح(13) .
الدعم الإقليمي والدولي للنظام
ومما يزيد من قوة النظام وتماسكه أمام المعارضة استمرار الدعم الإقليمي والدولي له، والتغاضي عن انتهاكاته للديمقراطية وحقوق الإنسان.
فإقليميًّا، لا يزال السيسي يحظى بدعم إقليمي خاصة من السعودية والإمارات؛ إذ تتصدر السعودية والإمارات الدول الخليجية المانحة لمصر، فالسعودية قدمت نحو 5 ودائع لنظام السيسي، بقيمة إجمالية 8 مليارات دولار، فضلًا عن توريد شركة (أرامكو) 700 ألف طن من المشتقات البترولية لمصر شهريًّا، من خلال قرض سعودي قيمته 23.5 مليار دولار لمدة 5 سنوات. وبالنسبة للإمارات، فقد قدمت ودائع بقيمة 6 مليارات دولار، مستحقة السداد على أقساط حتى نهاية 2023، كما دعمت الاقتصاد المصري بقرض قيمته 8.6 مليارات دولار لتمويل شراء مواد بترولية(14) .
وبالنسبة لإسرائيل، فهي أحد الداعمين الأساسيين للسيسي، لاسيما أن التنسيق الأمني بلغ أشده في عهده، كما سيكتب التاريخ أنه وللمرة الأولى تستورد مصر الغاز من إسرائيل بعدما كانت تصدِّره لها بثمن بخس في إطار صفقات مشبوهة إبَّان عهد مبارك. وهو ما دفع نتنياهو إلى وصف هذا الحدث بالسابقة التاريخية التي ستدر على إسرائيل مليارات الشيكلات(15) .
ودوليًّا، يحظى النظام بتأييد الإدارة الأميركية، فترامب أعرب عن دعمه للسيسي رغم إقراره بانتهاكاته لحقوق الإنسان، ولا أدلَّ على ذلك من وصفه له بـ”ديكتاتوري المفضَّل” في قمة الدول السبع الصناعية بفرنسا في سبتمبر/أيلول الماضي(16) .
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول: إن عوامل القوة والفرص المتاحة للمعارضة أقل بكثير من تلك التي يمتلكها النظام؛ ما يطرح التساؤل عن السيناريوهات المتوقعة بالنسبة لمصر، وخيارات المعارضة في ضوئها.
السيناريوهات المتوقعة
يمكن القول بوجود ثلاثة سيناريوهات أساسية للوضع السياسي في مصر:
- سيناريو الإطاحة بالنظام عبر ثورة شعبية على غرار ثورة 25 يناير: وهو السيناريو الذي تروج له المعارضة (الممنوعة من العمل داخل البلاد) في كل بياناتها، وآخرها الوثيقة التي أعلن عنها محمد علي في ديسمبر/كانون الأول الماضي (2019) بعنوان “وثيقة التوافق المصري”، والتي تضع المبادئ وأولويات العمل، لكنها تتحدث عن مرحلة ما بعد سقوط النظام دون تبيان كيف يحدث ذلك. لكن يلاحظ أن هذا السيناريو مستبعد بسبب عناصر القوة التي يمتلكها النظام مقابل ضعف هذه المعارضة، فضلًا عن حالة الخوف لدى الشارع المصري، ومما يعمق من هذه الأزمة خوف الشعب من البديل وهو سيناريو الفوضى الذي يروج له النظام كما في حالات سوريا واليمن وليبيا.
- سيناريو انقلاب المؤسسة العسكرية على النظام: وهو أمر مستبعد إلى حدٍّ كبير لأسباب منها سياسة الاحتواء التي يقوم بها السيسي من حين لآخر للمؤسسة العسكرية، ناهيك عن سياسة العنف والمحاكمات العسكرية ضد من تسول له نفسه التفكير في الانقلاب أو إبداء معارضة له. كما أن الطرف المعارض له داخل المؤسسة العسكرية يدرك حجم إمكانياته وقدراته، وأنه ليس بمقدوره الإطاحة بالنظام الذي هو جزء منه، وأن أي عملية تغيير شاملة ستطيح بالجميع، فضلًا عن استمرار الدعم الإقليمي والدولي للسيسي لاسيما من قبل إدارة ترامب وإسرائيل. وبالتالي، فإن كل ما يطمع إليه هذا الطرف هو عودة النظام إلى ما كان عليه منذ يناير/كانون الثاني 2011، وهو أن تكون المؤسسة العسكرية ممثلة في المجلس العسكري أو غيره وشريكًا أساسيًّا في الحكم(17) .
- سيناريو بقاء النظام سواء ناجحًا أو متكيفًا أو حتى فاشلًا، في ضوء مجموعة من المتغيرات منها استمرار هيمنته على مؤسسات الدولة المختلفة، في ظل قبضة أمنية تقمع معارضيه، وآلة إعلامية تروج لنجاحات وهمية، فضلًا عن تأميم المجتمع المدني، وقمع المعارضة الداخلية. وبحسب بعض الباحثين، لن يؤدي فشل السيسي في نجاحاتٍ تنموية مستقبلية لانتهاء رئاسته بالضرورة على غرار مبارك الذي تمكن من البقاء في السلطة على مدى ثلاثين عامًا، نتيجة الدعم الخارجي الهائل والإدارة النخبوية الناجحة(18) .
ويبدو أن السيناريو الثالث هو الراجح حاليًّا؛ ما قد يجعل المعارضة لاسيما تلك التي يطاردها النظام ويمنعها من العمل في الداخل، مطالبة بالبحث عن أساليب مبتكرة للتعامل مع هذا الوضع، فالحديث عن ثورة شعبية ليس واقعيًّا، وهذه المعارضة لا تمتلك المقومات لذلك على الأقل في الأمد المنظور، كما أن المسار التفاوضي هو خيار آخر في الأمد القريب، لكن ذلك يتطلب اضطرار النظام للجلوس على الطاولة مع هذه المعارضة التي يعتبرها عدوًّا مباشرًا، ولا يبدو هذا الاضطرار وشيكًا في ظل الهيمنة الراهنة للنظام من ناحية، واعتباره الصراع مع جماعة الإخوان التي تقود المعارضة خيارًا صفريًّا من ناحية ثانية. كما أن هذا المسار التفاوضي يتطلب ثلاثة أمور أساسية:
أولًا: قناعة قيادات المعارضة به.
ثانيًا: سعيها امتلاك عناصر القوة “الاصطفاف الداخلي، القدرة على تحريك الشارع بوسائل أخرى غير المظاهرات مثل الإضرابات والعصيان المدني”؛ ما قد يجعل النظام يتقبل أولًا فكرة التفاوض.
ثالثًا: وضع أجندة أولويات تفاوضية واضحة ومدروسة بدقة، في حدود المتاح والواقعية في حينها داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
- د. عمرو حمزاوي، عن تبرير العلمانيين المصريين للاستبداد، القدس العربي، لندن، 5 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/2UnX302
- حول هذه الإشكاليات، انظر: شريف أيمن، المعارضة المصرية تحاول جاهدةً تجاوز الانقسامات، موقع جدلية، 2 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/2uVUkQX
- حول هذه القيود، انظر: تقرير مشترك لمجموعة العمل المصرية من أجل حقوق الإنسان مقدم لآلية الاستعراض الدوري الشامل بالأمم المتحدة بشأن ملف حقوق الإنسان في مصر، (الدورة الـ34 – 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2019)، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/2SdZgs7
- Imothy E. Kaldas, Hardened and Brittle: Egypt’s Authoritarian Fragility, The Tahrir Institute for Middle East Policy (TIMEP), 12/18/2019 (Date of Entrance: 3-2-2020) https://bit.ly/2GS040M
- Arab Barometer, V Egypt Country Report, 2019. (Date of Entrance: 3-2-2020) , https://bit.ly/2OqmCd3 p.7
- -. أحمد ذكر الله، خصخصة مشروعات الجيش: الأبعاد والتوقيت، المعهد المصري للدراسات الاستراتيجية بإسطنبول، 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ص 4.
- عبد الحافظ الصاوي، الوضع الاقتصادي في مصر تراجع لا تعافي، المعهد المصري للدراسات الاستراتيجية بإسطنبول، 11 يونيو/حزيران 2019، ص ص 5-7.
- Egypt Parliament Watch–Session 4,Report, Oct., 2018. July 2 0 1 2019, The Tahrir Institute for Middle East Policy (TIMEP), 12/13/2019 ,pp.5-6 (Date of Entrance: 3-2-2020) , https://bit.ly/2RVzOso
- تقرير مشترك لمجموعة العمل المصرية، مرجع سابق.
- د. يزيد صايغ، أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري، مركز كارنيجي الشرق الأوسط، 14 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/37Yo7H2
- بهي الدين حسن، المؤسسة العسكرية المصرية نحو صراع سياسي جديد، مركز كارنيجي الشرق الأوسط، 9 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/2RTpMrN
- حول هذه الملاحظات على القانون، انظر: ماجد مندور، حصانة للقوات المسلحة في مصر، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، 25 يوليو/تموز 2018، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/397yU26
- محمود جمال، عنان وحركة ديسمبر: الأسباب والتداعيات، المعهد المصري، 25 ديسمبر/كانون الأول 2019، ص ص 6-7.
- 92 مليار دولار دعم خليجي للقاهرة منذ ثورة 25 يناير، موقع جريدة القبس الكويتية الإلكتروني، 20 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/3bbKbQO
- قناة الجزيرة الإخبارية، 19 يناير/كانون الثاني 2020.
- وول ستريت جورنال: ترامب وصف السيسي بـ”الديكتاتور المفضل” خلال قمة السبع، العربي الجديد، لندن، 14 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/36P1pjm
- محمود جمال، مرجع سابق، صص 3-4.
- Luca Miehe and Stephan Roll, Three Scenarios for the Development of the Sisi Regime in Egypt, Development Dictatorship, Mubarak 2.0, or Rapid Collapse?, German Institute for International and Security Affairs. NO.18.March 2019, pp.2-3
رابط المصدر: