بحلول 24 أغسطس/آب 2024، تكون ثلاث سنوات قد انقضت على قطع الجزائر لعلاقاتها الدبلوماسية مع المغرب.
تقييم سنوات القطيعة لن يكون إلا سلبيا في مجمله، لا سيما وأن الأزمة تتصل ببلدين تجمعهما أواصر التاريخ والدم والجوار.ولا شك أن القطيعة المتواصلة تضيع على الشعبين فرص تعزيز جهود التعاون والتنمية. وتشكل عقبة أمام العيش المشترك وتحقيق التقدم والسلام.
إضافة إلى أن القطيعة الدبلوماسية بين الجزائر والمغرب، أدت إلى احتدام وتيرة المنافسة بينهما، خصوصا على الواجهة الأفريقية، وأنعشت من جديد سياسة المحاور داخل الفضاء المغاربي، ضمن سيناريوهات متضاربة.
نزوع الهيمنة
اتسمت العلاقات الجزائرية-المغربية منذ الستينات بنمط من التنافس مرهون بخلافات أيديولوجية وبنزاعات حدودية، ثم بصراع الصحراء الغربية، وهو تسابق وثيق الصلة بالصراع من أجل الهيمنة الإقليمية. ما أفضى في 1963 إلى اندلاع ما يسمى “حرب الرمال”، وإلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين 1976 و1988، وغلق الحدود البرية عام 1994، ثم إلى القطيعة الحالية منذ 2021.
ضمن هذا السياق يعتمد كل من المغرب والجزائر سياسة أفريقية تطمح في تفاعلها مع أوروبا إلى التنسيق في مجالات الأمن والهجرة والاستخبارات، وهو أمر غير جديد في السياسة الخارجية للبلدين. في وقت يستمر فيه اتحاد المغرب العربي، منذ إنشائه عام 1989، عاجزا عن تحقيق التكامل الإقليمي لمواجهة التحديات التي تفرضها العولمة.
جولة جديدة
لا بأس من استعراض أبرز تطورات الملف الصحراوي خلال العام الذي سبق إقدام الجزائر على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب.
في 13 نوفمبر/تشرين الثاني من 2020 حدث ما اعتبر خرقا لقرار وقف إطلاق النار، الساري منذ 1991. عندما عمد الجيش المغربي إلى إخلاء بالقوة اعتصام للصحراويين في”الكركارات”، المعبر التجاري للمغرب نحو موريتانيا وغرب أفريقيا. لحق ذلك إعلان “البوليساريو” اسئتئناف الحرب.
وبعد قرابة شهر على أحداث “الكركارات”، وصلت في 10 ديسمبر/كانون الأول 2020، رسالة اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، مقابل تطبيع الرباط مع إسرائيل. وكان من شأن الاعتراف الأميركي ترجيح ميزان القوى لصالح المغرب، واعتبر نجاحا دبلوماسيا كبيرا شجع الرباط على التشبث بموقفها، فأكد الملك محمد السادس أن ملف الصحراء هو “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”.
تقييم سنوات القطيعة لن يكون إلا سلبيا في مجمله، لا سيما وأن الأزمة تتصل ببلدين تجمعهما أواصر التاريخ والدم والجوار
ومع اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على المنطقة، أثارت مجلة “فورين بوليسي” الانتباه إلى أن جولة جديدة من الصراع على الصحراء الغربية بدأت.
من علامات الجولة الجديدة، حدوث أزمات دبلوماسية مغربية مع ألمانيا وإسبانيا، انتهت بحصول الرباط على دعم لـ”خطة الحكم الذاتي”، التي اقترحها المغرب عام 2007 كبديل لاستفتاء تقرير المصير.
الطاقة والتسلح
بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، في فبراير/شباط 2022، وبروز حاجة أوروبا للتحرر من الغاز الروسي، وأمام مشروع خط أنابيب للغاز يخترق الصحراء عبر 11 دولة في غرب أفريقيا وصولا إلى المغرب، أعادت الرباط فكرة مد خط أنابيب بديل يمر عبر المحيط الأطلسي.
تلى ذلك إقدام المغرب على إنشاء منطقة عسكرية على حدوده الشرقية مع الجزائر، بدعوى محاربة الجريمة العابرة للحدود، كالتهريب والهجرة غير الشرعية.
فيما عبرت الجزائر عن غضبها من إنشاء ثكنة عسكرية مغربية على بعد كيلومترات من حدودها.
ووفقا لـ”معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام”، فعلى الرغم من الوضع الاجتماعي والاقتصادي الصعب في البلدين، أنفقت كل من الجزائر والمغرب مبالغ هائلة على شراء الأسلحة. وظلت الجزائر من أكبر شركاء روسيا في مجال التعاون العسكري التقني، فيما يستورد المغرب أسلحته بشكل رئيس من الولايات المتحدة.
كما أن ميزانية الإنفاق العسكري في المغرب ارتفعت إلى 48.9 مليار درهم (4.4 مليار يورو) في موازنة السنة المالية 2024، مقارنة بـ47 مليار درهم (4.2 مليار يورو) في العام السابق. مع مواصلة المناورات العسكرية “أسد أفريقيا” التي تنظمها واشنطن منذ 2007، بمشاركة دول أخرى بالمنطقة.
ولم تتخلف الجزائر عن السباق، بتنظيمها لمناورات عسكرية في منطقة تندوف، حيث مخيمات اللاجئين الصحراويين. وأجرت تدريبات عسكرية مشتركة مع روسيا والصين، وضاعفت ميزانيتها العسكرية إلى أكثر من 22 مليار دولار في السنة الماضية.
ولا شيء في الأفق ينبئ بأن سباق التسلح بين الجزائر والمغرب سيتوقف قريبا.
تصادم النفوذ
على عتبة عام من إقفال نصف قرن من الصراع، لم يتوقف تصادم المصالح الجزائرية والمغربية. فخلال هذه العقود الخمسة استطاعت الجزائر أن تكسب دولا من المنطقة لتأييد ما يسمى “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” في الصحراء الغربية.
فيما يحظى المغرب بدعم القوى الغربية، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، ثم إسبانيا التي دعمت المغرب في 2022.
أ ف ب
المعبر الحدودي بين المغرب وموريتانيا في منطقة كركرات
لكن منذ سقوط نظام العقيد القدافي في ليبيا عام 2011، وفشل التدخل الفرنسي في مالي بين عامي 2013 و2021، بسبب انتهاج باريس لسياسة مطابقة للتدخل الأميركي في أفغانستان والعراق، بذريعة محاربة الجماعات الإرهابية في مستعمراتها الأفريقية السابقة، تزايد عدم الاستقرار في بلدان الساحل، وتحولت المنطقة إلى معترك جديد للمنافسة الثنائية الجزائرية-المغربية، حيث اعتقد كل واحد من المتنافسَيْن أنها الفرصة لاستعادة نفوذه الإقليمي، في مجال أصبح الاتحاد الأوروبي يعده عمقه الاستراتيجي، بل حدوده الأمنية الجديدة. لذلك تزايد التسابق الثنائي عبر الانخراط في مبادرات الوساطة، وتقديم كل بلد من البلدين نفسه كمصدر للاستقرار والأمن في المنطقة.
ثم تواصلت مبادرات استقطاب الدعم الدولي. فشجع المغرب على فتح قنصليات أجنبية في مدينتي العيون والداخلة، بلغت اليوم 30 دولة، آخرها تشاد، في 14 أغسطس 2024. كما اقترحت الرباط ما سمي “المبادرة الأطلسية”، التي تتيح لدول الساحل الوصول إلى المحيط الأطلسي، وإمكانيات تحقيق التعاون مع بلدان أفريقيا على أسس شراكة مربحة للجانبين.
وتندرج موريتانيا ضمن محاور التنافس الرئيسة بين البلدين، من خلال سعي الرباط والجزائر، كل على حدة، إلى تعزيز العلاقات الثنائية مع نواكشوط. حيث قامت الجزائر بتوقيع اتفاقية التجارة الحرة الحدودية ومشروع الطريق السريع الذي سيربط بين موريتانيا وتندوف في غرب الجزائر، وزويرات في شمال موريتانيا.
أما المغرب فيعتبر محور الارتباط البري مع موريتانيا عاملا رئيسا لمشاريعه الرامية إلى توسيع العلاقات التجارية مع بقية القارة الأفريقية، ودعم موقفه في الصحراء الغربية.
وتبقى للصراع كلفته الباهظة، فبالإضافة إلى السباق على التسلح، تصرف ميزانيات لاستمالة النخب والقوى الأجنبية، وتبذر أخرى في استثمارات غير منتجة.
وفي سياق الصراع بين الدولتين، تستخدم كل الأساليب السياسية والإعلامية التي من شأنها عزل الآخر وإضعافه من الداخل.
تندرج موريتانيا ضمن محاور التنافس الرئيسة بين الرباط والجزائر، من خلال سعي البلدين، كل على حدة، إلى تعزيز العلاقات الثنائية مع نواكشوط
وفي شهر مارس/آذار 2024 افتتح في الجزائر مكتب لـ”جمهورية الريف” المغربية الانفصالية. وهو ما اعتبر ردا على دعم المغرب المعلن لاستقلال منطقة “القبايل” الجزائرية. ومثل هذه المغازلة للحركات الانفصالية على أراضي الدولة المجاورة يمكنها أن تؤدي إلى صراع واسع النطاق.
التعرض للركل
في نهاية يوليو/تموز حدث ما اعتبر “نهاية لمحاولات تدفئة العلاقات بين الجزائر وفرنسا”، بانضمام فرنسا إلى الخطة المغربية لحل النزاع الصحراوي. وهي الخطوة التي رحب بها اليمين الفرنسي، وظهر من صرح بأن “الوقت قد حان لتغيير الأولويات السياسية مع الدول المغاربية”، وليس “طلب الصداقة والتعرض للركل في المقابل”. في إشارة إلى اختيار الجزائر طريق الصين وروسيا، والتخلي عن فرنسا في أزمتها الأفريقية في منطقة الساحل.
في الوقت الذي ندد فيه اليسار الفرنسي بدعم ماكرون للخطة المغربية. وقال زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي إنه “تراجع عن موقف فرنسا المتوازن تاريخيا فيما يتعلق بحقوق الشعب الصحراوي وقرارات الأمم المتحدة”. وتنبأ بأن التحرك الفرنسي سيؤدي إلى أزمة دبلوماسية خطيرة.
وكما حصل في أعقاب التحول الإسباني في 2022، حين اعتبرت مدريد أن الحكم الذاتي هو الاقتراح “الأكثر جدية وواقعية ومصداقية” لحل النزاع، فهددت الجزائر مدريد بإيقاف الغاز الجزائري الموجه إلى إسبانيا، حصلت أيضا انتقادات حادة من القيادة الجزائرية تجاه فرنسا، وجرى خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية بعد استدعاء السفير الجزائري من باريس، ولم تتردد الجزائر في اتهام فرنسا بـ”تقويض القانون الدولي وجهود الأمم المتحدة لحل مشكلة الصحراء الغربية”.
أ ف ب
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في مطار الجزائر العاصمة في 25 أغسطس
إنها الأزمة التي وصفتها مجلة “جون أفريك” الباريسية بـ”دخول البلدين في دورة جديدة من التوتر لم يسبق لها مثيل في حدتها خلال العقدين الماضيين”.
وبحسب مراقبين أميركيين، فإن مصلحة فرنسا بمساندتها للمغرب، تعود بالدرجة الأولى إلى إتاحة الرباط للشركات الفرنسية الوصول إلى مشاريع الطاقة المتجددة؛ إذ إن البلاد غنية بالمعادن مثل الفوسفات والكوبالت والمانغنيز.
فيما اعتبر محللون روس أن قرار فرنسا مؤشر لانتقال باريس من منافس لواشنطن على النفوذ بأفريقيا، إلى “الانضواء تحت لواء السياسة الأميركية الأطلسية في القارة”.
مصلحة فرنسا في مساندتها للمغرب، تعود بالدرجة الأولى إلى إتاحة الرباط للشركات الفرنسية الوصول إلى مشاريع الطاقة المتجددة
ولأن المعطيات تدل على فوز الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية المقررة في سبتمبر/أيلول المقبل، فإن الوضع في المنطقة سيستمر مجالا لمخاوف نشوب نزاع مسلح طويل الأمد، من المؤكد أن عواقبه ستكون كارثية على البلدين والمنطقة.
لكن الأمل في حل تاريخي لن يتبدد، باستمرار جهود إحراز الاستقرار والسلام.
المصدر : https://www.majalla.com/node/322001/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A7%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%88%D9%8A%D9%84%D8%A9