عبدالله العبادي
بعد الأحداث المتعاقبة والسريعة، نحن اليوم في مفترق الطرق إما الإحتكام إلى نموذج متكامل وصريح لبناء الدولة من جديد أو إكمال المسيرة معوقين ومنقسمين بين الولاء لهذا الفكر أو ذاك وبنفس الوجوه. جل الأحزاب والتيارات السياسية برهنت عن فشلها وافتقادها لمشروع بناء يقود الدولة نحو الأمان، وعليه فالواقع يقتضي إفراز وإتاحة الفرصة لشريحة مجتمعية شابة همها الوطن أولا وقادرة على القيادة ووضع الحجر الأساس لدولة عصرية حديثة، تقدمية ومتوازنة.
الأمر ليس سهلا وليس مستحيلا، فالإصلاح كوسيلة لبناء الدولة الوطنية يجب أن يبدأ من الأسفل أي النهوض بالشأن الثقافي التربوي الإجتماعي مما يتيح للفرد فهم شروط وجوده والإنخراط في الحياة العامة والمشاركة في صنع القرار والمصير.
لا يمكن للصراع السياسي وحرب الكراسي الفوقي أن يساعد في الرقي بالمجتمع فكريا وثقافيا في ظل المفاهيم السياسية والسلطوية الحالية والمستحوذة على كل شيء. كيف يتحقق هذا الرقي والكثير من شيوخنا ومفكرينا منهمكين في نقاشات وفتاوى بأمور تافهة والمجتمع بحاجة إلى فكر تنويري ممنهج ومحاربة الجهل والحث على التعليم وتشجيعه والرقي بالفكر الإنساني وبالإنسان نفسه.
الإصلاح الإجتماعي-الثقافي يجب أن يبدأ من الأسفل وعلى المثقف تحمل مسؤولية تنوير العامة من داخل مؤسسات الدولة والمجتمع، لا يجب أن ينسينا الدعوة المتوازية معه إلى إصلاح المنظومة السياسية وإرساء قواعد ممارسة سياسية سليمة. حتى يتمكن الفكر الإصلاحي التقدمي من تحقيق الأمرين معا: إصلاح العامة وتنويرها وأيضا إصلاح السياسة.
فالدولة الوطنية من أكبر القضايا الفكرية والأكثر تعقيدا في النظرية والتطبيق، أكثر الإشكالات التي تواجه حاضر ومستقبل المجتمع المغربي وتحقيقها سيمكن من إنشاء دولة ذات مؤسسات منتخبة قوية وممثلة لكل شرائح المجتمع واختلافاته.
لكن إلى حد الآن، الملاحظ هو عجزنا عن تصور شروط وجود وأيضا نمط الدولة الوطنية التي نريد تحقيقها، فقد أدت الأوضاع الحالية التي يعيشها المجتمع إلى اختلاط المفاهيم وتبعثر الأولويات. لذلك أرى أن هذا الإخفاق لا بد من أن يفرز نموذجا تاريخيا لمرحلة ما بعد الأزمة، نموذجا لبناء الدولة والمجتمع من جديد، نموذجا يمكننا من استثمار العبر والحكم واستغلال التجارب وعدم الوقوع في نفس الأخطاء.
إذن نحن أمام مرحلة تاريخية حاسمة من وجودنا، منعطف هام من تاريخ الأمة. أي نحن أمام فرصة لا بد أن تفرز نموذجا واضحا يعيد المجتمع إلى سكة الصواب وتحقيق أمانيه في العيش الكريم والتطلع بتفاؤل نحو مستقبل أفضل. إنه أمل كبير يتحمل مسؤوليته كل المتنورين من أبناء الوطن الذين يسعون دوما لإصلاح الشأن المجتمعي والنهوض من جديد بأمة تعاني الخضوع.
لن أغوص كثيرا في مفاهيم وتعريفات الدولة منذ القدم، قد يبدو تعريف هيغل للبعض غير مفهوم وموسوم بالمثالية. تبنى آخرون المفهوم الماركسي كونها أداة قهر طبقية، أو ما جاء به أنكلز في كتابه أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة الذي اعتمد فيه على أنتربولوجيا موركان. تعددت إذن التعريفات منذ العهد الإغريقي حتى عصر النهضة للدولة، لكن سنحاول فهم الدولة المغربية المعاصرة من خلال الأنماط الإجتماعية والثقافية والدينية السائدة في المجتمع.
نشوء الدولة في العالم العربي عموما أدى إلى إنتاج علاقة تقاطع بين الدولة والمجتمع من خلال إنتاج تنظيمات استبدادية وتوسيع المجال السياسي للدولة وتضييق الخناق على المجتمع المدني وتقليصه حتى يتطابق مع المجال السياسي السلطوي للدولة، بمعنى نزع السياسة من المجتمع ومأسسة القمع وتعميقه بالإحتكار لمصادر السلطة والحكم.
فكرة الدولة الوطنية الحديثة أي دولة جميع المواطنين بكل اختلافاتهم كانت ولا زالت غائبة عن الثقافة التقليدية، وليس في لغتنا وتراثنا لا مفاهيم الدولة ولا نظرياتها ولم نعش يوما تجربة الدولة بمعناها الحقيقي وبمفهومها السياسي المعاصر. نحن نعيش الآن تجربة ما قبل الدولة أو وضعية الدولة ما قبل السياسة.
ترتبط الدولة الحديثة مفهوما بالمجتمع المدني على الصعيد الاجتماعي وترتبط بمفهوم الشعب على الصعيد السياسي وأخيرا بمفهوم الأمة على الصعيد الثقافي. كما أن هناك توازي بين المجتمع المدني ونشوء الدولة الوطنية وهما وجهان لعملة واحدة لا يمكن أن يتحقق أي منهما إلا بالأخر.
المجتمع المدني هو مجال التفاعل والصراع والحوار أي حرية الفرد، والدولة هي الغطاء القانوني للممارسة بمعنى آخر هناك علاقة وطيدة بين الحرية والقانون. الأول يعبر عن التنوع والاختلاف أما الدولة فتمثل المركزية، كما يجب أن يسود المجتمع المدني المساواة والعدالة الإجتماعية لا صراع الأطياف والطبقات والعشائرية.
الدولة الوطنية هي الأخلاق الإنسانية والقانون، إرادة التعايش بالكل الاجتماعي وتحقيق الحرية والعدالة والحق، إنها قابلة للنمو والتطور بفعل المعرفة والفكر وتطورهما وتحسين الوعي الجماعي لذلك تختلف أشكال الدول باختلاف المجتمع الذي ينتجها. فالدولة تتجلى في القانون كإرادة جماعية متفق عليها، وهي أيضا تعبير عن الوعي الذاتي الفردي الذي يرى في الدولة كيانه وحريته.
إن الدعوة إلى وجود صيغة نظرية حديثة وواقعية متفق عليها لدولة الغد، لا يمكن اعتباره شعارا فضفاضا، بل حاجة ملحة ومطلبا ضروريا لوجودنا وعودتنا إلى مسار الحضارات. هذا المطلب الإصلاحي بحاجة إلى تحديد الأهداف وتعيين الوسائل الكفيلة بتحقيقه، إذ لا بد من توافق حول مضمون المفهوم والرؤية والمنهج. ولن يتأتى ذلك إلا بتوحيد الخطاب الثقافي كبادرة نحو نشر الوعي الوطني والحث على تجاوز كل الإختلافات وتحديد المواقف والأهداف المشتركة.
فبناء الدولة الوطنية هو القضية المحورية في المشروع الفكري المغربي المعاصر لما بعد الأزمة، إذ لا يمكن الحديث عن إصلاحات سياسية في غياب مؤسسات وطنية قوية ومشاركة الشعب كطرف في صنع القرار ومشارك في العملية السياسية.
فالواقع الحالي أفرز معطيات جديدة سياسيا واجتماعيا، أخذت ملامحه تتجلى بوضوح، ومن ثم يجب الحسم فيه بثورة فكرية مفاهيمية جديدة تعيد مفهوم الوطن والمواطن والدولة إلى الواجهة كضرورة ملحة وكنتيجة حتمية لهذا الوضع، والإعلان عن إحداث قطيعة تامة مع الأفكار السياسية السابقة التي سادت من قبل.
ففكر الإصلاح وقضية الدولة الوطنية يجب أن تكون جوهر اهتمامنا كما أن فحص الإختلافات المفاهيمية بدقة وتجديد النقاش الثقافي بين مختلف التيارات هو في حد ذاته رفع للتعتيم الذي يطال ويغلف واقعنا الفكري المعاصر. نحن بحاجة إلى إزالة الصدأ الذي يلتصق بنا، صدأ التأويلات والإضافات التي حجبت المعنى الحقيقي الذي يعبر عن إرادة الشعب منذ زمن.
نحن بحاجة إلى تسامح وتصالح مع الذات ومع الآخر، بعيدا عن الدفاع المتعصب ورفض الفكر الآخر. نحن بحاجة إلى توافق في تحديد المفاهيم الإصلاحية وتوحيد الخطاب لكي تنجح التجربة المغربية الحديثة.
فالدولة الوطنية هي نتيجة لصيرورة فكرية واجتماعية طويلة للمجتمع، وهي ليست صورة أو نموذج يجب أن يطبق أو يحتدى به، إنها منظومة متكاملة غير غريبة عن سياقها الإجتماعي والمعرفي ولم يفرزها فكر مغاير أو نظام فكري مختلف. والدولة منذ الإستقلال بنت مفهومها الحديث على إلغاء السياسة من المجتمع وإقصاء المجتمع من السياسة، أي بنيت فقط على مفهوم الأمن كقاعدة ومعيار لاستمرارها.
المواطن المغربي لم يدق بعد طعم الدولة التي يتمناها، حيث العدالة والمساواة، بحيث نجده شاكيا دوما وناقما على وضعيته ومهموما ويحس بالاحتقار، وينتهز أول فرصة للرحيل دون تردد، واقع يلغي الذات الفردية ويجد المواطن نفسه خارج المشاركة السياسية وكأنه غير مرغوب فيه.
فالأمن واجب وحق وطني كرؤية قانونية تهدف لحماية الفرد ضد القمع والتعذيب، ومسؤولية أيضا في بناء الوطن وحمايته ليتسنى للجميع العيش بكرامة وسلام بحقوق وواجبات.
فمعظم الحكومات تناست الإصلاحات الضرورية لصيرورة المجتمع ودوامه أيضا. فهل كان هذا الخلط بين مفهوم الدولة الأمنية والدولة الوطنية مقصودا لإنشاء دولة تسلطية، أم أن نخبنا السياسية لم تكن قادرة على فهم أصول الحكم والسياسة.
رابط المصدر: