يبدو ان المرحلة التي اعقبت سقوط البعث في العراق سنة 2003 اوجدت خللا جسيما في فهم الكثير من المفردات المتداولة في الشارع السياسي؛ نتيجة الجهل او التعمد او عدم إدراك الاختلاف بين فهمها القانوني المشروع، واستعمالها السياسي غير المشروع احيانا، مما يهدد أي مسعى لبناء دولة حديثة ويحد من فاعلية مؤسساتها الدستورية.
وخلف هذا الامر ارباكا كبيرا في الحياة السياسية، بل كان سببا للخلاف والصراع بين الفرقاء السياسيين أنفسهم، وفتح الباب الى كثير من الممارسات المجرمة قانونا، ولكنها فرضت نفسها بالقوة على الارض حتى اصبحت اعرافا دارجة في واقع سياسي غير مستقر، ولعل أشهر هذه المفردات واكثرها تأثيرا هي مفردة المقاومة، وهذا يدفعنا كمختصين الى ان نوضح للناس ماذا تعني المقاومة؟ ومتى تكون مشروعة؟ وما علاقتها بالدولة؟ وهل وجود المقاومة، لاسيما المسلحة منها مشروع داخل دولة شرعية مكتملة التشكيل المؤسساتي؟
اعلم ان هذا الموضوع حساس للغاية، وربما يستفز البعض من غير العارفين، ولكن عندما يكون هدفنا الحقيقة، وبناء الدولة على اسس صحيحة، عندها لا مناص من خوض لجج الموضوعات الصعبة والشائكة والمعقدة؛ لأن تطور المجتمعات لا يكون الا من خلال المكاشفة والشفافية لتحديد مواضع الخلل، وسبل تلافيها، فالمسارات الخاطئة لن يترتب عليها الا المزيد من التدهور وعدم النجاح.
بداية نود لفت الانتباه الى اننا عندما نتكلم عن الدولة فالمقصود بها الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، تلك الدولة التي اكتملت اركان قيام كيانها السياسي قانونا (ارض، شعب، سلطة سياسية مشروعة)، والتي يتمتع مواطنها بحقوقه وحرياته العامة، وهنا نستبعد تماما من هذا الوصف الدول الخاضعة للاحتلال الاجنبي او الحكم الطاغوتي المستبد، فالدول الاخيرة وان توافرت بعض اركان وجودها القانوني الا انها تبقى منقوصة؛ لافتقار شعبها الى الحرية، وتعرضه المستمر لانتهاك حقوقه الانسانية.
اما المقاومة، فهي المقاومة المشروعة التي يناضل افرادها من اجل نيل حقوقهم الانسانية، ومنع استغلال ثرواتهم الوطنية، وتشكيل مؤسساتهم الدستورية المعبرة عن الارادة الحرة لشعبهم، وسيخرج من هذا الوصف كل الحركات المسلحة التي هدفها تخريب الدولة والقضاء على دورها المحوري، فمثل هكذا حركات من غير المناسب ابدا ان نسميها حركات مقاومة، بل هي أقرب ما تكون الى المافيات والعصابات المنظمة.
لقد تم تعريف المقاومة قانونا بأنها:” استخدام مشروع لكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة لدرء العدوان، وازالة الاحتلال والاستعمار، وتحقيق الاستقلال، ورفع الظلم المسنود بالقوة المسلحة”. وانقسم الفقه القانوني في منح المشروعية القانونية للمقاومة المسلحة الى اتجاهين: الاتجاه الاول أسس انصاره مشروعية المقاومة المسلحة على الحق في الدفاع الشرعي، وفقا لما تقضي به المادة (51) من ميثاق الامم المتحدة، التي نصت على: “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة…”، ووفقا لهذا النص يشكل الاستعمار أو الاحتلال الحربي جريمة دولية، أو على الاقل فعلا دوليا غير مشروع يبيح لضحاياهما مقاومتهما على أساس الدفاع الشرعي عن النفس.
أما الاتجاه الثاني، فيرى انصاره تأسيس مشروعية المقاومة الشعبية المسلحة على أساس حق الشعوب في تقرير المصير، حيث أن استخدام القوة المسلحة من جانب الشعوب المستعَمرة او التي احتُلت اراضيها بهدف ممارسة حقها في تقرير مصيرها، لا يعد خروجا عن المبدأ العام الذي يحظر استخدام القوة في العلاقات الدولي، وانما هو عمل مشروع، وهذا ما اكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم (3103) الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1973.
يتضح مما تقدم أن مشروعية المقاومة تحددها ظروف خاصة، كالاستعمار او الاحتلال الاجنبي او الحكم المستبد المنتهك لحقوق وحريات الافراد، وليس من بين هذه الظروف تشكيل مقاومة مسلحة في دولة حديثة قائمة على الارادة الشعبية في اقرار منظومتها القانونية، وتشكيل مؤسساتها الدستورية، فانتفاء شروط المقاومة، يعني انتفاء مشروعية وجودها.
بناء على هذا الفهم، يمكن القول: ان الدولة عندما تكتسب مشروعيتها القانونية وشرعيتها الشعبية تصبح هي والمقاومة نقيضان لا يجتمعان؛ لأن وجود أحدهما يلغي او ينفي وجود الاخر. فالدولة حالة متقدمة من التكون المؤسساتي، وجودها بحد ذاته يعني أن قانونها لا يعلو عليه قانون آخر، ومواطنها ينتمي إليها عقلا ووجدانا، ويدين بالولاء الكامل لها ولا يرتبط بأي ولاء فرعي او أجنبي يمكن ان يلحق الضرر بدولته، بل ان اي ولاء او تعاون خارجي من قبله على حساب مصالح دولته العليا يسمى خيانة عظمى في كل القوانين الوطنية تكون عقوبتها الاعدام، وفي وقت الحرب قد يتم الاعدام رميا بالرصاص.
اما المقاومة فهي وجود سابق على وجود الدولة او لاحق على انهيارها، لها قوانينها الاستثنائية التي يمكن لها قبل وصولها إلى هدفها في بناء الدولة الاستعانة بقوى أجنبية تشاركها هدفها او حصولها على دعم خارجي للتخلص من حكم ظالم او محتل غاصب، وهذا الامر له شواهد تاريخية كثيرة في جميع مناطق العالم، منها على سبيل المثال: آسيا وافريقيا (حركات التحرر من الاستعمار) وأوروبا (فرنسا اثناء الاحتلال النازي) وأمريكا اللاتينية (كوبا) وحتى الولايات المتحدة الامريكية (اثناء حرب الاستقلال) وغيرها من النماذج.
ان وجود المقاومة ينتهي تماما مع تحقيق هدفها في بناء الدولة، ويصبح السهر على تحقيق مصالح الدولة ومصالح مواطنيها هدفا جديدا لكل ارادة راغبة في حماية منظومة حقوق وحريات الافراد، اما وجود المؤسسات الحكومية القوية والكفوءة والعاملة وفقا لقوانين الدولة وتعليماتها النافذة فسيكون الضامن الحقيقي لمنع حصول أي انحراف يهدد سلامة الدولة ومواطنيها. وتتحول العلاقة بين المقاوم السابق الذي تغير وصفه من مقاوم الى رجل دولة وداعمه الخارجي من حالة الولاء الأيديولوجي او القومي أو التحرري أو الديني إلى حالة التعاون الندي بين دولتين مكتملتي السيادة والوجود القانوني، يمكنهما التنسيق فيما بينهما لتطوير علاقاتهما ومصالحهما المشتركة بينيا (العلاقة الثنائية) وفي المحيط الدولي، دون ان تكون هناك تبعية لأي منهما الى الاخرى؛ لأن وجود التبعية يعني وجود خلل ما في تمتع الدولة التابعة بسيادتها المكتملة.
كما ان استمرار المقاوم السابق في التبعية والولاء لغير دولته، في الوقت الذي يؤشر عدم فهمه وادراكه لدوره بعد ان أصبح رجل دولة، فانه يمكن أن يجر عليه مشاكل جنائية كالخيانة العظمى في حال الأضرار بمصلحة دولة لحساب دولة أخرى. وبعد قيام الدولة يصبح أي سلاح خارج سيطرة الدولة او غير خاضع لقرارها الامني والعسكري السيادي سلاحا غير مشروع يجرم صاحبه بشدة في معظم القوانين الوطنية.
ان الدليل الحاسم على الكلام اعلاه هو أنك لا ترى شيء اسمه جماعات أو تنظيمات أو حركات مقاومة أو ما شابه ذلك من العناوين في أي دولة حديثة مكتملة السيادة؛ فوجود مثل هذه الجماعات مجرم قانونا، وتنطبق عليه قوانين الحرابة في الدول التي تعتمد على الشريعة الاسلامية في تنظيمها القانوني، او الخيانة العظمى في غيرها من الدول، لكنك تجد الكثير مما يسمى جماعات المقاومة في مناطق أخرى من العالم؛ أما لكونها لم تبلغ مستوى الدولة، وأما لكونها ارُيد لدولتها ان تنهار وتصبح شبح دولة.
صفوة القول: لا مقاومة مشروعة مع الدولة، ولا دولة مع المقاومة المشروعة، وخلاف ذلك من الكلام اما ناجم عن جهل قانوني بالموضوع او يهدف إلى نسف دولة شرعية قائمة لمصلحة مقاومة غير مشروعة لا تعترف بوجود الدولة التي تعيش على أرضها.
رابط المصدر: