صدر العديد من الإشارات في السنوات والأشهر الأخيرة التي تفيد بأنّ منطقة الخليج العربي تشهدُ تحوّلاً في علاقاتها الاستراتيجية مع الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية على نحوٍ خاصّ. ولعلّ في قبول انضمام كل من المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، رسميّاً، إلى مجموعة “بريكس”، وحضورهما بصفة مراقب في “منظمة شنغهاي للتعاون الإقليمي” دلالة واضحة على الرغبة الخليجية المتزايدة بتوسيع الشراكات، وتنويعها، لكنّ الأمر يتخطى تنويع الشراكات الاقتصادية إلى معان جيو-سياسية واضحة، لا يمكنُ إغفالها.
لقد قاومت الأطراف الخليجية دعوات الغرب المتكرّرة لزيادة إنتاج النفط في ظلّ الرغبة الغربية بتعويض إمدادات النفط الروسي الخاضع للعقوبات. ولم يقف الأمر عند الامتناع عن زيادة الإنتاج، بل إنّ قرارات “أوبك بلاس” اللّاحقة بخفض الإنتاج، كانت ذاتَ آثارٍ محبطة للغاية في العواصم الغربية. وهناك شكاوى غربية، وأمريكيّة متكررة أيضاً من عدم تعاون الأطراف الخليجية فيما يتعلق بتطبيق العقوبات على روسيا وإيران. وكانت المملكة العربية السعودية قامت بتطبيع علاقتها مع إيران برعاية صينية. وفي مؤشر آخر على تباين وجهات النظر الخليجية والغربية، انسحبت الإمارات من القوات البحرية المشتركة التي شاركت فيها لأكثر من 30 عاماً. ودعمت دول الخليج العربية عودة سورية إلى جامعة الدول العربية التي كانت قد طُردت منها في عام 2011 على الرغم من التحذيرات الأمريكية المُتكرّرة من فكرة الانفتاح على النظام السوري قبل التوصُّل إلى حلول سياسية للأزمة في سورية. هذا إلى جانب الانفتاح الخليجي على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تحوَّلَ من “مُنافسٍ لدود” قبل ثلاث سنوات إلى “حليف محتمل” لدولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية.
أطلقت كل هذه الأحداث العنان للتكهُّنات بشأن تأثير التغيرات في النظام الدولي على النطاق الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط. كما أثارت التساؤلات بشأن مستقبل النفوذ الأمريكي في المنطقة. ورأى بعض الخبراء أنّ ذلك قد يكون علامةً على انحسار النفوذ الأمريكي في المنطقة. لكنّ التفسير الأكثر واقعيّةً، هو أنّ نهْجَ “توسيع الشراكات الاستراتيجية” الخليجي، كان قد بدأ قبل كُلّ هذه الأحداث بسنواتٍ عِدّة؛ فهو مرتبطٌ بأسباب موضوعية داخليّة فرضها تطوُّر نموذج بناء القوة السياسية والاقتصادية في العواصم الخليجية أكثر من ارتباطه بتحولات المشهد الدولي، وتنافس القوى الكبرى. وتؤكّد تصريحات العديد من المسؤولين الخليجيين أنّ القيمة الاستراتيجية للعلاقة مع الولايات المتحدة والغرب ليست أبداً موضع إعادة تقييم في العواصم الخليجية، بل إنّ ما يجري هو محاولة “إعادة التوازن” للشراكات الخليجية مع مختلف القوى والتكتلات الدولية.
في هذه الأثناء، جاء الإعلان أثناء قمة العشرين في نيودلهي عن ممرّ اقتصادي عالمي جديد، بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا؛ إذ اتفقت عدة دول (أمريكا، والسعودية، والهند، والإمارات، والأردن، وإسرائيل، وأطراف أوروبية عدة) على شراكة تاريخيّة لدعم البُنية التحتيّة العالميّة. لكنّها شراكةٌ تضعُ علاماتِ استفهامٍ على مستقبل مشروع “الحزام والطريق” الصّيني، كما من المحتمل أنْ تُؤدّي إلى إجهاض مشروع الممرّ الشمالي-الجنوبي الذي سعت كل من: الهند، وروسيا، وإيران إلى تطبيقه خلال السنوات الماضية، وظلَّ يواجهُ عراقيلَ عدّة، مُعظمُها متعلق بالجانب الإيراني الرّازح تحت العُقوبات.
وخلافاً لما كان عليه الحال في مشروع ممرّ الشمال-الجنوب، وبدرجة أقلّ خطة “الحزام والطريق” الصينية، تبدو الظروفُ مواتيةً للغاية لتقدُّمٍ سريعٍ في مراحل إنجاز الممرّ الهندي-العربي-الأوروبي الجديد؛ فالبنية التحتيّة مساعدة للغاية في دول الخليج العربية، ودول الاتحاد الأوروبي، كما أنّ المصادر الماليّة متوافرة، وكذلك الخبرات التكنولوجيّة، ولا تُوجد عقباتٌ سياسيّة، أو تحدّيات أمنيّة تواجهُ المشروعَ باستثناءِ المُشاكسةِ الإيرانيّةِ المُحتملة في مضيق هرمز، والتي يمكنُ تجاوُزها عبْرَ تجنُّب المرور بالمضيق، والاستفادة من الموانئ الخليجية المُطلّة على بحر العرب.
من المحتمل أنْ يؤدي الإعلان عن الممرّ الجديد إلى تراجُع إيران عن فكرة تفعيل الممرّ الشمالي-الجنوبي الذي باتت فرص تحقيقه، وجدواه الاقتصادية موضِعَ تساؤُلٍ كبيرٍ، والتوجُّه بدلاً من ذلك إلى محاولة تشكيل “تحالف خاسرين” من تفعيل الممرّ الجديد. وفي هذا السّياق قد تستهدفُ الجهودُ الإيرانيّة أطرافاً مثل الصّين وتركيا. وبعيداً عن الجدل بشأنِ جدوَى مثل هذه الجهود الإيرانية المحتملة، من الممكن أن نرى في المدى القريب نشاطاً إيرانياً لجلب انتباه الصين، بُغية تفعيل المحطة الإيرانية في ممرّات “الحزام والطريق”؛ إذْ كانت إيران، ولا تزال مُمتعضةً للغاية من محاولاتٍ متناميةٍ لتجنُّب المرور بالأراضي الإيرانية في خطة “الحزام والطريق” الصينيّة. وفي هذا السياق قد تُعيدُ طهران على بيجين مقترح “ممرّ المقاومة” (السكّة التي تطمحُ إيران إلى إنشائِها عبر العراق وسوريا ولبنان إلى المتوسّط)؛ وهو مشروعٌ صعبٌ، لكنّ التجربة أظهرت بأنّ طهران تُفكِّرُ فيهِ بشكلٍ جادٍّ.
والحقيقة إنّه من السابق لأوانه تماماً، الافتراض بأنّ الممرّ الجديد سيؤثر سلباً في خطة “الحزام والطريق” الصينية؛ إذْ ترى بعض الأصوات في الخليج العربي، وخارجه بأنّ الممرّ الهندي-العربي-الأوروبي الجديد، هو مشروعٌ مُكمِّلٌ، وليس منافساً، لخطة “الحزام والطريق” التي لم تُعِر لمنطقة الخليج، ومنطقة الشرق الأوسط بشكلٍ عامٍّ الأهميّة التي يستحقُّها. أما فيما يتعلّق بالجانب التركي فإن شراكاته الاقتصادية المُتنامية مع الأطراف الخليجيّة وإسرائيل، ستعملُ بالتأكيد على تقليصِ الاعتراضات التركيّة المحتملة حيالَ المشروع. ويبقى من المهمّ البحث في سُبل تفعيل الممرّ العراقي-التركي الذي تطمحُ أنقرة إلى تطبيقه وصولاً إلى الأسواق الخليجية. لكنْ من الضروري أيضاً أنْ تتفهّم أنقرة بأنّ فكرة التحوُّل إلى جِسْرٍ أَوْحدٍ ووحيدٍ يربط الشرقّ بالغربِ هي فكرةٌ غيرُ واقعيّةٍ بالمرّة، وينبغي التوقُّفُ عن مُطاردتها.
ولعلّ ممّا يدعو إلى التفاؤلِ بشكل عامّ، أنّ صُنّاع القرار في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا، باتوا يعيرون اليوم أهميّةً أكبرَ للمنافسة الجيواقتصادية، خلافاً لما كان عليه الحال في حِقْبةِ الصّراعاتِ الجيوسياسيّة العقيمة. وحتى في طهران، حيثُ لا يزال العاملُ الإيديولوجيُّ مُهيمِناً، هناك قناعة متزايدة اليوم لدى صانع القرار الإيراني بأنّ مُستقبلَ البلادِ يعتمدُ كثيراً على حصّتها المُحتملَة من عوَائدِ التحوُّلات الاقتصاديّة الجديدة، وموقعِها في خريطة الممرّات الاقتصادية الدولية. وأنّ أهميّة أيِّ بلدٍ في المنطقة، ستكون نتيجةَ تموضُعِه داخلَ هذه الممرّات، واستيعابِه للتحوُّلات الاقتصاديّة العالميّة. ولعلّنا نطمحُ إلى يومٍ قريبٍ، يطغى فيه الاهتمامُ الإيرانيُّ بالممرّاتِ الاقتصاديّة، والتَّمَوْضُعِ داخِلها، على هواجسِ الممرّات الأيديولوجيّة، وخطوطِ إمدادِ ودعم الميليشيات، والوكلاء الإقليميين. ومن البوادر الأولية لتشكُّل مثل هذه القناعة في طهران، الاهتمام اللافت الذي أبداه المجال السياسي الإيراني باستكمال الممرّ الشمالي-الجنوبي، والاحتفاء الكبير بالتعاون مع روسيا لتفعيله، وتقديمُ كلّ ذلك على أنه إنجازٌ استراتيجيٌّ. وكذلك تمحورُ مُعظمِ خطة الشراكة الاستراتيجية الإيرانية – الصينية حول القضايا المتعلقة بالممرّات، والتجارة، والتعاون الاقتصادي.
وهناك رأيٌ سائدٌ في أوساط المحللين والمراقبين في إيران، مفاده أنّ إيران يجري تغييبُها من مختلفِ مشاريع الممرّات الاقتصادية الدوليّة. وتعززت هذه القناعة بعد قرار الهند وروسيا تكثيف تبادلهما التجاري عبر البحار في أكتوبر من العام الماضي (رغم اتفاق البلدين مع إيران لتفعيل التبادل عبر الممرّ الشمالي-الجنوبي الذي يمرُّ من إيران). إذْ أعلنت موسكو ونيودلهي عزمَهُما تفعيلَ طريقٍ بحريّةٍ جديدةٍ للتبادُل التجاريّ. كما تكرّرت هذه القناعة حينَ حاولت الصين تفادي إيران في مشاريعها لممرّات “الحزام والطريق”، وحين غيّرت الإمارات وتركيا ممرّهُما للتبادُل ليمرّ عبر العراق بدلاً من أنْ يمرّ عبر إيران. وعلى الرغم التبايُن بين المحللين في تفسير الأسباب فإن القناعة العامّة هي غياب إيران عن مخططات الممرّات الدوليّة.
ولا شكّ أنّ جزءاً كبيراً من هذه الخسائر الإيرانية ناجمٌ عن خطأ حساباتها السياسيّة، وأنّها لم تتمكّن من إدارة الاختلافات بين الشرق الصيني، والشرق الروسي، حين طبّقت استراتيجية “التوجه نحو الشرق”؛ فقد كان الحليفان السياسيّان مختلفَيْن حولَ الممرّات؛ حيثُ كانت روسيا تُفضِّل الممرّ الشمالي-الجنوبي للارتباط مع الهند، فيما عارضت الصين هذا الممرّ كونه يؤدّي إلى دعمِ موقعِ الهند، ويفتحُ يدَها في القوقاز وآسيا الوسطى، ويفتحُ لها طريقاً أسهلَ إلى أوروبا. وظهرت آثارُ هذا التّعارُض الذي لم تَستَدْرِكْهُ طهران أثناءَ تنفيذِ مشروعِ ميناءِ “تشابهار” الإيراني الذي كان من المفترض أنْ يكون المحطة الرئيسة في الممرّ الشمالي-الجنوبي، وبدأ العملُ على تطويره بتمويلٍ هنديٍّ مقابلَ عُقودِ تشغيلٍ طويلةِ الأمدِ. وأثارَ المشروعُ امتعاضَ الصين التي سعت إلى إجهاضِه، فتوقّف العملُ فيه على الرغم من أنّ العقوبات الدولية استثنته من قائمتها. وكانت الصين ترى في مشروع ميناء “تشابهار” مُنافساً لميناء “غوادر” الذي تعمل الصين على تطويره في باكستان. ولطالما عبّرت الصين عن امتعاضِها من محاولات الهند استهداف مصالحها الأمنيّة والاقتصاديّة في أفغانستان وآسيا الوسطى.
في هذا السياق، يمكنُ فهمُ الموقفِ الإيرانيّ من الممرّ الهندي-العربي-الأوروبي الجديد. فهو من وجهةِ النّظر الإيرانيّة مشروعٌ آخر يُكرِّسُ تغييب إيران من الممرّات الاقتصادية الدوليّة عبْرَ تفادِي المُرور بأراضيها. لكنّه هذه المرّة مشروعٌ عمليّ، وضخمٌ، لنقل 300 مليار يورو من البضائع في كلٍّ عامٍ. وقد ترى طهران في الممرّ الجديد انحيازٌ هنديّ إلى الكُتلة العربيّة في المُنافسة الجيواقتصاديّة الإقليميّة، خُصوصاً أنّه جاء بعد احتفاء الهند بعضويّة إيران في “بريكس”، وبعد اجتماعات هندية-إيرانية طرحَت موضوعَ تفعيلِ العمليّات التنفيذيّة في “تشابهار”. والحقيقةُ أنّ المجالَ السياسيِّ الإيرانيّ رأى في المشروعِ مُؤشِّراً آخرَ على نهاية حُلم الممرّ الشمالي-الجنوبي لأنّهُ ببساطةٍ، يربط الهند بالغرب عبْرَ ممرٍّ بديلٍ؛ أكثر أمناً، وأقلّ تكلفةً، وأكثر سرعةً من ممرّ الشّمال-الجنوب.
وقد ترى الأوساط الأمنيّة والعسكريّة في طهران بأنّ الممرّ الهندي-العربي-الأوروبي الجديد أكثرُ من مشروعٍ اقتصاديٍّ بحتٍ. وقد اعتبر بعضُ التحليلات الصادرة عن هذه الأوساط أنّ انخراط المملكة العربية السعودية في الممرّ يُمثِّلُ خطوةً أُخرى باتّجاه التطبيع العربي-الإسرائيلي، وحركةً جديدةً في سياقِ بناءِ طوقٍ اقتصاديٍّ-أمنيٍّ من حولِ إيران، لمُحاصرَتِها اقتصاديّاً، وأمنيّاً. وبالتالي فإنّ هذه الأوساط العسكرية، قد تتعاملُ مع المشروع باعتباره قادماً من اعتبارات أمنيّة استراتيجيّة تستهدفُ الأمنَ والمكانةَ الإيرانيّة. إنّ مثلَ هذا الفهم المغلوط، قد يحملُ معه تداعياتٍ ميدانيّةً، ولذلك لا بُدَّ من مُراقبةِ انتشارِه، والتواصُلِ مع الأوساط السياسية والاقتصادية في إيران بشكلٍ أفضلَ، لاستبعادِ مثلِ المُنطلَق الأمنيّ غيرِ البنَّاء في التحليلِ والتفسير.
وسبقَ أنْ أظهرت إيران رغبةً باستخدام آليات ضغطٍ أمنيّةٍ وسياسيّةٍ للتأثير على المشاريع التي تراها مضرّةً من الناحية الاقتصادية. إذْ أضعفت طهران على سبيل المثال، الممرّ العراقي-التركي، حينما رأت فيه محاولةً تركيّة للنّفاذ إلى العراق الذي تعتبره طهران باحَتها الخلفيّة. وعلى الرغم من أنّ الممرّ الهندي-العربي-الأوروبي الجديد لا يمرّ من أيٍّ من مناطق النفوذ الإيرانيّة، لكنّ كونه يمرُّ من مضيق هرمز بحسب ما ظهر في الإعلان الأولي عنهُ، يقدِّمُ لإيران ورقةَ ضغطٍ يجبُ أنْ يُعالجَها الممرّ، خُصوصاً وأنّ طهران لوّحت كثيراً باستخدام سيطرتها الجغرافيّة على المضيق، لابتزاز المجتمع الدولي في سياقاتٍ، وتجارب سابقةٍ مُتعدّدة.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/brief/almmr-alaiqtisadi-alhindi-alarbi-al-uwrubiy