عصام الزيات
في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 سُجن 5 جنرالات من قادة الجيش الجزائري بتهم التربح غير المشروع واستغلال النفوذ. الخمسة هم ثلاثة رؤساء سابقين في المنطقة العسكرية، ورئيس الدرك السابق، ورئيس الخدمات المالية في وزارة الدفاع. كان الخمسة جزءًا من موجة كبيرة قام بها الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة من إحالة للتقاعد وإحالات للمحاكمات شملت عددًا كبيرًا من أركان الجيش الجزائري. كذلك سُجن عقيد سابق عمل مديرًا للمخابرات في محافظة وهران، دون أن يذكر الإعلام الجزائري اسمه.
بعد الحراك الشعبي الذي تشهده الجزائر منذ الأول من فبراير/ شباط 2019 وحتى الآن، بدأت قضايا الفساد في الظهور تباعًا. طالت رؤساءً للوزراء ووزراء وشخصيات عامة وسياسيّة. وفي الآونة الأخيرة صرّح رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، بأنّ لديه اطلاعاً على ملفات فساد بأرقام ضخمة. وتعهّد بأن عملية محاربة الفساد لم تزل في بداياتها، وأنّه سيقوم بكل ما يلزم من أجل تلبية مطالب الحراك، لكنّ المؤسسة التي لم يقبل صالح المساس بها أو مجرد التلميح إلى فسادها، مؤسسته الخاصة، الجيش.
يصعب الحديث عن السياسة في الجزائر دون الحديث عن الجيش ودوره. كما لا يمكن ذِكر الجيش دون ذِكر من تولى قيادته من عام 2004 وحتى الآن، ولا يبدو أن هناك نهايةً قريبةً لوجود قايد صالح على رأس المؤسسة العسكرية. منذ انقلاب هواري بومدين عام 1965 والجيش هو حاكم الجزائر. حتى أن الجيش هو من ألغى نتائح انتخابات عام 1991 حين فاز الإسلاميون بها، واستمر مسيطرًا إما بكون الرئيس عسكريًا سابقًا مثل بومدين، والشاذلي بن جديد، واليامين زروال. ويبدو أن بوتفليقة الذي وصل للمنصب كمترشح عادي في انتخابات 1999 لم يصل إلا بحصوله على ضوء أخضر من الجيش، ولم يرحل أيضًا في منتصف عام 2019 إلا بحصوله على البطاقة الحمراء من الجيش كذلك.
وفي العشرية السوداء أهم حدث في تاريخ الجزائر القريب، نرى الجيش يُؤسس المجلس الأعلى للدولة الذي أدار البلاد بصورةٍ علنية. ورغم عزل بوتفليقة في السنوات الماضية لعدد كبير من القيادات فإن التغيير لم يطل الشخص الرئيس في تلك المؤسسة، قايد صالح. تحت قيادة صالح ازداد حجم الجيش الجزائري ليصل إلى 280 ألف شخص. وما يُفسر شعبية الجيش أن معظم هؤلاء من الطبقة الفقيرة والمتوسطة، وأن الجيش يقدم نفسه دائمًا بأنه سليل جيش التحرير الوطني وابن الثورة ضد الاستعمار. الأمران يمنحان الجيش ثقلًا وشعبيةً في أوساط عدة.
أكثر الجيوش فسادًا
تحت غطاء الثقة الشعبية تختفي حقيقة أن الجيش الجزائري من أكثر جيوش المنطقة فسادًا، وفق تقرير منظمة الشفافية الدولية منذ عام 2011. التقرير قارن بين 19 جيشًا إفريقيًا وعربيًا، وحصلت الجزائر على على تقييم «إف» الذي يعني فساد حرج وهو أسوأ من تقييم «أ» والذي يعني فساد مرتفع جدًا. التقرير استرسل في الحديث عن الأوضاع داخل الجيش فقال: إن الجريمة المُنظمة اخترقت الجيش الجزائري. كما قال، إن الرشوة صارت أمرًا طبيعيًا داخل المؤسسة العسكرية، خاصةً وأن شراء الأسلحة أمر محاط بسرية شديدة ولا يعلم الكثيرون داخل المؤسسة نفسها القواعد التي على أساسها يتم اختيار ذاك السلاح دون غيره للشراء، من تلك الدولة أو الشركة دون غيرها.
اقرأ أيضًا: القصة الكاملة: كيف يعيق الجيش الجزائري مسار الثورة؟
الجزائر عامةً تحتل مراتب مرتفعة في تقارير الفساد الدولية ويزداد تصنيفها سوءًا كل عام، ففي عام 2013 كانت رقم 94 في مؤشر الشفافية العالمي، ثم صارت رقم 100 عام 2014. أما في 2019 فقد أتت الجزائر في ذيل الدول ذات القدرة التنافسية الاقتصادية. وحلّت في المرتبة 116 ضمن أسوأ في مجال شفافية الميزانية. وبخصوص تضارب المصالح الخاصة والعامة جاءت الجزائر في المرتبة رقم 131 ضمن دول العالم، مما يعني أن استغلال النفوذ والتربح من المناصب أمر شديد الشيوع فيها.
التقارير الدولية تركز على الفساد في المؤسسات العسكرية باعتبارها عنصرًا مهيمنًا في دول أفريقيا والشرق الأوسط. كما أنه له نصيب ملموس في القيادة السياسية في تلك الدول، مما يجعل قضايا الفساد في المؤسسات العسكرية أكثر إلحاحًا من الفساد في غيرها. لكن إذا أخذنا خطوةً خارج أسوار المؤسسة العسكرية لنعرف كيف يرى الجزائريون كامل مؤسسات الدولة، فسنجد أن 34% من الشعب يرى المسئولين كبارًا وصغارًا في كل قطاعات الدولة فاسدين، بينما يؤمن 41% من الشعب أن بعض المسئولين فقط هم الفاسدون.
ويمكن فهم حالة انعدام الثقة التي تدفع المتظاهرين للتواجد في الشارع كل جمعة للمطالبة بإزاحة كل رموز نظام بوتفليقة دون تأخير أن 70% من الجزائرين يؤمنون أن جهود الحكومة لمحاربة الفساد لن تُجدي لأن سجل الحكومة ذاتها سيئ وتاريخها مليء بالفساد. يكفي مثالًا أن الفساد في الجزائر وصل إلى لعبة رياضية لا يترتب عليها أمر سياسي مثل كرة القدم. ففي الجزائر رشوة اللاعبين والحكّام أمر مألوف إلى حد وضع قائمة أسعار لشراء الذمم، والتلاعب بنتائج المباريات
الرجل الأخطر والأكثر فسادًا
في الجزائر يبدو الأمر أكبر وأكثر عمقًا، فمع وجود صالح في منصبه لما يُقارب 15 عامًا متواصلة مكنّه من إنشاء شبكة قوية من العلاقات. كما أنّه استطاع أن يتفرد بالجيش والرئاسة معًا دون منافسين أقوياء، فقد نجح في إبعاد الكثيرين من الأنداد. من حملاته ضد الأنداد الحملة ضد الخمسة الذين ذُكروا في بداية المقال. فحين تعرض بوتفليقة للوعكة الصحية التي ألزمته الكرسي المتحرك برز الخلاف حول استمرار بوتفليقة لولاية رابعة. صالح كان مؤيدًا لذلك بشدة ولم يتردد في إعلان ولائه لبوتفليقة، ربما عرفانًا منه برد الاعتبار الذي منحه إياه بوتفليقة بجعله رئيسًا لأركان الجيش ونديمه المُفضل.
لكن من المعارضين كان محمد مدين، المشهور بالجنرال توفيق، مدير المخابرات لمدة 25 عامًا. لذا بعد فوز بوتفليقة بالولاية الرابعة أجرى عدة إصلاحات جرّد فيها جهاز المخابرات من صلاحيات كثيرة، كما أسند مهمة حمايته للحرس الجمهوري. واختتمت العملية الانتقامية من توفيق بقرار إقالته عام 2016. ثم في مايو/ آيار 2017 ضبط الجيش الجزائري أكبر قضية تهريب كوكايين في تاريخه، 7 قناطير كاملة. بتلك الضبطية بدأ قايد حملته في إزاحة باقي الخمسة وزيادة. على الجهة الأخرى، منذ وصول صالح لرئاسة الأركان تمت ترقية العديدين من أبناء قبيلته، وإجبار من لم تطلهم قضايا الفساد من الأنداد على قبول المعاش المبكر.
لذا كان صادمًا، لكن متوقعًا، مما جاء في وثائق ويكليكس التي نُشرت عام 2010 عن الفساد في الجيش الجزائري. إذ قالت الوثائق إن الفساد في الجيش بلغ أبعادًا أسطورية. وذُكر اسم رئيس الأركان أحمد قايد صالح، ووُصف صراحةً بأكبر فاسد في الجيش الجزائري. الوثيقة مُرسلة من روبرت فورد، السفير الأمريكي في الجزائر إلى وزارة الخارجية الأمريكية، والكلام فيها منسوب لشخصٍ رفيع المستوى في الجيش لكن دون تحديد اسمه. وأضاف السفير تعقيبًا على تلك الرسالة قائلًا بأنه قد ورد إليه من جهات أخرى معلومات تأكيدية عن فساد قايد صالح.
ونقلت الوثائق أيضًا حوارًا جمع الجنرال توفيق وسعيد سعدي، رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، يطرح فيه سعدي على توفيق مسألة انتشار الفساد في المؤسسة العسكرية وفساد قايد صالح خاصةً. تقول الوثيقة إن توفيق وافق سعدى على كلامه، لكنّه أشار إلى صورة بوتفليقة المُعلقة خلفهما على الحائط موضحًا أن الفساد وصل إلى أعلى نقطة في هرم السلطة.
الفساد سرطان الجزائر
الوثائق وصفت سرعة انتشار الفساد في الجزائر بالسرطان. كما حذرت أن الشعب لن يستطيع التحمل تبعات استمرار انتشاره بهذه الوتيرة. تلك التحذيرات كانت في الولاية الثانية لبوتفليقة، لكن استمر الفساد وتضاعف حتى آخر الولاية الرابعة لبوتفليقة. كذلك نقلت الوثائق رسائل من السفير الفرنسي في الجزائر «برنار باجوليه» إلى نظيره فورد يخبره فيها أن الفساد بلغ مستوى متقدم للغاية في الجزائر، ووصل كذلك إلى قمة الهرم في المؤسسة العسكرية، وقمة الهرم إشارة إلى قايد صالح.
كما تحدثت الوثائق عن الميزانية الضخمة للجيش الجزائري، التي لا تتناسب مع متطلباته العسكرية كما أنها لا تتناسب مع ما يشتريه بالفعل مع أسلحة. ولمح السفير الفرنسي إلى عدم وجود مساءلة حقيقية للجيش في الجزائر، وأنّ ميزانية الجيش محاطة بسرية تامة في معظم الأحيان. وبجانب منع اللجان المدنية من الاطلاع على ميزانية الجيش، فإن اللجان المدنية التي شُكلت لمكافحة الفساد اتخذت من قيادات الجيش خطاً أحمر. وهو ما كشفته أيضًا بعض الوثائق المسربة عن وجهة نظر الإدارة الأمريكية في برامج مكافحة الفساد التي تطلقها الجزائر.
كما أن التحقيقات لم تذكر حادثةً تشير أصابع الاتهام فيها إلى قايد صالح، حادثة شراء طائرات روسية فاسدة من طراز «سو-30 إم كي آي». في خلال عامي 2010 و2011 كانت الجزائر قد حصلت على ما يُقارب 28 طائرة من ذلك الطراز في صفقة بلغت مليار دولار. لكن وزارة الدفاع الهندية التي حصلت على طائرة مشابهة فتحت تحقيقًا في سقوطها ثم نشرت تقريرًا دقيقًا يُفيد بفساد تلك الطائرات.
اقرأ أيضًا: الديوان الأسود: سؤال السياسي والعسكري في الجزائر
ما اُضطر وزارة الدفاع إلى التدقيق في كامل الأسطول الذي اشترته من روسيا، وانتهت إلى أن جميع الطائرات تحتوي خللًا فنيًا قد يودي بحياة طاقمها. وأُكتشف لاحقًا أن الطائرات التي حصلت عليها الجزائر صُنعت ما بين أعوام 1982 و1996، لكنّها بيعت للجزائر باعتبارها مصنوعة في عام إتمام الصفقة. حادثة الغش التجاري لم تُعكر صفو العلاقات الجزائرية الروسية واكتفت الجزائر بإعادة 15 طائرة معيبة فقط واستبدالها بأخرى حديثة.
ركزّت الصحف الجزائرية على التحقيقات التي أجراها الجانب الروسي للمسئولين من جانبه عن تلك الصفقة. لكن لم يُطرح تساؤل كيف لا تفحص الطائرات من قبل لجان جزائرية قبل استلامها، وكيف اكتفت القيادة العسكرية بالتأكيد الروسي أن الطائرات غير معيبة. التناول الإعلامي يمكن اعتباره قرينةً على مدى نفوذ قيادات الجيش، واستمرار قايد صالح على رأس المؤسسة العسكرية بعد فضيحةٍ مدوية كتلك يُدّعم أنه صاحب نفوذ قوي، ودوره البارز في لأحداث التي شهدتها الجزائر طوال عام 2019 يؤكد أن يد الرجل لا تسيطر على المنشآت العسكرية فحسب، بل على القصر الرئاسي كذلك.
رابط المصدر: