- ما يُميز تصعيد يونيو 2025 بين إسرائيل وإيران أنَّه تجاوز قواعد الاشتباك التقليدية. فالمواجهة ما عادت تدور عبر وكلاء أو عمليات محدودة، بل تحوّلت إلى صراع مباشر بين القوتين الإقليميتين، مع استخدام أسلحة هجومية دقيقة، ودمج أدوات تقليدية وغير تقليدية في إدارة الصراع.
- كان أحد المتغيرات المهمة في المواجهة العسكرية الإسرائيلية-الإيرانية، دخول الولايات المتحدة على خط الحرب من طريق شنها ضربة محددة استهدفت مجمعات ومنشآت استراتيجية/نووية داخل إيران، الأمر الذي مثَّل تطوراً لافتاً غيّر موازين الردع.
- أظهرت المواجهة الأخيرة أن التصعيد الإسرائيلي-الإيراني، على رغم خطورته، بَقِيَ مضبوطاً بسقوف سياسية وعسكرية تمنع الانزلاق نحو حرب شاملة؛ وفي ضوء ذلك باتت فرص العودة للمسار الدبلوماسي قويّة، خاصة في الملف النووي، وملف الأنشطة الإقليمية الإيرانية.
- ستستمر على الأرجح المواجهة غير المباشرة بين إسرائيل وإيران في المستقبل المنظور، لكن الباب – مع ذلك – سيبقى مفتوحاً أمام مفاوضات أوسع بين إيران والقوى الغربية بقيادة واشنطن، قد تُعيد نتائجها رسم معادلة الأمن الإقليمي بالكامل.
شهدت منطقة الشرق الأوسط تصعيداً عسكرياً غير مسبوق في خلال النصف الثاني من يونيو 2025، تَمثَّل في اندلاع مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، هي الأوسع والأعنف منذ عقود. جاء هذا التصعيد تتويجاً لسنوات من التوترات والاشتباكات بالوكالة، ووسط مناخ إقليمي مضطرب، تزايدت فيه مؤشرات الانفجار بسبب تعثُّر المفاوضات النووية بين إيران والقوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة، واستمرار مظاهر الاشتباك مع نفوذ طهران الإقليمي رغم تراجُعه مؤخراً، وعودة دونالد ترمب، الذي سبق أن مزَّق الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 في ولايته الأولى، إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة.
التصعيد الإسرائيلي-الإيراني وتحوّل قواعد الاشتباك
في 13 يونيو الجاري، شنَّت إسرائيل عملية عسكرية واسعة أطلقت عليها اسم “شعبٌ كالأسد”، استهدفت منشآت عسكرية ونووية داخل إيران. ووُصِفَت بأنها نتيجة تخطيط طويل تضمن إدخال وحدات كوماندوز، وطائرات مسيّرة مفخخة لضرب أهداف محددة من داخل إيران نفسها. كما استخدمت أساليب اغتيال مباشرة، من قبيل زرع قنابل لاصقة في سيارات مسؤولين. وأسفرت العملية عن مقتل عدد من كبار قادة الحرس الثوري، بينهم حسين سلامي ومحمد باقري، بالإضافة إلى عدد من العلماء النوويين، كان آخرهم محمد رضا صديقي، المدرج في قائمة العقوبات الأمريكية. وصرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن العملية تستهدف القضاء على “التهديد النووي والصاروخي الإيراني“، و”ربما تحفيز تغيير النظام“.
ردّت طهران على الهجوم الإسرائيلي الواسع بعملية مضادة، اسمتها “الوعد الصادق 3″، أطلقت في خلالها مئات الصواريخ والطائرات المسيّرة باتجاه منشآت إسرائيلية استراتيجية مثل مقر القيادة في تل أبيب، وقاعدة نيفاتيم الجوية، وميناء حيفا، ومعهد وايزمان، إلى جانب استهداف مدن ومنشآت مدنية. وقد أُعلن عن سقوط قتلى وجرحى، وسط تعتيم رسمي إسرائيلي. ومع ذلك، أفشلت إسرائيل جزئياً العديد من الهجمات ضدها عبر استهداف منصات الإطلاق في إيران وتفعيل منظومات دفاع متقدمة.
ما يُميز تصعيد يونيو 2025 بين الطرفين الإسرائيلي والإيراني أنه تجاوز قواعد الاشتباك التقليدية. فالمواجهة ما عادت تدور عبر وكلاء أو عمليات محدودة، بل تحوّلت إلى صراع مباشر مفتوح بين قوتين إقليميتين، مع استخدام أسلحة هجومية دقيقة، واندماج أدوات تقليدية وغير تقليدية (اغتيالات، ومسيرات، وهجمات سيبرانية). وكشف هذا التصعيد عن انهيار الخطوط الحمراء السابقة، مثل الامتناع عن ضرب العمق أو استهداف القيادات العليا. ويدشّن هذا التحول، على الأرجح، مرحلة جديدة من العلاقة بين الطرفين، تقوم على الردع المتبادل مع إمكانية اللجوء إلى الاشتباك المكشوف.
وكان أحد المتغيرات المهمة في هذه المواجهة، دخول الولايات المتحدة على خط الحرب من طريق شنها ضربة محددة استهدفت مجمعات ومنشآت استراتيجية/نووية داخل إيران، الأمر الذي مثَّل تطوراً لافتاً غيّر موازين الردع. ففي 21 يونيو، نفَّذ الجيش الأمريكي ضربة جوية مركّزة، بواسطة طائرات شبحية، على ثلاث منشآت نووية إيرانية: أحدها موقع فوردو المحصن تحت الأرض، ومنشأة تخصيب اليورانيوم في نطنز، ومركزاً لتطوير أجهزة الطرد المركزي في ضواحي أصفهان. وقد أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، أن “هذه الضربة كانت ضرورية لمنع إيران من الوصول إلى العتبة النووية”، واصفاً إياها بأنها “ضربة محددة ضد القدرات، لا ضد الشعب أو النظام”، ومؤكداً أن “إيران لن تمتلك قنبلة نووية ما دام في البيت الأبيض”.
وعلى رغم فاعلية الضربة الأمريكية في اختراق منشآت استراتيجية حساسة، إلا أن الأضرار بقيت محصورة جزئياً بسبب تفريغ المواقع مسبقاً، إذ قامت إيران قبل الضربات، بوقت قصير، بتحويل كميات من المواد المخصبة إلى مواقع أخرى، وإفراغ منشآت مركزية من غاز سادس فلوريد اليورانيوم عالي التخصيب، ما قلّص الأثر التدميري للهجمات الأمريكية، وأدى إلى عدم وقوع تسرب إشعاعي كبير. كما لم تُسجل تسريبات إشعاعية في المناطق المحيطة، وفق بيان الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومع أن تقارير رجّحت أن طهران علمت بالضربة عبر قنوات دبلوماسية غير مباشرة، ما ساعدها على الحدّ من الخسائر الفنية، إلا أن الاستهداف الأمريكي المباشر شكّل سابقة خطيرة في استهداف منشآت نووية لدولة غير نووية، وأعاد الجدل حول “شرعية القوة” و”حرمة المنشآت المدنية في الحروب”.
أظهرت المواجهة الأخيرة أن التصعيد الإسرائيلي-الإيراني، على رغم خطورته، بَقِيَ مضبوطاً بسقوف سياسية وعسكرية تمنع الانزلاق نحو حرب شاملة
وقد أظهرت هذه الضربة، وما سبقها من فشل إسرائيلي جزئي في تدمير البرنامج النووي الإيراني كلياً، حجم الفجوة في القدرات التقنية، لاسيما في التعامل مع المنشآت تحت الأرض؛ إذ استخدمت الولايات المتحدة قنابل خارقة للتحصينات (GBU-57)، وهو ما تفتقر إليه إسرائيل. ومن الناحية الاستراتيجية، كشفت الضربة الأمريكية عن ثلاث رسائل متزامنة: أولاً، أن واشنطن، على رغم تجنّبها الانخراط في حرب شاملة، لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي. ثانياً، أن إدارة ترمب مستعدة لاستخدام القوة المحددة أداة ضغط سياسي واستراتيجي. وثالثاً، أن التنسيق الأمريكي – الإسرائيلي قائم، لكن ضمن حدود مدروسة تُراعي تفادي الانزلاق نحو مواجهة إقليمية مفتوحة.
من جانبها، امتنعت إيران في البداية عن الرد المباشر على الضربة الأمريكية، وركّزت ردّها المباشر على إسرائيل فقط، ما عُدّ محاولة لاحتواء التصعيد ومنع توريط واشنطن بشكل أوسع. لكن بعد ثلاثة أيام، وتحديداً ليلة 23 يونيو، أطلقت طهران صواريخ باليستية قصيرة ومتوسطة المدى باتجاه قاعدة “العديد” الأمريكية في قطر، في عملية حملت اسم “بشارة الفتح”. واللافت أن إيران حرصت على إرسال تحذير مسبق بشنها هذه الضربة عبر القنوات الدبلوماسية، الأمر الذي أسهم في اعتراض معظم الصواريخ دون تسجيل إصابات، مما عكس رغبة إيران في توجيه رسالة ردع محدودة، دون تصعيد المواجهة مع الولايات المتحدة إلى مواجهة مفتوحة.
الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية للمواجهة على طرفي الصراع
أدى التصعيد الإسرائيلي-الإيراني إلى تفاقم الضغوط على الاقتصاد الإيراني، فتراجعت بورصة طهران 7.2%، وهبط الريال إلى 937 ألفاً للدولار في السوق الموازية، مع اتساع الفجوة عن السعر الرسمي. وسجل التضخم الشهري 2.7%، مع توقّعات ببلوغه 3.5%. وتصاعدت عمليات تحويل رؤوس الأموال للخارج، ما يعكس حالة من الذعر المالي وفقدان الثقة بالنظام المصرفي الإيراني. كما ارتفعت أسعار الذهب داخلياً بأكثر من 10%، في ظل توجه المستثمرين للأصول الآمنة.
وفي إسرائيل، تراجعت بورصة تل أبيب 4% فقط على الرغم من القصف الإيراني، وانخفض الشيكل 3.1% أمام الدولار. وضخت الحكومة 6.5 مليار شيكل لدعم الاقتصاد الإسرائيلي، وارتفعت أسهم الصناعات الدفاعية، لكن تحليلات حذَّرت من أن هذا النمو قد يكون “فقاعة مالية” لا تعكس قوة اقتصادية حقيقية، بل نتيجة الدعم الحكومي في ظل أجواء الحرب.
وعلى رغم الأزمة الاقتصادية والانهيار النقدي، أظهر المجتمع الإيراني تماسكاً لافتاً؛ إذ أثار مقتل قادة عسكريين وعلماء نوويين موجة تعاطف واسعة حتى داخل أوساط المعارضة. وقد برزت مظاهر صمود شعبي، وشعارات وطنية، ومبادرات أهلية، وظّفها الإعلام الرسمي لتعزيز الاصطفاف الداخلي. ومع هذا، أدت الضربات الإسرائيلية لإيران إلى تصاعد القلق الشعبي، خصوصاً في طهران وتبريز، مع موجة نزوح نحو الشمال (مازندران) خشية استمرار الهجمات أو حدوث تسرّب إشعاعي، ما شلّ العديد من المرافق العامة وأربك بعض الخدمات الأساسية.
من ناحيتها، واجهت إسرائيل اضطراباً واسعاً في الحياة العامة، في ظل إغلاق المدارس واستدعاء السكان للملاجئ، خاصة بعد مقتل مدنيين داخل أحدها بصاروخ إيراني اخترق التحصينات، ما أثار شكوكاً حول كفاءة منظومة الدفاع. وكشفت تقارير أن أكثر من 60% من المنازل في إسرائيل تفتقر لغرف محصنة؛ ما عمّق الخوف الشعبي، وأثار انقساماً بين النخب السياسية والعسكرية حول قدرة الدولة على حماية مواطنيها.
على الجبهة الإعلامية، كثّف الإعلام في البلدين خطاب التعبئة في خلال كل أيام المواجهة؛ إذ ركزت إيران على “الرد المشروع” وإبراز صمود الدفاعات. أما إسرائيل فأكدت أن “الصراع وجودي”، وبعثت رسائل طمأنة حول قوتها العسكرية، على رغم تزايد الانتقادات الداخلية.
مواقف القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ودلالاتها
الصين وروسيا: تجنَّبت بيجين الانخراط المباشر في الأزمة، لكنها تابعت التصعيد الإسرائيلي-الإيراني بوصفه فرصة لتعزيز مكانتها التفاوضية في ملفات استراتيجية (تايوان، الطاقة). أما موسكو، فاتخذت موقفاً أكثر وضوحاً؛ إذ حذّر الرئيس فلاديمير بوتين من “كارثة جيوسياسية” نتيجة الصراع، مؤكداً دعم إيران سياسياً، ورفضه اغتيال المرشد الأعلى، مع التأكيد على الشراكة النووية المدنية؛ وبهذا فقد حاولت روسيا الظهور في شكل وسيط محتمل، دون خسارة تحالفاتها أو زيادة التصعيد مع الغرب.
أوروبا: تفاوتت المواقف الأوروبية بين التحذير والدعوة إلى العودة للتفاوض، دون تأثير ملموس على مسار التصعيد بين إسرائيل وإيران. ومع ذلك، برز تطوّر لافت عبر مبادرة أوروبية لعقد لقاء في جنيف يوم 20 يونيو، يضم وزراء خارجية ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي مع نظيرهم الإيراني، بهدف إعادة فتح قناة حوار بشأن البرنامج النووي الإيراني؛ حيث تسعى أوروبا من خلال هذه الخطوة إلى استعادة زمام المبادرة التفاوضية، وتحييد التصعيد العسكري، وكبح النفوذ الروسي في الملف الإيراني.
دول الخليج: دعت دول الخليج العربية، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة قطر، إلى التهدئة وضبط النفس، رافضة الانخراط في أي تحالف عسكري مباشر. وتميّز موقف دولة الإمارات بالهدوء الاستراتيجي، مع تأكيدها أهمية الاستقرار الإقليمي، والحفاظ على علاقاتها المتوازنة مع إيران وإسرائيل، بما ينسجم مع مقاربتها الجديدة في ممارسة أدوار التهدئة، وخفض التصعيد بدل الاصطفاف.
استنتاجات: حدود المواجهة، وفُرَص التهدئة
أظهرت المواجهة الأخيرة أن التصعيد الإسرائيلي-الإيراني، على رغم خطورته، بَقِيَ مضبوطاً بسقوف سياسية وعسكرية تمنع الانزلاق نحو حرب شاملة؛ ومع أن الضربة الأمريكية الدقيقة على منشآت نووية إيرانية أكدت، عملياً، أن واشنطن لن تسمح بامتلاك إيران للسلاح النووي، لكنها في الوقت نفسه عكست رغبة واشنطن في عدم التورط في نزاع إقليمي موسّع. وتبعاً لهذا، جاء رد طهران عبر استهداف قاعدة “العديد” الأمريكية في قطر بهجمة صاروخية بدت أنها منسّقة مُسبقاً، ولم توقع أية خسائر بشرية، الأمر الذي أسهم في توافق الطرفين الإيراني والإسرائيلي على وقف لإطلاق النار بين إيران وإسرائيل اعتباراً من صباح يوم 24 يونيو.
وفي ضوء هذه التطورات باتت فرص العودة للمسار الدبلوماسي قويّة، خاصة في الملف النووي، وملف الأنشطة الإقليمية الإيرانية. لكنّها تظل فرصة مشروطة بسلوك الأطراف، والتزامهم، انطلاقاً من موازين الردع الجديدة. كما أبرزت الأزمة أهمية الخليج العربي في السياسة الإقليمية، إذ استطاع التحوُّل من مسرح للتصعيد إلى فاعل مؤثر في احتواء الأزمة، وتداعياتها. وبينما ستستمر على الأرجح المواجهة غير المباشرة بين إسرائيل وإيران، فإن الباب سيبقى مفتوحاً أمام مفاوضات أوسع، قد تُعيد رسم معادلة الأمن الإقليمي بالكامل.