د. احمد ابريهي علي
تهتم هذه المذكرة بجانب من إدارة المالية العامة لتحسين منهجيات البرمجة والتنفيذ بالعلاقة مع الموازنة Budget، وهي بمجموع اجرآتها وأهدافها تمثل خطة لتمويل الإنفاق على النشاط الحكومي الاستهلاكي والاستثماري. وتعتمد تلك الخطة الوظائف التي تزاولها الدولة عادة: أمنية ودفاعية؛ وإقتصادية؛ وبنى تحتية؛ وخدمات إجتماعية؛ ومهام السلطة الإدارية السيادية…؛ إضافة على إنصاف المحرومين؛ والعدالة التوزيعية للرفاه؛ ووسائل الارتقاء الحضاري.
وتُبوّب، الموازنة، بموجب البنية الإدارية والتنظيمية للحكومة وتوزيع السلطات والصلاحيات؛ وتُفصّل حسب المكونات الاعتيادية للنفقات: رواتب وأجور ومخصصات؛ ومستلزمات سلعية وخدمية؛ وإعانات…؛ وتحويلات… الخ. أما الموازنة النقدية Cash Budget فهي أداة لإدارة المالية العامة، في ضوء تلك الموازنة، بمنهج يقوم على الأرصدة والتدفقات، لضمان السيولة الكافية في الوقت المعين عبر إجراء التعديلات الضرورية لتعويض نقص الإيرادات ومواجهة النفقات المستجدة. ويمكن ببساطة القول ان الموازنات النقدية فعالة لتنفيذ الموازنة العامة؛ ويمكن تسمية الموازنة النقدية “ميزان” تمييزا لها عن الموازنة المتعارف عليها. ولا يقتصر إستخدام الموازنات النقدية على الحكومة بل هي شائعة في الشركات وإدارة البرامج، والتحليل المالي والاقتصادي للمشاريع وفرص الاستثمار.
إصدار واعتماد الموازنات النقدية:
بعد الإنخفاض الحاد في أسعار النفط، من المتوقع إهتمام دوائر القرار بالعجز وصعوبات التمويل والبحث عن تدابير بديلة لإدامة الإنفاق الضروري في الأمد القصير وحتى نهاية عام 2020. ولهذا الغرض فإن أكفأ وابسط منهجية للسيطرة على الإنفاق الحكومي وتمويله هي إدارة الموازنة النقدية Cash Budget Management أو بتعبير أبسط موازنة الأرصدة والتدفقات، الداخلة والخارجة، على الأساس النقدي Cash Basis، والمنهج معروف في كل العالم ويستخدم ليس فقط للحكومة والموازنة العامة بل للشركات أيضا. وهو المعول عليه في الإدارة المالية الفعلية وخاصة للأمد القصير والسيطرة على الموارد والإنفاق أولا بأول بالتعديل المستمر.
وفي العراق يقتضي الواقع، وخصائص الاقتصاد، والارتباط بين المالية العامة والصادرات، إعداد موازنتين نقديتين: واحدة بموارد واستخدامات النقد الأجنبي، والثانية مثلها بالنقد الوطني.
تتطلب إدارة الإنفاق العام إصدار الموازنتين شهريا، في اليوم الأول من الشهر الجديد: للشهر، والفصل، والسنة. وبذلك فإن ارصدة الافتتاح لبداية الشهر في الموازين الشهرية، وبداية الفصل والسنة للموازين الفصلية والسنوية هي أرصدة الختام للمدد السابقة لها شهريا وفصليا وسنويا. أما المقبوضات والمدفوعات فهي مقدرة أيضا للشهر والفصل والسنة على اساس وقت القبض أو الدفع الفعلي. هذه الموازين بأصنافها الثلاثة تُعِدها وزارة المالية بالتعاون مع المصارف والبنك المركزي؛ وتصدر شهريا من مجلس الوزراء وتُرسل الى مجلس النواب أيضا. ولتسهيل الإدارة تؤخذ ملاحظات مجلس النواب في الإصدار اللاحق. وتباشر وزارة المالية يوم 25 من الشهر بإعداد الموازين تلك، لتدارسها في جلسة مع رئيس الوزراء بحضور وزير التخطيط، لتُعدّل وتعرض على مجلس الوزراء لإقرارها وتصدر مُلزمة لجميع الجهات.
الموازنة النقدية أو إدارة النقد Cash Management عنصر اساس في إدارة الإنفاق العام لتجنب المفاجآت والتغيرات الحادة، قدر الإمكان، وايضا لتنظيم الاقتراض والذي لا تخفى صلته الوثيقة بالسياسة النقدية والاحتياطيات الدولية للبنك المركزي. ومن اهم مسوّغات هذا المنهج تسهيل السيطرة على الإنفاق خلال السنة، وخاصة مع عدم التأكد من جانب الموارد Resources. والمسألة الجوهرية في الموازنات النقدية في العراق التمييز، دون لبس، بين منظومتين من الأرصدة والتدفقات الداخلة والخارجة: أرصدة وموارد وإستخدامات بالعملة الأجنبية وأخرى بالعملة الوطنية.
ولا بد من التخلي عن المقاربة المتعارف عليها في وزارة المالية وهي ان الموارد والاستخدامات واحدة يعبر عنها بعملتين، دينار ودولار، فالموازنة، حسب التصور السائد والنافذ في دوائر القرار، هي إيرادات نفط بالدولار تترجم، حسابيا، الى الدينار وتنفق. لقد كان هذا الفهم خلف الكثير من الالتباس وإعاقة مقترحات التطوير. وهو علة الانفصام بين ميزان المدفوعات الخارجية والموازنة العامة في العراق، في التفكير والسياسة الاقتصادية، ومن اسباب الغموض النظري وإغفال الاختلاف الواقعي بين ضرورات ومضامين الاقتراض الداخلي والخارجي.
تعديل الإنفاق ومصادر تمويله، حجما وتوقيتا، لا بد منه في أي نظام للموازنة العامة، والأفضل إسناد هذه المهمة الى منهج يقوم على حساب مسبق وتدبر حصيف. وسوف يتبين ان إدارة الإنفاق العام بنظام الموازنات النقدية System Cash Budgeting يتطلب معلومات متكاملة عن المجريات الفعلية لإدارة المالية العامة والشبكة المصرفية للموازنة. ويقتضي إعتماد هذا الإسلوب التعاون الوثيق، بهمة عالية وإحساس عميق بالمسؤولية، بين جميع الدوائر المشاركة. كما ان إعداد وتنفيذ الموازنات النقدية بمثابة مراجعة وتدقيق لمختلف عناصر النفقة، بتفاعل دائم مع التكاليف وإستهداف إزالة غير الضروري منها ورفع الكفاءة لخفضها.
تترتب على التحول الى اللانظام والإجراءآت الارتجالية والمستعجلة، في مواجهة النقص الحاد بالموارد، أضرار جسيمة. والأفضل هو المنهج الواضح والكافي لأداء المهمات في مختلف الأوضاع. إن مواجهة التغيرات الحادة في مكونات الإنفاق ومصادر التمويل، والتكيف معها، يتطلب الإخلال بالحساب والضبط، وتساعد الموازنات النقدية في ترصين المالية العامة في العراق بهذا المعنى.
تضمن الإدارة بالموازنات النقدية:
– السيطرة على أموال الموازنة العامة في النظام المصرفي الأجنبي والعراقي؛
– تنسيق الاقتراض مع التوقعات عن رصيد نهاية المدة. لأن هذه الموازين تصدر تخطيطيا: في بداية الشهر للشهر ذاته والفصل والسنة المالية بأكملها. مثلا في بداية نيسان عن الشهر، والفصل الثاني من السنة، والسنة المالية حتى نهايتها؛ وفي ايار كذلك… وفي بداية تموز عن الشهر والفصل الثالث والسنة… وهكذا، اي ان الموازنات النقدية الفصلية والسنوية تعدل شهريا.
– تتجاوز مشكلة الحسابات الختامية والتي تتأخر عادة في كل العالم، ولذلك تدار الموازنات نقديا أي بالتدفقات الداخلة والخارجة المتوقع تحققها فعلا في مدة الموازنة النقدية، شهر او فصل أو سنة، وبالارتباط الوثيق مع الشبكة المصرفية لإدارة إيرادات ونفقات الموازنة.
– تزيل الالتباس الذي نشأ من الخلط المؤسف بين العملة الوطنية والأجنبية في العراق عبر إيضاح الإنفاق المباشر للحكومة بالعملة الأجنبية ومختلف اشكال التصرف الأخرى بها؛ وبالتوازي بيان ومصادر التمويل بالدينار العراقي ومنها مبيعات العملة الأجنبية؛ إضافة على دور البنك المركزي وعلاقة الموازنة العامة بالجهاز المصرفي؛ وهذه من ضروريات المعرفة والسيطرة المعلوماتية المفترضة في الجهات الحاكمة للإنفاق العام ذي الأهمية الحاسمة في الاقتصاد العراقي وعموم الاقتصاد المعاصر.
عناصر مهمة في منهج الموازنات النقدية:
يجري إعداد الموازنات النقدية Cash Budgets بالحوار المستمر والتقريب المتتابع بين عناصر الموارد والاستخدامات. بداية توضع في جانب الموارد ارصدة الافتتاح وهي أرصدة ختام المدة السابقة والمقبوضات ذات الاعتمادية العالية؛ وفي جانب الاستخدامات تُدرج المدفوعات الضرورية؛ ويُنظر في الفجوة بين الجانبين. وجولة ثانية بإضافة مقبوضات أخرى يمكن تدبيرها والسحب على القروض الميسّرة؛ وفي جانب الاستخدامات تدرج نفقات الأولوية الثانية. وبعدها جولة ثالثة بإضافة قروض أخرى في مقابل مدفوعات أخرى… وهكذا. وتستمر العملية حتى إستقصاء مصادر التمويل للإنفاق المطلوب مع الحرص على ضمان رصيد آخر المدة بالحد الأدنى الكافي إحتياطا للمخاطر.
وطريقة أخرى أن توضع في جانب الاستخدامات جميع المدفوعات المطلوبة، وفي جانب الموارد رصيد الافتتاح والمقبوضات المؤكدة. وعلى أساس الفرق بين الطرفين، في اوضاع العجز، تحذف مدفوعات الأولوية الأخيرة؛ وتضاف الى جانب الموارد مقبوضات إضافية من إيرادات قابلة للتحقق نقدا Cash ضمن المدة المعنية ومبالغ السحب على القروض الميسرة؛ وتبدأ جولة أخرى للحذف من جانب الاستخدامات والإضافة الى الموارد… وهكذا وصولا الى التوازن والذي يعّرف بالحد الأدنى من رصيد الاحتياط لنهاية المدة.
ولا يخفى ان ترتيب الإنفاق المطلوب، او المقترح، في جدول اولويات يقتضي: وضوح المعايير، وكفاية البيانات للتعرف الدقيق على النشاط الممول، وإدارة العمليات لوحدات الإنفاق الرئيسية والفرعية. ويعتمد تطوير إعداد وتعديل وتنفيذ الموازنات النقدية على التقدم المحرز فعلا لإصلاح إدارة وتنظيم العمليات التي تزاولها دوائر الدولة؛ وبموازاة قواعد بيانات التكاليف. كما يساعد ترصين نظام إعداد الموازنة العامة كثيرا لتسهيل إعتماد الموازنات النقدية بكفاءة أعلى وفاعليتها.
ومن المفيد التذكير بأن المدة التي يستغرقها إعداد الموازنة العامة لحين تشريعها 18 شهرا في بعض الدول، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، ويتزامن عرض موازنة العام القادم على السلطة التشريعية مع بداية إعداد موازنة العام اللاحق؛ إذ يستغرق مكوثها في السلطة التشريعية حتى الإقرار ستة أشهر. كما ان هناك قواعد صارمة لإسلوب مناقشتها في السلطة التشريعية، مثلا: حسب تسلسل الفصول ومن الإجماليات الى الفروع وفروعها؛ وايضا تتضمن الموازنة إطارا للاقتصاد الكلي لخمس سنوات، يتغير مع كل موازنة جديدة. وبذلك تتكامل مهمات تطوير الموازنة العامة مع إتقان آليات الموازنات النقدية. هذا للتذكير بان الموازنات النقدية ليست بديلا عن الموازنة التي تشرع بقانون والأسس التي تقوم عليها بل هي مكمّلة وضرورية.
نموذج مختصر ومبسط للموازنتين النقديتين:
التالية موازنة النقد الأجنبي للحكومة، وتبين مقبوضات الحكومة من مختلف المصادر وكيفية التصرف بها. وينظر هنا الى مبيعات وزارة المالية للعملة الأجنبية الى البنك المركزي كأحد أشكال التصرف. وتبين موازنة النقد الأجنبي إستيرادات الحكومة ومدفوعاتها الخارجية الأخرى. وبناء على هذه الموازنة النقدية تتضح الحاجة الى الاقتراض الخارجي من عدمها، إنسجاما مع مبيعات وزارة المالية الى البنك المركزي ومدى إستنزاف إحتياطياته الدولية.
موازنة النقد الأجنبي للحكومة FX Cash Budget
مصادر النقد الأجنبي ( مليون دولار) للموازنة العامة |
إستخدامات النقد الأجنبي ( مليون دولار) |
الرصيد الإبتدائي
– في الأحتياطي الفدرالي الأمريكي – في البنك المركزي العراقي – في المصرف العراقي للتجارة والمصارف الأخرى مجموع الرصيد الابتدائي التدفقات من الصادرات – صافي تدفقات من صادرات النفط – صافي تدفقات من صادرات حكومية اخرى مجموع تدفقات موارد الصادرات السحب على القروض الخارجية – سحب من القروض الثنائية – سحب من قروض مؤسسات دولية وإقليمية أخرى مجموع الموارد المتاحة |
مدفوعات لأستيرادات حكومية
– لتنفيذ مشاريع البرنامج الأستثماري الحكومي – إستيرادات أدوية ومستلزمات طبية – إستيرادات أسلحة ومعدات عسكرية – إستيرادات حكومية أخرى تذكر مدفوعات للسلك الخارجي ومشاركات تسديد الديون الخارجية – أقساط – فوائد مبيعات عملة أجنبية للبنك المركزي
رصيد آخر المدة
مجموع الاستخدامات |
أو توضع في جانب الاستخدامات جميع المدفوعات المطلوبة، وفي جانب الموارد رصيد الافتتاح والمقبوضات المؤكدة. وعلى أساس الفرق بين الطرفين، في اوضاع العجز، تحذف مدفوعات الأولوية الأخيرة؛ وتضاف الى جانب الموارد مقبوضات إضافية من إيرادات قابلة للتحقق نقدا ضمن المدة المعنية ومبالغ السحب على القروض الميسرة؛ وتبدأ جولة أخرى للحذف في جانب الاستخدامات والإضافة في جانب الموارد… وهكذا وصولا الى التوازن والذي يعرف بالحد الدنى من رصيد الاحتياط لنهاية المدة.
الموازنة النقدية للحكومة: الموارد والاستخدامات بالنقد الوطنيID Cash Budget
المصادر ( مليار دينار) |
الأستخدامات ( مليار دينار) |
رصيد الأفتتاح
– في البنك المركزي – في مصرف الرافدين – في مصرف الرشيد – في المصارف الأخرى مجموع الرصيد الابتدائي اقيام مبيعات العملة الأجنبية الى البنك المركزي تدفقات من الإيرادات لمحلية بالعملة الوطنية اقتراض داخلي – سندات حكومية – حوالات خزانة – قروض بوسائل أخرى مصادر أخرى مجموع الموارد |
مدفوعات للرواتب والأجور والمخصصات وما في حكمها
– رواتب – أجور – مخصصات – أخرى مدفوعات لمقاولات المشاريع بالدينار مدفوعات لعقود التجهيزات ومشتريات محلية بالدينار تسديد اقساط وفوائد الديون بالدينار – اقساط للبنك المركزي والمصارف الحكومية – اقساط لجهات أخرى – فوائد للبنك المركزي والمصارف الحكومية – فوائد لجهات أخرى مدفوعات أخرى رصيد نهاية المدة مجموع الاستخدامات |
حول سقف الإنفاق الحكومي ودوره في الاقتصاد الوطني:
الشائع عموما، أن حجم الإنفاق الحكومي يتعين بالأيرادات النفطية وأقصى عجز قابل للتمويل بالاقتراض. وهو عين الفهم الغالب في الحكومة ومجلس النواب ولدى الأوساط الأخرى.
ورغم أهمية القيد المالي لسقف الإنفاق الحكومي، لكن المنظور الاقتصادي يستحضر حقائق أساسية في آليات عمل النظام، ويساعد على إضاءة فضاء الإمكانية. ولإيضاح المضمون الاقتصادي نلاحظ الإنفاق الحكومي وتمويله وآثارهما ضمن آليات عمل النظام الاقتصادي:
أولا: الإنفاق الحكومي هو الجزء الأكثر فاعلية من مجموع الطلب في الاقتصاد الوطني، إذ يختلف عن طلب قطاع الأعمال الخاص المرتبط بصافي الأرباح وصافي الاقتراض من الجهاز المصرفي؛ ويختلف عن طلب القطاع الأسري المُعتمد على الدخل الممكن التصرف به للأسر، والى حد ما صافي الاقتراض من المصارف وما اليها، أو تسييل الثروات. وعلى المستوى التجميعي يبقى طلب القطاع الخاص بمجموعه مقيدا بالدخل الممكن التصرف به للأسر وقطاع الأعمال. أما الإنفاق الحكومي فيتصف بقدر من الاستقلال الذاتي.
ومنذ ظهور التنظير الكينزي وتحليل المستخدم المنتج Input- Output شاع الاهتمام بدور الإنفاق الحكومي في تحديد الطلب الكلي، وبالتالي الدخل على المستوى الوطني. فالزيادة الابتدائية من الإنفاق الحكومي تنخرط في سلسلة دورات من تعاقب الإنفاق – الدخل: الإنفاق يتحول الى دخل، والأخير يُدّخر جزء منه والباقي ينفق ليصبح دخلا بدوره…، هي عملية تكاثر. وتسمى نسبة الزيادة في الطلب الكلي الى الزيادة في الإنفاق الحكومي المُكاثِر أو المضاعف Multiplier.
وفي ضوء مقاربة المستخدم المنتج يترتب على الزيادة الابتدائية في الطلب الحكومي النهائي زيادة في الطلب على سلع وخدمات تنتجها مختلف الأنشطة الإنتاجية، وهذه بدورها تستدعي زيادات أخرى من مستلزمات سلعية وخدمية لإنتاج السلع والخدمات النهائية؛ ويتطلب إنتاج المستلزمات مدخلات من مختلف الأنشطة… ويستمر التفاعل لينتهي الى استقرار الحجوم الإنتاجية للقطاعات. ورياضيا يمكن معرفة ماذا يصيب مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني نتيجة الزيادة الابتدائية في الطلب النهائي والحكومي بالذات عند توفر بيانات كافية لتركيب جداول المستخدم-المنتج.
من هنا ندرك ان حجم الإنفاق الحكومي لا تنبع ضرورته من تمويل أنشطة الخدمات العامة لإدامتها وحسب، في الاقتصاد المعاصر. بل ان ذلك المقدار من الإنفاق، وبغض النظر عن الكفاءة والوظيفة، ضروري بذاته للحفاظ على مستوى الناتج المحلي او الدخل القومي، ومنه التشغيل وتوليد الدخل في القطاع الخاص ورفاه الأسر المعتمدة عليه. والرواتب وبقية تعويضات المشتغلين في القطاع العام، الحكومة والهيئات الرسمية المستقلة ماليا والشركات العامة، ليست ضرورية فقط لمعيشة الأسر التي تعتمد عليها إنما هي محرك لكل الاقتصاد. ولذا، فإن عدم القدرة على تمويل الإنفاق الحكومي بالمستوى الاعتيادي يُلحق ضررا كبيرا بالاقتصاد الوطني يتعدّى حدود القطاع العام والعاملين فيه والأسر التي تستلم إعانات او تحويلات مباشرة من الحكومة.
كما ان تجاوز الإنفاق الحكومي لشروط التوازن، ستتضح لاحقا، ينقض الاستقرار، بنفس الآلية الموصوفة آنفا، ويبعث موجات تضخمية و/أو عجوزات في ميزان المدفوعات الخارجية، ولا ينفع في نمو الاقتصاد الوطني والعدالة الاجتماعية.
ثانيا: في الاقتصاد الاعتيادي، الذي لا يعتمد اساسا على صادرات السلع الأولية Goods Primary، ترتبط الإيرادات الحكومية وثيقا بالناتج المحلي، الدخل الوطني، والذي يمثل تشغيل الطاقة الإنتاجية. وعجز الموازنة العامة لا يكون إلاّ بخفض أو انخفاض الضرائب أو زيادة الإنفاق فوق ما تسمح به الإيرادات الحكومية، ويمثل في الحالتين، إبتداءا، زيادة صافية في الطلب. وفي حالة تمويل الحكومة ذلك العجز بسندات او حوالات يشتريها البنك المركزي، مباشرة من الإصدار الأولي او من السوق الثانوية، تسمى هذه الطريقة في التمويل تنقيد الدين Debt Monetization؛ اي تمويل العجز عبر زيادة الأساس النقدي والذي يعرّف بمجموع صافي الموجودات الأجنبية وصافي الإئتمان المحلي للبنك المركزي، ونتيجة لتنفيذ الدين قد إزداد المكون الأخير بمبالغ السندات او الحوالات التي أصبحت بحيازة البنك المركزي إضافة على ما كان لديه. إن زيادة الأساس النقدي في جانب الموجودات من الميزانية العمومية للبنك المركزي تقابلها حتما في جانب المطلوبات زيادة، في إحتياطيات المصارف المودعة لديه او العملة المصدرة منه.
ويصبح العجز في هذه الحالة زيادة صافية نهائية في الطلب تترتب عليها زيادات أخرى. وعندما يتجاوز الطلب الكلي النهائي حدود الطاقة الإنتاجية على المستوى الوطني يرتفع المستوى العام للأسعار بنسبة أعلى من التضخم الاعتيادي، وايضا إحتمال زيادة المستوردات بمقدار كبير نسبيا يقترن بعجز في ميزان المدفوعات. ولذلك يشتد التحذير في دول الاقتصاد الاعتيادي من تنقيد الدين الحكومي دون التأكد من وجود طاقة إنتاجية فائضة والاطمئنان الى وضع ميزان المدفوعات الخارجية.
ولذا فإن القاعدة العامة في دول الاقتصاد الاعتيادي تمويل العجز بقروض “حقيقية” أي من القطاع الخاص، وبهذا المعنى، يُقتطع مقدار العجز من إدخار القطاع الخاص. ومع ذلك، ايضا، قد يؤدي تمويل عجز الموازنة العامة بالاقتراض الى زيادة الطلب الكلي، زيادة صافية، في حالة عدم استعداد القطاع الخاص للاستثمار بما يكفي لاستيعاب الادخار عند عدم الاقتراض الحكومي. ولذا ساعد اقتراض الحكومة من القطاع الخاص على زيادة مجموع الإنفاق المحلي في تلك الحالة. وعلى فرض ان الحكومة لم تقترض من القطاع الخاص والاستثمار لا يستوعب كل الادخار فالنتيجة هي الفائض في ميزان المدفوعات الخارجية.
بيد ان الاطلاع على الميزانيات العمومية للبنوك المركزية في دول متقدمة، مثل الولايات المتحدة وكندا واليابان، يؤكد مزاولة تلك الدول لتنقيد الدين الحكومي. ويتضح ان ديون البنوك المركزية على حكومات تلك الدول لا يستهان بها، مُبيّنة في محلها. ولم تتسبب تلك السياسة بتضخم مرتفع وذلك لأن الطاقة الإنتاجية، هناك، تسمح باستيعاب الطلب الإضافي أو لتعويض نقص الطلب من القطاع الخاص أصلا، كما تقدم، أو كليهما.
وهنا من المفيد التذكير بالمتطابقة ذات العلاقة على المستوى الاقتصادي الكلي وهي:
فائض القطاع الخاص+ فائض القطاع الحكومي= فائض ميزان المدفوعات الخارجية الجارية
والعجز هو فائض سالب؛ وبذلك يكون فائض الميزان الخارجي صفرا، اي في حالة توازن، فقط عندما يكون فائض القطاع الخاص مساويا بالضبط لعجز القطاع الحكومي أو بالعكس، او كلاهما في حالة توازن. والمقصود حسابيا بفائض القطاع الخاص زيادة ادخاره على استثماره، ونفس التعريف لفائض القطاع الحكومي، وعجزه بإشارة معاكسة. أما فائض ميزان المدفوعات الخارجية الجارية فهو زيادة الصادرات على الاستيرادات من السلع والخدمات، مضافا إليها صافي تحويلات الدخل من وإلى الخارج؛ ونفس التعريف لعجز الميزان الخارجي بعكس الإشارة. تلك المتطابقة صحيحة دائما وابدا ومتحققة في أي إقتصاد بغض النظر عن خصائصه وسياساته.
ولذلك من المستغرب إنشغال ذوي الاهتمام والمسؤولية بعجز او فائض الموازنة العامة دون الاكتراث بالتوازن الخارجي وهو ما تعتني به كل الحكومات أولا. ولا أهمية لعجز الموازنة العامة أو فائضها إلاّ بالتوازن الخارجي إضافة على التضخم، زيادة الطلب الكلي فوق حد الطاقة الإنتاجية، والبطالة، قصور الطلب الكلي عن تشغيلها بالكامل.
ثالثا: إن إيرادات الموازنة العامة في العراق هي صافي قيمة صادرات النفط، وليست مقتطعة من دخل القطاع الخاص، ولذا فإن زيادتها او انخفاضها مستقلة عن دخل القطاع الخاص. أي ان عجز الموازنة العامة في العراق لا يأتي نتيجة لزيادة الإنفاق أو خفض الضرائب. وليس له المضمون المتعارف عليه في النموذج النظري للاقتصاد النمطي. وتعتمد آثار تمويل عجز الموازنة العامة في العراق على حجم الإنفاق الحكومي منسوبا الى المستوى المسموح به عند الاستخدام الكامل، ووفرة العملة الأجنبية لتمويل المستوردات*.
ان إيرادات النفط هي مقبوضات العراق بالعملة الأجنبية والأخيرة بطبيعتها تستخدم في الخارج لتمويل إستيرادات ومدفوعات اخرى للوفاء بالتزامات تجاه الأجانب، وليست لها وظيفية داخلية. والرواتب ومبالغ المشتريات المحلية تدفع من قيمة مبيعات تلك العملة الأجنبية الى البنك المركزي، وهنا الفارق الجوهري في فهم الموضوع. لأن بيع العملة الأجنبية الى البنك المركزي يعني إعادة تحويلها لأداء وظيفتها الطبيعية في الخارج والتي تتمثل في:
– تمويل إستيرادات القطاع الخاص من السلع والخدمات، والأخيرة ليست فقط مبالغ الشحن والتأمين على المستوردات، واجور خدمات القنوات المصرفية الأجنبية لتسهيل التجارة الخارجية، وخدمات استشارية او ما يماثلها، بل السياحة والعلاج، والدراسة، في الخارج وغيرها.
– تحويلات دخل لأسر عراقية مقيمة في الخارج؛ وتحويلات دخل لأفراد اجانب وشركات اجنبية عاملة في العراق.
– إستثمارات للقطاع الخاص في الخارج: في العقار والأسهم وودائع مصرفية وسواها.
– عملة أجنبية تحتفظ بها الأسر العراقية في الداخل وهي بحكم الاستثمار في الخارج لأنها مطلوبات على جهات أجنبية وهو تعريف الاستثمار الأجنبي.
– وعندما تفيض العملة الأجنبية المحولة من وزارة المالية الى البنك المركزي عن إحتياجات القطاع الخاص آنفا يضاف الفائض الى الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي، وهي إستثمارات رسمية عراقية في الخارج: سندات وحوالات دول اجنبية وودائع في مصارف أجنبية وعملة أجنبية في خزائن البنك المركزي؛ والذهب النقدي. اما عند قصور تحويلات وزارة المالية عن طلب القطاع الخاص للعملة الأجنبية تستنزف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي بمقدار الفرق.
مما تقدم تتضح الأهمية المحورية للميزان النقدي الحكومي بالعملة الأجنبية. فعندما تنخفض إيرادات الصادرات تنخفض أيضا مبيعات وزارة المالية من النقد الأجنبي، وتتجه للاقتراض الداخلي، وفي نفس الوقت تتقلص الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي لسد الفرق بين طلب القطاع الخاص وما تحوله الوزارة الى البنك. إن المدى الزمني الممكن لاستمرار تمويل العجز بقروض داخلية يعتمد على معدلات استنزاف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي.
اما التضخم فليس له إعتبار في تحديد حجم الإنفاق أيام العجز لأنه أصلا دون المستوى الذي تسمح به الطاقات الإنتاجية وعرض القوى العاملة. التضخم يستأنف أهميته الحاسمة في تحديد حجم الإنفاق الحكومي، معياريا، وقت الارتفاع الاستثنائي في موارد النفط كما حصل بعد عام 1974 وبعد عام 2004. وفي الواقع ليس من تقاليد عمل وزارة المالية الاكتراث بالإطار الاقتصادي الكلي للإنفاق العام، وتأتي حركة المستوى العام للأسعار التي يعبر عنها التضخم ضمن هذا الإطار، بل قيمة إيرادات النفط بالعملة الوطنية هو كل ما يعنيها عمليا. ولم تنجح وزارة التخطيط في ربط الموازنة العامة بإطار إقتصادي كلي، رغم ان هذه المهمة هي التي وجدت الوزارة من أجلها مع البرنامج الاستثماري الحكومي.
رابعا: من جهة أخرى ان ربط الإنفاق الحكومي بإيرادات النفط، ربطا ميكانيكيا، يتضمن انفصام الموازنة العامة عن مجريات الاقتصاد الوطني، لأن تلك الإيرادات لا تنبثق عنه، مثل الدول الاعتيادية الأخرى، بل تحكمها عوامل سوق النفط وهو سلعة اولية مثل غيرها من هذا الصنف Primary Goods التي من خصائصها التذبذب والتقلب العنيف في أسعارها. ولذلك لا بد من ربط الإنفاق الحكومي بمنظِّمات أخرى، كما تبين. ولا يتسع المجال في هذه المذكرة المختصرة لإضاءة هذا الجانب تفصيلا بما يستحقه*.
وأرجو ان ابين باختصار واستكمالا لما جاء آنفا أن الإنفاق الحكومي المناسب إقتصاديا في العراق يحكمه عاملان:
الأول، يتمثل في القدرة على تلبية الطلب على العملة الأجنبية المشتق من الطلب الكلي، وللإنفاق الحكومي الدور الحاسم في تحديده، لأن التناسب بين كل الطلب وذلك الجزء الحيوي منه، الإنفاق الحكومي، لا يمكن إغفاله. وعند إنحسار موارد النفط تُستنزف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي تدريجيا للسبب المبين. ودائما وابدا تتحرك الاحتياطيات الدولية عكس ميزان المدفوعات تنخفض أيام العجز وترتفع أيام الفائض، ولهذا وجدت لامتصاص الصدمات، الزيادة المفاجئة في موارد العملة الأجنبية أو إنخفاضها الحاد. وهنا لا بد من العناية المنهجية بالمدى الذي تسمح به الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي لإدامة هذا المستوى من الإنفاق الحكومي او ذاك. والنظر في هذا القيد مليا يكشف عن المسار الضروري للتنمية الاقتصادية في الأمد البعيد، لأن نمو كلّ من الاستيرادات والمدفوعات الخارجية الأخرى وألإنفاق الحكومي أسرع عادة من نمو الناتج المحلي الإجمالي. بيد ان هذه المسألة تخرج عن حدود هذه المذكرة ومتعلقها إدارة الإنفاق الحكومي بالموازنات النقدية Cash Budget.
أما الثاني، فهو الطاقة الإنتاجية للاقتصاد الوطني في نطاق السلع والخدمات غير المتاجر بها اي المحلية بطبيعتها. وكلما إزداد الطلب الكلي المحفز بالإنفاق الحكومي واقترب الاقتصاد أكثر فاكثر من حدود تلك الطاقة الإنتاجية يرتفع التضخم الفعلي، فالتضخم هو المقياس لمدى إقتراب الاقتصاد الوطني من حدود طاقته الإنتاجية. ومع ارتفاع التضخم الفعلي يرتفع كذلك التضخم المتوقع والذي يؤثر كثيرا في القرار الاقتصادي للمتعاملين في الأسواق بما فيها سوق الصرف. ونؤكد مرة أخرى ان التضخم لا يمثل قيدا على الإنفاق خلال الزمة الأخيرة، انهيار سعر النفط في آذار، مارس، 2020.
وما دام الإنفاق الحكومي ضمن نطاق الإمكانية المحددة بالعاملين المذكورين، فلابد للإدارة الاقتصادية من تمويله وهو ممكن. اما عندما يتجاوز حجم الإنفاق المقترح نطاق الإمكانية، بالتعريف آنفا، فمن الخطأ الترويج لتمويل المقدار الزائد عن الحد لأن في ذلك ضرر للاقتصاد، وربما يقود الى إرباك تترتب عليه مشكلات سياسية وإجتماعية.
ان إدارة الموازنة في الأمد القصير تبقى ضمن هذه المقاربة. ومن الأفضل التمييز المنهجي بين هذه المهمة والتنمية الأقتصادية ومسار الاقتصاد العراقي في الأمد المتوسط والبعيد فتلك قضية أخرى يحكمها منطق مختلف وأدوات مغايرة.
رابط المصدر: