الموازنة بين الضرورة الحربية والحق في الحياة

الأقوال المتقدمة تكذبها الوقائع على الأرض فلا القانون الدولي الإنساني ولا الأعراف الدولية ولا القيم الأخلاقية أو الإنسانية تؤيد القتل المحموم الذي تقوم به آلة الدمار الصهيونية في فلسطين ولبنان منذ أشهر، دون ان تجد أي رادع من منظمات دولية كمجلس الأمن الدولي أو الدول المتشدقة بحقوق الإنسان

تعني الضرورة العسكرية بمعناها الشامل القيام بما هو ضروري من إعمال لتحقيق أهداف الحرب، وهي تبرر اللجوء إلى العنف في حدود مبدأ التناسب العام بين الواجب القتالي والنتائج التي تترتب عليه، كما تعرف بأنها الحالة الملحة لدرجة إنها لا تترك وقتا كفيا للأطراف المتحاربة لاختيار الوسائل التقليدية المستخدمة بشكل يومي في أعمالها القتالية.

أو هي الأحوال التي تعرض أثناء سير العمليات الحربية، وتحتم ارتكاب أحد أفراد القوات المسلحة أفعالاً مخالفة لقوانين وأعراف الحرب وأشار دليل القوات المسلحة البريطانية لعام ٢٠٠٤ إلى ما نصه ((تخول الضرورة العسكرية الطرف المحارب استخدام طرق ووسائل قتال شريطة عدم حظرها من قبل قانون النزاعات المسلحة لتحقيق أغراض مشروعة من النزاع فضلاً، عن التأكيد على إنجاز المهمة القتالية سواء جزئيا أو كليا في وقت مبكر قدر الإمكان وبأقل خسائر في الأرواح والممتلكات)) ما يشير إلى عدم الانفصال بين حالة الضرورة والاعتبارات الإنسانية.

فالضرورة الحربية تعني وجود حالة عاجلة أو حرجة أثناء سير العمليات الحربية توجب القيام بأعمال عسكرية عنيفة باستعمال وسائل قتال غير عادية تتجاوز المتعارف والمسموح به في الحرب، شريطة ان تقدر بقدرها ولا تتجاوز المهام المتعارف عليها في الميدان وان يتم تجنب الغدر ولأي سبب كان، ويشترط للقول بوجود الضرورة الحربية:

1- ان تكون هناك حالة حرجة ومستعجلة: تتمثل في ظروف استثنائية من خطر داهم يهدد كيان الدولة واستقرارها، أو ينذر بخسارة جيشها المعركة أو خضوعه لقوات العدو.

2- يشترط في الخطر ان يكون حقيقياً وحالاً ومؤكداً وجسيماً.

3- اختصاص القيادة العليا للقوات العسكرية بإصدار قرار اللجوء إلى الضرورة الحربية والأمر بإجراءاتها القتالية، وغالبا ما يتخذ القرار بالتشاور مع القادة السياسيين.

فللأهمية المضاعفة لحالة الضرورة وتعاظم خطورتها على مصير الدولة فلا ينفرد الجانب العسكري فقط باتخاذ القرار بالركون إلى إجراءات غير تقليدية، إذ لا يمكن للمسؤول العسكري التذرع بوجود الضرورة ومباشرة الأعمال العدائية بحق الجانب الأخر ما لم يكن لديه تخويل من القيادة العامة للقوات المسلحة أو من يقوم مقامها للقيام بذلك.

ويشار إلى ان حالة الضرورة الحربية استندت إليها الكثير من الدول ومنها الدولة الصهيونية لإسباغ المشروعية على أفعالها الإجرامية وليس المنهج المتقدم بجديد على هذه الدولة وقواتها المسلحة التي دأبت على ارتكاب الفظائع ولا تزال تبرر جرائمها بحق البشر والحجر بهذا الادعاء كما اعتادت الدول الكبرى ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول الغرب الداعمة لتلك الجرائم لتبرير ذلك بالقول ان إسرائيل تدافع عن نفسها.

بيد ان الأقوال المتقدمة تكذبها الوقائع على الأرض فلا القانون الدولي الإنساني ولا الأعراف الدولية ولا القيم الأخلاقية أو الإنسانية تؤيد القتل المحموم الذي تقوم به آلة الدمار الصهيونية في فلسطين ولبنان منذ أشهر خلت، دون ان تجد أي رادع من منظمات دولية كمجلس الأمن الدولي أو الدول المتشدقة بحقوق الإنسان والتي تصم المسامع بادعاءاتها الفارغة حين يتعلق الأمر بالدول التي لا تسير في ركبها أو تعارض سياساتها ومنهجها.

فبعد عقد اتفاقية جنيف لتحسين حال الجرحى في الميدان ١٨٦٤ والتي تعد اللبنة الأولى والأساس الذي انطلق منه القانون الدولي الإنساني، ومن بعدها اتفاقيات لاهاي التي اختصت بتنظيم طرق ووسائل القتال وبيان ما يجوز منها وما لا يجوز، وصولاً إلى إعلان سانت العام ١٨٦٨بدأ العالم يتلمس نتائج القواعد القانونية الإنسانية المنظمة للأوضاع في حالة الحرب وتتفاخر الدول بالتزامها بقيم وتعاليم هذا القانون المستمدة من الإرث الإنساني والديني والأخلاقي.

بيد ان الدولة الصهيونية ومنذ ان أبصرت النور في أربعينيات القرن الماضي وهي تسير في حروبها المتتالية بعيداً عن تلك الشرعة الدولية بلا حسيب أو رقيب، ويشار إلى ان الوثائق الدولية المتقدمة تعد الأساس الأول والمبكر للضرورة الحربية إذ حرص واضعو إعلان سانت على التأكيد في غير موطن على أهمية الموازنة بين الضرورة والمبادئ الإنسانية، ومازال الإعلان يحظى بقيمة قانونية وأخلاقية كبيرة جداً، لأهمية الموضوعات التي عالجها ودلالاتها القانونية العميقة، وأوضح الإعلان حدود الضرورة التي تقف عندها العمليات القتالية والمتمثلة بتحقيق غرض الحرب دون التمادي والاستمرار بالعمليات القتالية، حيث ورد النص على أنه “يجب ان يكون الغرض الشرعي الوحيد الذي تستهدفه الدول أثناء الحرب هو إضعاف قوات العدو العسكرية فحسب” وهذا يعني ان الضرورة العسكرية ليست صكاً على بياض بل لها حدود تتوقف عندها، تتمثل في إضعاف قدرة العدو وشلها لا بإنهائها وتدميرها كلياً إذ يشكل ذلك اعتداء على حرمة الذات الإنسانية وإمعان في الانتقام لا مسوغ له.

وتؤكد ديباجة اتفاقية لاهاي المتعلقة بالحرب البرية التي صدرت عن مؤتمر لاهاي الثاني للسلام العام ۱۹۰۷ بان القانون الدولي الإنساني غايته تخفيف أهوال الحرب على الفئات الأشد ضعفا والتي لا علاقة لها بالعمليات الحربية أي المدنيين بالنص على أنه “وترى الأطراف السامية المتعاقدة ان هذه الأحكام التي استمدت صياغتها من الرغبة في التخفيف من آلام الحرب كلما سمحت بذلك المقتضيات العسكرية وهي بمثابة قاعدة عامة للسلوك يهتدي بها المتحاربون في علاقاتهم مع بعضهم البعض ومع السكان”، والنص المتقدم يشير إلى ان الضرورة العسكرية ليس من شأنها ان تبيح استهداف المدنيين بدعوى اغتيال أحد قادة المقاومة أو قوات الخصم، كما ان اتفاقيات جنيف للعام ١٩٤٩ والبروتوكولين الملحقين بها ۱۹۷۷ كانت قد ميزت في مجال الضرورة بين الأشخاص المحمية وبين الأموال والممتلكات، حيث حظرت تحت أي ظرف أو مبرر استهداف المدنيين وسائر الأشخاص المحميين، بينما أجازت وقوعها الاعتداء على الأموال والممتلكات في حالة الضرورة الحربية، وقد أوردت المواد (٥٠، ٥١، ٣٠، ١٤٧) من الاتفاقيات الأربعة بالترتيب بيانا بالأفعال التي تمثل انتهاكات جسيمة منها ((القتل العمد والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية أو تعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو إجراء التجارب الصحية والنفي والترحيل غير المشروع وأخذ الرهائن)).

وكل ما تقدم تفننت في ارتكابه العصابات الصهيونية إذ وخلال عام واحد تجاوز عدد ضحايا العدوان الـ50 ألف قتيل ومثلهم أربعة أضعاف من الجرحى والمصابين، ويشار إلى ان اتفاقيات جنيف والبرتوكولين الملحقين بها ورغم تسليمها بإمكانية العدوان على الأعيان والممتلكات في حالة الضرورة الحربية إلا أنها أحاطتها ما تقدم بجملة من القيود العامة والخاصة ومنها:

1- التحقق من طبيعة الهدف ومشروعية الهجوم.

2- وتوافق الهجوم مع الأحكام العرفية والتعاقدية المشتقة من مبادئ التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية وضرورة اتخاذ الحيطة والتناسب في اختيار وسائل وأساليب القتال.

3- وتجنب الإصابات المفرطة والآلام التي لا مبرر لها.

4- حظر الغدر وعدم إبقاء أحد حياً.

5- تجنب كل ما من شأنه تجويع السكان أو تهجيرهم بإتباع سياسة الأرض المحروقة.

6- حظر مهاجمة الأعيان المدنية كـ((السدود والجسور والمحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية))، وحظر ان تكون محلاً لهجوم يتسبب في انطلاق قوى خطرة، أو مهاجمة أهداف عسكرية واقعة عندها أو بالقرب منها تنطوي على المخاطر ذاتها.

بيد انه وللأسف دلت الممارسات اليومية للاحتلال الصهيوني تجاوز القيود المتقدمة، واتخاذها من ذريعة مهاجمة الخصوم مبرراً لانتهاكات جسيمة لأحكام وقواعد القانون العرفية والتعاهدية، ومن أمثلة ذلك قيام الطائرات بضرب المستشفيات وتدمير الطرق بالجرافات العسكرية وتعمد إتلاف خزانات المياه ومحاصرة الأهالي وتجويعهم وترويعهم بالقصف المفاجئ لمساكنهم المؤقتة.

وما تقدم استكمال لمنهج هذه القوات العنصرية بتدمير القرى والبلدات الفلسطينية واللبنانية بتخريب الأراضي الزراعية وإتلاف الآبار وهدم المنازل وجعل الحياة مستحيلة فيها، ولا يفوتنا ان نذكر ان هذه القوات دأبت على استخدام أسلحة محرمة دوليا تحتوي على الفسفور الأبيض والقنابل العنقودية وكان أخر هذه الجرائم قصف مساكن في الضاحية الجنوبية لبيروت بعشرات الأطنان من المتفجرات ما شكل جريمة إرهابية تتضمن جانب العدوان غير المبرر على المدنيين والمباني الأهلة بالسكان.

والعجب ان المحكمة الجنائية الدولية تسارع إلى إصدار مذكرات توقيف بحق القادة والزعماء بغضون أيام معدودة حين يرغب الغرب المارق بذلك كما حصل في حالة اعتداء روسيا على أوكرانيا أو المذكرات التي صدرت بحق زعماء عرب في السودان وليبيا لكنها تعجز ولسنة تقريباً من إصدار مذكرة تحري بحق كبار مجرمي الحرب الصهاينة، استناداً لما ورد في نظام روما الأساس لسنة 1998 المادة السابعة والثامنة والخامسة والعشرون من الاتفاقية والمؤيدة بما ورد في الاتفاقيات الأربعة ١٩٤٩ والبروتكولين الملحقين بها المتضمنة قواعد المسؤولية الجنائية الفردية في المواد (٤٩، ٥٠، ١٢٩، ١٤٦)، بالترتيب إذ ان القواعد القانونية المتقدمة فرضت على الدولة ذاتها اتخاذ تدابير تشريعية تكفل فرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف أي من الانتهاكات الجسيمة، وأهمية ملاحقة الأشخاص المتهمين باقتراف هذه الانتهاكات الجسيمة أو بالأمر باقترافها وتقديمهم أيا كانت جنسياتهم إلى محاكمها.

ويشار إلى ان المادة السادسة والثمانون من البروتوكول الأول الإضافي ۱۹۷۷تضمن حكماً مهماً بالنسبة لمسؤولية الرؤساء عن أفعال مرؤوسيهم، وهو الإحجام عن عمل واجب القيام به أي بعبارة أخرى المسؤولية عن التصرفات أو الأعمال السلبية المتضمنة معنى الامتناع إذ ورد في الفقرة الثانية من المادة المتقدمة “لا يعفي قيام أي مرؤوس بانتهاك الاتفاقيات أو هذا البروتوكول رؤساءه من المسؤولية الجنائية أو التأديبية حسب الأحوال إذا علموا أو كانت لديهم معلومات تتيح لهم في تلك الظروف ان يخلصوا إلى انه كان يرتكب أو انه في سبيله لارتكاب مثل هذا الانتهاك، ولم يتخذوا كل ما في وسعهم من إجراءات مستطاعة لمنع أو قمع هذا الانتهاك”.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M