ترجمة: ابراهيم قنبر
هل سيكون المناخ الاجتماعي العالمي تمامًا كارتفاع درجة حرارة الكوكب؟ يبدو منذ نهاية الصيف أنّ احتمال حدوث انتفاضةٍ شعبيةٍ عارمةٍ مصحوبةٍ بعاصفةٍ استوائيةٍ سيكون واقعيًّا لا محالة.
اندلعت الثورات في بلدانٍ كالعراق والإكوادور وتشيلي ولبنان، فانضمّت بذلك هذه الدول إلى حشود المحتجّين التي لم يفْتُر لهيبها في هاييتي وهونج كونج والجزائر والسودان.
اكتسبت هذه الحركات زخمًا كبيرًا بعد أن تجاوز ثمن الحياة البسيطة للسكان الحدّ المسموح له، فقد لعبت القرارات الحكومية في تلك الدول الدور المفجّر نفسه الذي لعبته قرارات رفع الضريبة البيئية على البنزين والديزل في فرنسا قبل عام.
في لبنان لم يستغرق الأمر أكثر من أسبوع حتى انتزع اللبنانيون استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، وأخذ ذلك وقتًا أكثر بعض الشيء بالنسبة للمتظاهرين التشيليين الذين انضمّت إليهم النقابات بهدف الحصول على مكاسب كرفع مستوى الدخل الاجتماعي وتعديلٍ وزاري.
تعتبر حركة “السترات الصفراء” في فرنسا جزءًا من مسار العاصفة الغبارية الدولية، غير أن الحركة الفرنسية كانت أقل زخمًا من حركات “الربيع العربي”، ومع الدعم _المتأخر_ من النقابات حقّقت نتائج متواضعة رغم بعض التنازلات.
بقي الرئيس الفرنسي ماكرون في منصبه ولم تتمكن “السترات الصفراء” من إزاحته، ولو قُدّر لذلك أن يحصل في قلب القوّة الدولية السادسة لكان سيجعله حدثًا فريدًا من نوعه.
بالتأكيد فقد هزّت حركاتٌ شعبيةٌ هامّةٌ العالم الغربي في العقد الماضي، من حركة “الغاضبون” الإسبانية إلى “احتلّوا وول ستريت” في الولايات المتحدة، ولكن هذه الحركات كانت من الخرّيجين الحضر الشباب من الطبقة المتوسطة، في حين أن “السترات الصفراء” استمدّت قوّتها وفعاليّتها بشكلٍ أساسي من الطبقات الشعبيّة التي كانت ترى عيانًا النقابات العمالية وهي تعاني موتًا سريريًّا (ثلثهم يمتنع عادةً عن التصويت في الانتخابات).
كانت عودة هذه الطبقة إلى المشهد الاجتماعي في بادئ الأمر الأصل الرئيس لحركة “السترات الصفراء”، فهم الضغط الذي ولّد الانفجار على الرغم من افتقارهم إلى قيادةٍ تحكمهم وعلى الرغم كذلك من استهدافهم للأحياء التي تقع فيها مؤسسات الدولة.
علاوةً على ذلك يرجع الفضل في فعاليته أنه حافظ على درجةٍ عاليةٍ من التعاطف من الرأي العام، ذلك رغم صور التخريب والحرائق، ولكن بعد أربعة أشهرٍ من انطلاق الحراك انخفضت نسبة المؤيدين لهم حسب استطلاعات الرأي إلى أقل من 50%.
هذه الضربة التحذيرية عزّزت القوة الرادعة للنقابات التي يخشى مسؤولوها أن ينضمّ الفرنسيون ذوو اللون الأصفر إلى أفراد نقاباتهم.
على الرغم من تباطؤ الحركة، نتيجةً لطول عمرها وعدم وجود دعم كبير لها من الطبقات الوسطى، لم تتمكن الحكومة من إيجاد التأكيدات أنها لن تأخذ زخمًا آخر كتلك التي حصلت عليها عقب فشل إضراب السكك الحديدية في ربيع 2018.
حصلت “السترات الصفراء” على بعض النتائج التي أخذت شكل إصلاحاتٍ معلّقة تمّ تخفيفها فيما بعد، علّق على نتائجها وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي ملمّحًا إلى تعليق خطة إلغاء 120 ألف وظيفةٍ في الخدمة العامة “لا يمكننا التظاهر أنه لم تكن هناك حركة اجتماعية ضخمة، لذا فقدرتنا على أن نفرض وبشكلٍ مباشر على الفرنسيين توجهاتٍ لا يرغبون بها سيكون خطأ كبيرًا”.
هذه الضربة التحذيرية عزّزت أيضًا قوّة الردع لدى النقابات التي يخشى مسؤولوها بجنونٍ أن ينضمّ إليهم هذا الممثل السياسي الجديد الذي لا يمكنه التنبؤ بمواقفه وهو الفرنسي ذو اللون الأصفر.
أثرت الإضرابات كثيرًا في سياق السياسة الداخلية للإليزيه، من الإضرابات الكبيرة في السكك الحديدية والتعبئة المستمرّة في قطاع المستشفيات إلى الإعلان عن الإضراب بين الفنيين في نهاية العام، كلّ ذلك دفع الإليزيه إلى تسريب خبرٍ في الصحافة مفاده أنّ نظام المعاشات التقاعدية لن يتم تطبيقه إلا على الداخلين الجدد إلى سوق العمل.
ومع ذلك فلا يمكن تخفيض مساهمات هذه الحركة في اتخاذ تدابير مستقبلية لهم ببناء جدار حماية، حيث تمّ تمويل هذه التدابير عن طريق صناديق الضمان الاجتماعي.
كما وضعت “السترات الصفراء” البلاد في وضعٍ سياسيّ جديد، ففي أثناء سيرهم في الشوارع قام مئات الآلاف من الفرنسيين _المعزولين سابقًا_ ببناء التضامن فيما بينهم، واكتسبوا تجربةً عميقةً بخروجهم من الوضع الذي كان يسهل التحكّم بهم فيه.
في عام 2017، تمكّنت هذه الآلية من تجاوز كل التوقعات عندما لمّح الحزب الحاكم للتعطش الشعبي بأن “يتنحّى”، وذلك عندما اضطر إلى تجديد 75% من صفوف الجمعية الوطنية مع الحفاظ على الخط السياسي للحزبين الحكوميين.
التحوّل الأوروبي:
كان تنصيب ماكرون في الإليزيه يستحق تهنئة الصحافة الأجنبية على ما قالوا عنه “هزيمة التطرف”، الأمر الذي سمح لماكرون أنْ يأمل أنّ “الموجة الشعبية” التي اكتسحت المملكة المتحدة والولايات المتحدة في العام السابق قد بلغت ذروتها، ولكن ما حدث منذ ذلك الحين أن صور الاضطرابات المتدهورة لقوس النصر بدأت تجوب أنحاء العالم.
فوجئ المتحدث الرسمي باسم الحكومة الفرنسية بنيامين غريفوحين وجد اسم بلاده مذكورًا في قائمةٍ تضمّ فنزويلا وهاييتي بسبب الإصابات التي لحقت بالمتظاهرين (لوفيغارو، 6 آذار/مارس 2019).
في واحدةٍ من أكثر الاقتصادات ازدهارًا على هذا الكوكب أدّت حركةٌ اجتماعية غير معهودة بطول فترتها الزمنية وبأساليب عملها وبتكوينها الاجتماعي إلى نسف اللون اللامع لماكرون، والأمر الأهم أنّ الكثير من القادة حول العالم بدأ يراودهم تخوّفٌ أن يحلّ بهم ما حلّ بماكرون.
هيلين ريتشار، لو موند ديبلوماتيك كانون الأول/ديسمبر 2019
رابط المصدر:
https://barq-rs.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B5%D9%81%D8%B1/