محمد محفوظ
تعلن وسائل الإعلام المختلفة بين الفينة والأخرى، عن قيام الأجهزة الأمنية بالقبض على بعض المجموعات التي تمارس الإجرام وتهريب المخدرات وتوزيعه.. ولا ريب أن تهريب المخدرات وغيرها من الجرائم الأخلاقية والسلوكية التي يعلن عنها، تثير الكثير من الأسئلة والتحديات، التي تبحث عن إجابات حقيقية وعملية، لإنهاء موجباتها، ومنع تحولها إلى ظواهر اجتماعية تهدد النسيج الاجتماعي والوطني.. لهذا من الضروري أن يجتهد المختصون بالشأن الاجتماعي، سواء كانوا علماء اجتماع أو وعاظا ومصلحين اجتماعيين، في رصد الظواهر الاجتماعية، وتحديد الموقف المطلوب منها..
فإذا كانت ظاهرة إيجابية امتدحها المصلح، وشجع على بقائها وديمومتها في المجتمع.. وإذا كانت سلبية وسيئة ذمها وعرض القيمة المقابلة لها بكلياتها وخطوطها الكبرى..
ولأن التراكم المعرفي والتواصل البحثي، تقليد لا نعرفه في أبحاثنا الاجتماعية وعملنا المجتمعي، لذلك فإننا لا نهتم كثيرا، في فهم وإدراك الظواهر الاجتماعية، على البحوث التحليلية والعلمية، القائمة على الحقائق والبراهين والأرقام..
وإنما نكتفي بلغة الوعظ والإرشاد والنصيحة في معالجة الظواهر الاجتماعية.. وكأن الأخلاق هو العامل الأوحد، لعلاج مشكلات المجتمع وظواهره المتعددة.. غافلين عن طبيعة نشوء الظواهر في المجتمع الإنساني..
حيث أنه لا توجد ظاهرة اجتماعية، وليدة شيء واحد فقط.. فكل ظاهرة اجتماعية، هي وليدة علاقات وظواهر ومشاكل متشابكة، أفرزت هذه الظروف المتشابكة تلك الظاهرة الاجتماعية..
فمثلا ظاهرة الرشوة وقبولها اجتماعيا، ليست ظاهرة وليدة الانحراف الخلقي فحسب بل هي ظاهرة تشترك الكثير من الأنساق والسياقات الاجتماعية والاقتصادية في إيجادها..
فلا يمكن أن نعالج ظاهرة اجتماعية جاءت إفرازا لمشكل اجتماعي حضاري عميق، أن نعالجها بالنصيحة الأخلاقية والإرشاد المجرد.. (دون أن ننكر دور هذه الآلية في علاج هذه المشكلات)..
والذي نريد قوله في هذا المجال، إننا ينبغي أن ننتقل في رصد وعلاج الظواهر الاجتماعية السيئة، من موقع الواعظ، إلى موقع الباحث العلمي، الذي يتجه إلى جذور الأمور وجوهر القضايا، دون أن نغفل تداعياتها وآثارها الجانبية.. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني أن نتعامل مع الكيان المجتمعي، كما نتعامل مع العلوم الطبيعية والرياضية القائمة على الحتمية والاطراد والعمومية وغيرها من سمات العلوم الطبيعية..
وإنما نحن نرى المنهجية والبحث العلمي الرصين، مسألة ضرورية في العلوم الاجتماعية.. وتتأكد ضرورة هذه المسألة، حينما نريد أن نرصد ظاهرة اجتماعية ما، ونحدد موقفنا منها، وسبل علاجها.. إذا كانت ظاهرة سلبية، وطرق تعميقها وتكثيفها إذا كانت ظاهرة إيجابية وحسنة..
فالعلوم الاجتماعية، لا ترقى في علميتها، إلى مستوى علوم الطبيعة، ولكنها ينبغي أن لا تتخلى عن الدقة والضبط العلمي في دراسة الظواهر الإنسانية..
وفي تقديرنا أن الاعتماد على النسق الوعظي في علاج الظواهر الاجتماعية، ليس وليد النقص العلمي أو غياب الاهتمام العلمي، لدى من يقوم بهذا النسق في حركته الاجتماعية، بل يرجع إلى الاختيار المنهجي في اعتماد أسلوب الوعظ في العملية الاجتماعية.. من هنا فإننا نرى: أن الاعتماد على البحوث العلمية في رصد وعلاج مشكلاتنا الاجتماعية، ننظر إليها بوصفها مشكلة منهجية، وليست معرفية بالدرجة الأولى..
وبإمكاننا أن نحدد البديل العلمي، الذي ندعو له في دراسة قضايانا الاجتماعية عموما في المسألة التالية:
إن من الأخطاء الفادحة، التي يقع فيها الكثير من المهتمين بالشأن الاجتماعي العام، أنهم يعزلون الظاهرة، التي يراد دراستها عن السياق الاجتماعي والظروف التاريخية التي برزت فيها تلك الظاهرة ونشطت فيها.. فلا يمكن أن ننظر إلى مشكلة جنوح الأحداث مثلا، باعتباره قضية أخلاقية محضة، دون النظر إليها في إطار علاقة الأحداث بالجماعات الصغيرة كالأسرة والجوار والأصدقاء وما أشبه.. إننا ينبغي أن نحلل هذه الظواهر تحليلا سوسيولوجيا، ننظر إلى الظاهرة ككائن حي، ينمو ويزدهر لمجموعة من العوامل الحاضنة والمحيطة..
وكما يبدو أن النسق الوعظي، لا ينظر إلى الظواهر الاجتماعية، نظرة سوسيولوجية، بل بوصفها مشكلات أخلاقية، تعالج بتذكير الإنسان بالفضائل الأخلاقية المقابلة لتلك الرذيلة، دون أن يتعب نفسه في البحث والتنقيب، عن العوامل والأحداث الحقيقية والخفية، لبروز تلك الظاهرة المدروسة..
ويضرب الدكتور (محمد عزت حجازي) مثالا على هذه المسألة بالتنشئة الاجتماعية فيقول: فإن عشرات وربما مئات الدراسات والبحوث حول موضوع مثل التنشئة الاجتماعية في مرحلتي الطفولة والشباب، وفرت كما هائلا من المعلومات عن نقاط تفصيلية كثيرة ولكنها لم تفلح في الإجابة عن أسئلة مهمة، مثل هل تسير عمليات التنشئة الاجتماعية، بحيث تخلق مواطنا، يفهم ذاته ويقبلها، ويفهم الآخرين، ويمكنه أن يقيم علاقات مشبعة معهم، ويفهم الواقع ويستطيع أن يكون إيجابيا إزاءه؟ وهل تسمح التنشئة الاجتماعية للإنسان، بأن يحقق إمكاناته وملكاته واستعداداته لأكبر مدى ممكن.. بحيث لا تأتي الأجيال المختلفة، تشبه بعضها بعضا.. وإذا المجتمع يكرر نفسه، وإذا لم تكن تفعل ذلك، فماذا من أوضاع وظروف في البنية الاجتماعية – مثلا – يحول دون بلوغه؟ وأية قيم أخلاقية وجمالية واجتماعية وغيرها ترسخها عمليات التنشئة الرسمية وغير الرسمية؟ وفي أي اتجاه تسير هذه.. إننا لا ننكر دور الوعظ في حفز الجانب الأخلاقي والوجداني لدى الإنسان، إلا أن هذا الجانب وحده، لا يستطيع أن يعالج الظواهر الاجتماعية ذات المنابت المتعددة..
وبكلمة أن الأخطاء الإنسانية التي لم تتحول إلى ظاهرة، يكون للوعظ والنصيحة الدور الفعال في إنهائها.. أما إذا تحولت هذه الأخطاء إلى ظواهر، فإن العاطفة بوحدها لا تنهي تلك الظاهرة.. فالإنسان لا يستبطن فقط الجوانب الأخلاقية، بل معها نوازع وحوافز شتى تؤثر على مسيرة الإنسان، وقناعاته الفكرية ومواقفه السلوكية..
إننا أمام الظواهر الاجتماعية، من الضروري أن ننأى عن التفاسير الظاهرية، التي تعيد هذه الظواهر إلى أسبابها الشكلية وعواملها الفوقية، دون سبر أغوار الظاهرة، والتعرف على جوهر الأسباب والعوامل الموجدة.. كما نبتعد عن تحددي المسببات الكلية لهذه الظواهر.. إننا بحاجة أن نجعل الظواهر في سياقها الاجتماعي الطبيعي، ونبحث في هذا السياق والظروف، عن أسبابها وطرق علاجها..
والسياق الاجتماعي الذي نقصده، ليس كيانا راكدا وسكونيا، بل هو سياق تعتمل فيه عوامل الصراع وأسباب المدافعة..
فالأمر الضروري الذي ينبغي أن نسعى إليه، هو الفهم الموضوعي للظاهرة، القائم على البحث العلمي والتحليل الاجتماعي المتماسك مستعينين في إطار ذلك بالأخلاق ودورها الاجتماعي الإصلاحي.. وعليه فإننا مطالبون أمام الظواهر الاجتماعية المختلفة، أن نرصدها ونقرأها، اعتمادا على منهجية علمية وأساليب ملائمة لتفكيك هذه الظواهر، وسبر أغوارها، واكتشاف آلياتها وطرق عملها وأسباب نموها وعوامل ضمورها..
رابط المصدر: