الموقفَيْن العربيّ والأوروبيّ من الرقيق الأفارقة في القرنَيْن (10 و 11) الهجريّين / (15 و 16) الميلاديّين

د. بشار أكرم جميل

كلية الآداب/جامعة الموصل/العراق

 

مقدمة:
في الوقت الذي رفع فيه الإسلام مكانة الإنسان، ودعا إلى احترامه ومنحه حقوقه كاملة، ومنع التفريق بين البشر على أساس الجنس أو اللون أو العِرْق، كان الظلم والقهر والسيطرة على المقدّرات في العصور الوسطى هي السائدة في المجتمع الأوروبي، فقد كانت الحياة فيه تسير وفق نظامَيْن رئيسَيْن، هما: (الإقطاع، والرِّق)، قسما المجتمع إلى: سيّدٍ إقطاعيٍّ وقِنٍّ في الأرض، وسيّدٍ مالك وعبدٍ مملوك.
وقد اختلفت الآراء حول نظام الإقطاع، فمنهم من عمل فيه وشجّعه، ومنهم من عانى منه وحاربه، ولم تكن محاربته سهلةً في ذلك الوقت؛ بسبب تغلغله في المجتمع وسيطرته على كلّ المفاصل فيه ، والأمر نفسه ينطبق على نظام الرِّق، فقد ظهر منذ عصور قديمة، وعُمل فيه كنظامٍ اجتماعيٍّ متكاملٍ سائد، يعتمد من خلاله المجتمع على قدرات الرقيق الجسمانية في جميع مجالات الحياة؛ لحدٍّ يجعل التفكير بإلغائه لم يكن بالأمر اليسير .
واختلفت بناءً على ذلك طريقة التعامل مع الرقيق بين شعبٍ وآخر، فمن الرقيق مَن تعرّض للقتل والتعذيب وسمل العيون وتقطيع الأطراف، كرقيق الرومان واليونان والهند والمصريين القدماء.. وغيرهم من الشعوب ، بينما كانت معاملة الرقيق أفضل عند العرب قبل الإسلام في بلاد الحجاز واليمن، حيث كانت العقوبات أقلّ قسوة .
وقبل ظهور الإسلام وبعده؛ بدأت إفريقيا جنوب الصحراء ترفد المنطقة العربية بالرقيق الذين سيركّز البحث على المقارنة بين معاملتهم من قِبل العرب ومن قِبل الأوروبيين، ويحاول البحث الإجابة عن تساؤلٍ يتمثّل في: مَن المسؤول عن تجارة الرقيق في إفريقيا: العرب أم الأوروبيون؟ وما رأي الفريقَيْن بالأفارقة بوصفهم بشراً بشكلٍ عامٍّ، ورقيقاً بشكلٍ خاصّ؟
ولكي تكون المقارنة واضحةً بين العرب والأوروبيين؛ فقد تمّ تقييده بمدّة زمنية كان فيها الوجود الأوروبي في المنطقة قد بدأ وظهر جليّاً، وهي القرنان: (العاشر، والحادي عشر) الهجريّان / (السادس عشر، والسابع عشر) الميلاديّان.
ومن أبرز الدراسات السابقة التي تناولت الموضوع بشكلٍ مباشرٍ مجموعة بحوث في كتاب: (مسألة الرّق في إفريقيا من خلال الموقفَيْن الأوروبيّ والعربي)، الصادر في تونس سنة 1982م، بقلم جهاد مجيد محي الدين، إذ ناقشت تلك البحوث الآثار السلبية للرّق على القارة الإفريقية، وكذلك بحث بعنوان: (تجارة الرقيق في إفريقيا من خلال الموقفَيْن الأوروبي والعربي)، بقلم إبراهيم حركات، تحدّث فيه عن الموقفَيْن في فترةٍ حديثة، امتدت حتى القرن الثامن عشر الميلادي، إلا أنّ تلك البحوث لم تجب عن ذلك التساؤل بشكلٍ واضحٍ، حيث ركّزت على نتائج الرّق على القارة الإفريقية دون الخوض في تحديد الجهة التي شرّعت تلك العملية وحوّلتها لتجارةٍ رائجة.
وجاء بحثنا هذا الذي نتمنّى أن يكون قد أضاف شيئاً مفيداً للموضوع، لكي يستطيع القارئ عبره أن يميّز بين معاملة كلٍّ من الجانبَيْن لأبناء تلك المنطقة الذين ظُلموا عبر العصور.
أولاً: الموقف العربي:
أمام كلّ ذلك ظهر الإسلام بتعاليمه السّمحة، وتعامل مع الرّق على أساس كونه حالةً اجتماعيةً سائدة في المجتمع العربي، لذا فقد أبقى الإسلام على نظام الرّق، وتعامل معه كتعامله مع بقية المسائل؛ مستخدماً التدريج في القضاء عليه ، وقد ركّزت التعاليم الإسلامية على تجفيف منابعه الكثيرة، والمتمثلة في: (رقّ الحروب، ورقّ الوراثة، ورقّ الدين)، وغيرها كثير، وحصرها في منبعَيْن فقط، هما: (رقّ الحروب، ورقّ الوراثة)، وإبقائه لرقّ الحرب كان نابعاً من أنّ إلغاء ذلك الباب من أبواب الرّق سوف يجعل من أسرى المسلمين عبيداً لدى العدو مقابل إطلاق سراح أسراهم .
إلا أنّ الإسلام في الوقت نفسه عمل على فتح أبواب عديدة لتحرير الرقيق؛ مما عجّل بإنهاء ذلك النظام بشكلٍ تدريجي، فأصبح لزاماً على السيّد أن يعتق عبده إذا ما ضربه متعمّداً ودون سبب ، وإذا ما ادّعى العبدُ بأنه حرٌّ وأصرّ على ذلك فهو حر ، كما أنّ كفّارة الوطء في رمضان هي عتق رقبة ، والحنث في اليمين كفّارته عتق رقبة ، وفي حالة حدوث الظواهر الطبيعية، كالخسوف والكسوف، فإنّ التقرّب لله تعالى يتمّ بعتق رقبة ، فضلاً عن فتحه باب التحرير عن طريق المكاتبة بين السيّد وعبده على مبلغٍ من المال إذا ما سدّده العبدُ فهو حر ، كما أنّ الأَمَة التي تنجب من سيّدها تصبح أمّ ولدٍ وتتحرر ، وهكذا في كثيرٍ من الأمور، بل إنّ الكلمة التي أُطلقت على العبيد كانت تدل على التسامح والمحبة، وهي: الرِّق، والتي تعني الرقة والرفق وحسن المعاملة؛ لأنّ العبودية لله وحده فقط .
ولم يكن هذا الرأي في مسألة الرّق والتعامل الحسن للمسلمين مع رقيقهم خاصّاً بجنسٍ مُعين؛ بل مع جميع أجناس الرقيق، ومنهم الرقيق «السودان»، كما أطلق ذلك عليهم المؤرخون العرب نسبةً لسواد ألوانهم ، فمع بداية الدعوة الإسلامية كانت مكة وبقية الجزيرة العربية حافلة بأعدادٍ كبيرةٍ من الرقيق السود؛ الذين ما لبث الكثير منهم أن تعرّف على تعاليم الإسلام الداعية للتسامح مع الجميع، وأنها لا تفرّق بين العبد وسيّده، فالناس جميعاً سواسية، وأنّ تنوع القوميات وتعدّد الألوان مرحّبٌ به من قِبل العرب المسلمين، فقد قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات : 13]، فعلم أولئك الرقيق أنه الدين الحقّ، وأقبلوا إليه بقوة، ودخلوا فيه، ولم يتركوه برغم التعذيب الشديد الذي تعرضوا له .
لقد كان في مقدمة أولئك الرقيق الذين حصلوا على حريتهم بعد دخول الإسلام: سيّدنا بلال الحبشيّ رضي الله عنه، والذي ذاق التعذيب على يد مشركي مكة، فقام سيدنا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- بشرائه وتحريره؛ ليصبح واحداً من الصحابة الأجلاء حاله حال أيّ صحابيٍّ كان في الجاهلية سيّداً في قومه، وفي ذلك قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أبو بكر سيّدُنا، وأعتق سيّدَنا–يعني: بلالاً-» ، بل إنّ سيدنا بلال تميّز عن غيره من الصحابة بأن أصبح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان له شرف الصعود على ظهر الكعبة الشريفة والآذان عند فتح مكة دون غيره من الصحابة .
فضلاً عن ذلك؛ فإنّ عدداً من الرقيق، ولاسيما الأسود، كان قد رفض العودة إلى بلاده بعد تحريره، وذلك بسبب المعاملة الحسنة التي كانوا يلقونها في بلاد الإسلام على يد سادتهم الذين امتثلوا لأقوال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حينما نصحهم بالإحسان إلى رقيقهم قائلاً: «إنّ إخوانَكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمه ممّا يأكل، وليُلبسه ممّا يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإنّ كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» .
لقد جاء الإسلام ليؤكّد أنّ الأصل هو الحرية لجميع البشر من خلال الإيمان بأنهم متساوون أمام الله تعالى، ولهذا اعتمد المسلمون أسلوب التعامل بالحسنى مع الأرقاء ، كما أنّ المجتمع العربيّ لا ينظر إلى الناس وفق معيار اللون، أو العنصر، أو الطبقة، بل من خلال العقيدة بالنسبة للعرب المسلمين، ومن خلال الرابطة الإنسانية بالنسبة لغير المسلمين .
وانطلاقاً من مبدأ المساواة بين السيّد وعبده في الإسلام؛ فقد ارتدى الرقيق الملابس التي يرتديها الأحرار، في صدر الإسلام وما تبعها من عصور، فكان العبد في المجتمع العربيّ يشابه سيّده في ملبسه ومشربه ومسكنه أثناء مدّة رقّه أو بعد تحوّله إلى مولى ، بل وصلت هذه المساواة بين السادة ورقيقهم إلى حدٍّ جعل الإماء يلبسن الحليّ أكثر من سيّداتهنّ، وقد برز ذلك خلال العصر العباسي ، ولم يكتف العرب بإزالة الفوارق بينهم وبين رقيقهم فحسب؛ بل كانوا لا يميّزون بين رقيقهم وأفراد عوائلهم .
وقد اعترف بعض رجالات الغرب ومؤرخيهم بحسن المعاملة الإنسانية التي عامل بها العرب رقيقهم، إذ يقول ديورانت برباروسا: «حال الرقيق في منبسا تدلّ على ما لأسيادهم العرب هناك من إنسانية، يعجز الواحد أحياناً أن يميّزهم عن أسيادهم، إذ يبيح هؤلاء لهم أن يقلّدوهم في اللباس، وفي غيره من شؤون العيش» ، كما أكّد ذلك زويمر بقوله: «إنّ بين الأوروبيّ والإفريقيّ هوّة تفرّق بينهما، والمسلمون تمكّنوا من إزالة هذه الهوّة التي كانت بينهم وبين الزنوج» ، فضلاً عن ذلك فقد أشار المستشرق (آدم سمث) إلى المسألة نفسها بقوله: «إنّ كثيراً من الرجال الإنكليز الذين يعدّون أنفسهم مسيحيّين طيّبين لن يجول بخاطرهم الإقرار بالزمالة مع المسيحيين من سود البشرة، أما المسلمون فلا يفرّقون، فالعرب والزنوج والبربر إخوة في الدين، ولا يختلط بعضهم بالبعض الآخر في العبادة فحسب، وإنما يعاون بعضهم بعضاً عن طيب خاطرٍ في شؤون الحياة اليومية» .
ويؤكد كاتبٌ أوروبيّ آخر أنّ الرّق عند المسلمين يختلف عن الرّق عند النصارى، وأنّ حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، لأنّ الرقيق في الشرق هم جزءٌ لا يتجزّأ من أسرة السيّد، بل إنّ الرقيق يستطيعون الزواج من بنات سادتهم بعد التحرير .
فضلاً عن ذلك؛ فقد كان للرقيق عموماً، والسودان خصوصاً، دورٌ واضحٌ في الدولة العربية الإسلامية، فقد تولّوا قيادة بعض فرق الجيش ، وفي بعض الأحيان كانوا قادة سياسيّين ، فالإسلام لم يفرّق بينهم وبين الأحرار ، ولم يتعامل معهم وفق نظرتهم الوثنية للمجتمع والقائمة على نظام الطبقات التي ورثوها عن أسلافهم ، وعلى هذا الأساس فقد تسلّم عددٌ من الرقيق والموالي مناصب سياسية وإدارية مهمّة داخل إفريقيا جنوب الصحراء وخارجها ، فقد أسهم الرقيق السودان في تشكيلات بعض الجيوش العربية، كالجيش الفاطميّ الذي ضمّ أعداداً كبيرة من الجند السودان، وخصوصاً على عهد المستنصر الفاطمي ، فضلاً عن تسلّم الرقيق السودان مهمّات إدارية في قصور الطولونيين، فقد عُيّن حاجبٌ أسود للنظر في جنايات الغلمان السودان وحلّ مشكلاتهم، اسمه: «الدرمون»، يجلس عند أحد أبواب الميدان المطلّ على القصر .
وكدليلٍ على الحرية التي كان يتمتع بها الرقيق السود خارج بلادهم: تحركهم بحريةٍ تامّةٍ واندماجهم مع بقية فئات المجتمع، ومشاركتهم في التغييرات السياسية في البلاد، وهو ما حصل في مصر خلال عدة عهود، وصولاً إلى حكم المماليك لمصر، بل حدثت ثورات عديدة للعبيد السود كان من بينها ثورتهم في مصر سنة 849هـ/1445م .
فضلاً عن ذلك؛ فقد شارك الرقيق السود أهل المغرب العربيّ في جوانب كثيرة من حياتهم، فنجدهم في بلاطات الملوك وعلية القوم، كما نجدهم مقاتلين في الجيش، وفلاحين في الواحات الصحراوية، وعمّالاً يستخرجون المعادن، بل تجّاراً يقودون القوافل التجارية إذا ما نالوا ثقة رؤسائهم .
كما تسلّم بعض الرقيق السودان بعد تحريرهم مناصب سياسيةٍ وإداريةٍ داخل بلادهم، وهو الذي حصل في دولة مالي حينما أصبح ساكورة حاكماً للفترة (674-684هـ/1275-1285م) ، وهو رجلٌ ذو إمكانيات عالية، وله شعبية كبيرة في أوساط الماليين ، إذ أصبح في نظر الشعب الحاكم القويّ الذي أعاد إلى مالي هيبتها، وحرص أشدّ الحرص على مدّ نفوذها .
لقد شنّ ساكورة الكثير من الهجمات على أعدائه من أجل استعادة ممتلكات مالي، فقد بدأ بالهجوم على صنغاي لإخضاعها بعد أن خرجت عن سيادة مالي، إذ استولى على العاصمة (غاو) المنيعة على مَن سَبَقه من السلاطين ، كما افتتح كوكو ، وأشار إلى ذلك ابن خلدون بقوله: «وافتتح بلاد كوكو وأصارها في مملكة أهل مالي»، فاتسع نطاق مملكته ليصبح مسيطراً على أراضٍ واسعةٍ، تمتد من المحيط الأطلسيّ إلى بلاد تكرور، فقوي سلطانه، وحسب له أعداؤه ألف حساب .
وفي دولة السنغاي كان مستشار الأسكيا الحاج محمد الأول وأمين سرّه من الرقيق، يرافقه في جميع رحلاته.
وفي «كانو» كان حاكمها محمد رومفا قد عيّن عدداً من الرقيق الخصيان في وظائف سياسيةٍ مهمّة ، وحينما سيطر بغودا على عرش مقاطعة «دورة» في «كانو» كان في جيشه عددٌ كبيرٌ من الرقيق، تسلّم عددٌ منهم الحكم في تلك المقاطعة، حتى سقط حكمهم في سنة (828هـ/1419م) .
فضلاً عن ذلك؛ فقد أسهم الرقيق الأفارقة في نجاح الكثير من معارك دولة السنغاي ضدّ الوثنيّين، فقد كانت تشكيلات الجيش، ولاسيما صنف المشاة، يزخر بالمقاتلين الأشدّاء الذين أخضعوا كلّ وادي النيجر تحت راية الإسلام ، كما أسهم الرقيق في تشكيلات الحرس الملكيّ التي تقوم بمهام حماية السلطان أو الحاكم في البلاد؛ لما يتمتّع به أفراد ذلك الصنف من موهبةٍ قتاليةٍ وتدريبٍ عالٍ وانضباطٍ وأمانةٍ، للحدّ الذي دفع بحكّام البلاد لاختيار قادتهم العسكريين من بين أبناء ذلك الصّنف .
ويبدو– مما سبق وغيره- بشكلٍ جليٍّ اندماج الرقيق الأفارقة في الدولة العربية الإسلامية، ومعاملتهم معاملة الأحرار في المشرق والمغرب الإسلامي.
ثانياً: الموقف الأوروبي:
على عكس موقف العرب من الرقيق الأسود ورأيهم فيه، جاء موقف الأوروبيين من تلك المسألة ورأيهم فيها؛ متمثّلة في المعاملة السيئة التي عاملوا بها الرقيق الأسود، فقد دُعم الرأي الأوروبي بإباحة تجارة الرقيق بموقف علماء اللاهوت والمسؤولين في أوروبا؛ بدعوى أنّ الإفريقيين أفضل حالاً في ظلّ الإشراف المسيحيّ منه عند الوثنيين أو العرب من ملاك الرقيق، وأفادت تلك الحجّة أنه طالما كان الرّق شيئاً طبيعياً عند الإفريقيين فما على الأوروبي إلا أن يتأكد من أنّ العبد المشترَى يُستعبد بطريقةٍ عادلة تتماشَى والقانون الإفريقي .
وأمام ذلك؛ فقد عمل الغرب المسيحيّ على تبرئة نفسه من تدمير القارة الإفريقية بالرّق، ووضع اللوم على العرب، وإظهار العربيّ بمظهر تاجر الرقيق المعلّم لبقية الأمم لهذه الفتنة، وتشويه صورته أمام الأفارقة، وزرع الحقد والكراهية في نفوسهم تجاه العرب ، فيذكر جيمس ويللارد «أنّ استغلال العمال السود كان تقدمة العرب للبشرية؛ لأنهم هم الذين نظّموا هذه التجارة الواسعة بالبضاعة الإنسانية من إفريقيا إلى موانئ الأطلسيّ والمتوسط».
ويبدو أنّ المؤلف «ويللارد» لم يسمع بالمعاملة الحسنة التي لاقاها الرقيق بشكلٍ عامٍّ على يد العرب؛ مقابل ما لاقاه الأفارقة على يد الغربيين وباعترافهم أنفسهم.
فقد تشكّلت شركات خاصّة بعملية نقل الرقيق إلى أوروبا، كشركة غينيا الفرنسية، وشركة البحر الجنوبي الإنكليزية ، إلا أنّ البرتغاليين كانوا قد سبقوا تلك الشركات وأرسلوا أول شحنة إلى خارج إفريقيا عام 1442م؛ حينما أهدى هنري الملاح عدداً من رقيقها إلى البابا، وباع الباقي في أسواق لشبونة ، ليحصل بعدها على موافقةٍ رسميةٍ من البابا بعد أنّ أعلن أنه يعمل على استرقاق «الكفرة» من الأفارقة؛ مما أعطاه غطاءً جيداً لتحركاته .
ويشير شهود العيان من الأوروبيين أنّ نهاية القرن الخامس عشر الميلاديّ شهدت بيع العبد الأسود مقابل اثنتي عشرة أو خمس عشرة قطعة من الأساور النحاسية ، فقد كان التجار الأوروبيون الساكنون على الساحل الإفريقيّ يشترون الرقيق من الداخل الإفريقي بأبخس الأثمان، ويبيعونه بثمنٍ مرتفعٍ على الساحل .
لقد تسبّب رأي الأوروبيين بالرقيق الأسود القاضي بضرورة استرقاق «الجنس الأسود» لخدمة «الجنس الأبيض» إلى إفراغ القارة الإفريقية من شبابها، ففي سنة 1448م تركزت في مدينة إرغان تجارة نظامية تقوم على مبادلة البضائع بالبشر، وبعد سنة 1460م كان يقصد البرتغال وأسواقها قرابة 1000 عبد سنويّاً ، يتمّ استخدامهم في مزارع البرتغال وإسبانيا؛ إذ كانوا يُباعون إلى نبلاء الأسبان ليعملوا عمالاً في أراضي الريف الواسعة، فضلاً عن عمل آخرين في الجزر المقابلة للساحل الغربي الإفريقيّ التي تمّ اكتشافها، مثل ماديرا وجزر الكناري والرأس الأخضر وساوتوميه وبرنسيب، والتي زُرعت بالكروم وقصب السكر والخضروات وأنواعٍ من الفواكه .
وكان جُلب الرقيق الأسود للعمل في تلك المزارع بسبب فشل العمّال السابقين من الهنود الحمر في تلك الأعمال؛ مما شجّع تجار الرقيق الأوروبيين ورجال السياسة، بالتعاون مع رجال الدين، في استصدار قرارٍ بمشروعية استرقاق السود، وبرغم ما قام به أولئك السود من ثورات ضدّ الظلم والتعذيب الذي تعرّضوا له خلال استرقاقهم؛ فإنّ البرتغاليين وغيرهم من المحتلين نجحوا في استرقاقهم، وفصلهم عن عوائلهم وأوطانهم، فعاشوا في محيطٍ غير مألوفٍ لهم، فهم لا يعرفون لغة الأهالي وعاداتهم .
لقد عملت شركات تجارة الرقيق الغربية- المدعومة من قِبل حكومات البلدان التي تنتمي إليها- على تشويه صورة الأفارقة الذين تجلبهم كرقيق، فعملت تلك الشركات في البداية على خلق الفتن بين الإفريقيين أنفسهم، وتحفيز رؤساء القبائل وعلية القوم على اقتناص أبناء قبائلهم وبيعهم لتلك الشركات من خلال مبدأ «فرّق تسد»، ومن ثمّ العمل على ترويج أقاصيص تشير إلى وحشية الأفارقة، وبثّها على لسان المبشّرين والمستكشفين والتجار؛ لكي تقنع الجميع بأنّ الرق بالنسبة للأفارقة هو إنقاذٌ لهم من خلال نقلهم إلى العالم المتحضّر !
ولنجاح أولئك التجار، ومن ثمّ الشركات العاملة بتجارة الرقيق في مسعاهم، فقد عملوا على غلق الطريق أمام الأوروبيين الراغبين في الوصول إلى إفريقيا للعمل في تجارة الملابس أو المواد الغذائية وغيرها، وحاربوا أصحاب تلك التجارات وأبعدوهم عن القارة؛ لكي لا يكتشفوا سرّ عمل تجّار الرقيق، ولينفرد أصحابها بذلك الربح .
وكان الرقيق الأسود الذي استولى عليه الأوروبيون قد عانى الكثير، وخصوصاً خلال نقلهم إلى خارج القارة، وذلك بقيامهم بعزل الرجال عن النساء، وإيقافهم بشكل دائرة بعد أن كانوا قد ساروا لمسافة طويلة؛ بحيث يعجز بعضهم عن الوقوف، ويقف في وسط الدائرة تجار الرقيق ليتفحصوا تلك البضائع البشرية من الرجال وكذلك النساء، وليُنقلوا بعدها بالسفن التي خُصّصت لتستوعب أكبر عددٍ ممكن من البشر، وربما أكثر من حمولتها؛ مما يولّد الزحام الشديد الذي ينتج عنه الأمراض وحالات الاختناق .
وكانت السفن التي تقوم بنقل أولئك الرقيق قد أنيطت قيادتها بأشدّ الملاحين قساوة ومكراً؛ ليتمكن من التعامل مع تلك الأعداد من البشر الذين لا يجدون مكاناً للجلوس على السفينة، بل المكان المخصّص لكلّ بشرٍ واحدٍ هو ما يكفي لوقوفه فقط، وبرغم ذلك يُجبر على التمدّد فيه، ومن ثمّ يتمّ شدّه بسلاسل مع مَن هو بجانبه، وإذا ما رأى القبطان أنّ السفينة معرّضة للخطر بسبب الحمولة الزائدة؛ فله أن يلقي في البحر مَن يشاء من الرقيق !
وبرغم المعاملة السيئة التي تعامل بها الغرب مع الرقيق الأسود؛ فإنهم حاولوا أن يبعدوا مسألة البدء بتلك التجارة عن أنفسهم، ويلصقوها بالعرب، فيقول أحدهم إنّ ابن بطوطة تألّم كثيراً لأنه زار خلال رحلته المدن الزنجية، وشاهد أولئك السود الذين «تعوّد» أن يراهم رقيقاً، فقد رآهم أسياداً في بلادهم، وهو أمرٌ مزعج بالنسبة له ، إلا أنّ الحقيقة غير ذلك إذ أنّ الرحالة ابن بطوطة وصل بلاد السودان برغبته وبتشجيعٍ من السلطان المرّيني أبو الحسن ، وقد شاهد خلال رحلته الكثير وفرح لبعضها، وضجر لبعضٍ آخر، لكنه لم يفرّق بين عبدٍ أو حرٍّ، ولم يحكم على الجميع بأنهم رقيق .
وفي المقابل؛ فقد سجّلت تجارة الرقيق الأسود سجلاً من أحلك السجلات في تاريخ الغرب، ففضلاً عن أنّ الإفريقيين استعبد بعضهم بعضاً، وأنّ عدداً من تجار الرقيق العرب عملوا في تلك التجارة بقوة، فإنّ وصول الأوروبيين وتخطيطهم للأمر زاد من بشاعة المسألة، وخصوصاً على الساحل الغربي للقارة في مناطق خليج بنين وساحل الذهب .
وربما كان للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيش فيها القارة الإفريقية دورٌ في وصول الأوروبيين، ونظرتهم السيئة حول السكان الأفارقة، فقد صوّروا المجتمع كأنه بعيدٌ عن الحضارة، وأنّ الصراع بين القبائل هو السائد، والاقتصاد قائمٌ على الزراعة البدائية والرعي، وأنّ الوقوع في الأسر أثناء الحروب والتحوّل إلى رقيقٍ أمر طبيعي، لذا فإنّ وصول الأوروبيين للمنطقة هو الحلّ!، فجاؤوا ومعهم السلاح والمال، وشجّعوا القبائل القوية على شراء السلاح لقتال الأعداء والحصول على رقيق، وبالتالي بيعه للغرب .
ويشير الأوروبيون إلى أنّ الرقيق الأسود تمكّن بحكم القابلية الجسمانية أن يقاوم ويعمل؛ على عكس الهنود الذين تمّ استبعادهم، وبمرور الزمن كانت أعداد الرقيق الأسود قد تزايدت في «العالم الجديد» كما سمّاه الغرب، وإن كانت تلك الحياة دون رغبة أولئك الرقيق، كما أنّ الهروب من ذلك المكان كان أمراً صعباً، وقد وصلت أعدادهم إلى حوالي 000ر75 عبد في بدايات القرن السابع عشر الميلادي في أمريكا الإسبانية، كما تمّ نقل 000ر50 عبدٍ إلى البرازيل البرتغالية .
وكان لرأي الغرب في الرقيق الأسود (بكون الإفريقيّ فاقداً للإنسانية، وباسترقاقه سوف يحصل على حياة أفضل) تأثيرٌ سلبيٌّ كبيرٌ على القارة الإفريقية بشكلٍ كامل، فكان الإفريقي لا يسير على الساحل إلا وهو مسلّح خشية الوقوع في الرّق، وكان ما يُحزن الأفارقة أنّ بعض أبناء جلدتهم من المتعاونين مع الأوروبيين؛ أسهموا بشكلٍ أو بآخر في عقد الصفقات مع الأوروبيين لبيع مواطنيهم الأفارقة، إذ لم يكن هَمّ هؤلاء سوى الربح الماديّ المتحقّق من وراء ذلك العمل .
ونتيجةّ لقناعة الغرب المسيحيّ بأنّ استرقاق الإفريقي جاء لخيره، من خلال تحويله من الإسلام أو الوثنية إلى المسيحية، والتي ستحوله من حالته السيئة إلى الإنسانية والرقي، فقد هيؤوا بعثات تنصيرية داخل إفريقيا تنتشر بين السكان الذين بقَوا، ولم يتمّ استرقاقهم خارج القارة، وكان الهدف الأول لتلك الحملات يتمثّل بإقناع الأفارقة أنّ العرب ما قدِموا سابقاً إلى القارة إلا ليخطفوا أبناءها ويذهبوا بهم بعيداً ليبيعوهم، وربما يكون ذلك القول قد أثّر في نفوس البعض من الأفارقة، وجعلهم ينظرون إلى العرب نظرة حقد .
وربما يكون قلّة وعي العرب وجهلهم وقلّة دعاة الإسلام في القارة الإفريقية، وخصوصاً في إفريقيا الوسطى، قد ساعد الأوروبيين في مسعاهم، فقد كان الإفريقيّ محبّاً للإسلام بعاطفته، إلا أنّ ذلك لا يكفي أمام وسائل التنصيريين ودهائهم، كما أنّ هؤلاء استغلوا الظروف الصعبة التي يعيش فيها الأفارقة، ولاسيما الفقراء منهم، وهم كُثر، من خلال منحهم الأموال ومعالجتهم مقابل تحوّلهم إلى النصرانية .
وبذلك نلاحظ أنّ الاختلاف في الرأي ظهر جليّاً في التعامل مع مسألة الرقيق عموماً، والرقيق الأسود المجلوب من إفريقيا خصوصاً، فموقف العرب كان نابعاً من رأيهم المتمثل بعدم التفريق بين البشر مهما كان جنسهم، بل المقياس هو التقوى، في حين كان رأي الأوروبيين بالرقيق الأسود- خصوصاً- يتمثّل في كونهم من طبقة دنيا لا ترتقي إلى مستوى البشر، وأنّ استعبادهم له فائدةٌ كبيرةٌ لهم من خلال تحويلهم إلى مصافّ البشر.
وفي الختام:
هل هناك شكٌّ في تحديد هوية المسؤول عن استعباد الأفارقة وتشريدهم وتدمير مدنهم وقراهم؟ فإذا ما أردنا أن نحكم على الفريقَيْن: (العربيّ) و (الأوروبيّ)، وإلى وقتنا الحاضر، نلاحظ أنّ الرقيق الأسود قد تحوّل بمرور الزمن إلى مواطنين مندمجين في المجتمع الإسلامي، أما مَن تمّ استرقاقهم من قِبل الأوروبيين فقد شُرّدوا وقُتلوا وأُخرجوا من بلادهم، والأعداد الكبيرة الموجودة منهم في أمريكا أكبر دليل على ذلك.

 

.

رابط المصدر:

https://qiraatafrican.com/10937/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M