مر عام على العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، عام شهد انقسامات وتحولات في المواقف الأوروبية من هذه الحرب التي راح ضحيتها أكثر من 41 ألف شهيد وما يقرب من 100 ألف جريح، إلى جانب الدمار غير المسبوق والمعاناة الإنسانية لأكثر من مليوني شخص. فقد قسمت الحرب المؤسسات الأوروبية، وسلطت الضوء على غياب النهج الاستراتيجي الأوروبي الواضح، وعكست التأثر الأوروبي الكبير بالرأي الأمريكي على غرار حرب أوكرانيا، مما قوض القدرة على تحقيق الأهداف الأوروبية الموحدة والمشتركة، وجعل الرأي العام هو المحرك الأكبر لاتخاذ موقف واضح من القضية الفلسطينية.
موقف السياسة الأوروبية من “طوفان الأقصى” بين الدعم والنقد
كانت أوروبا غارقة في عدد من قضياها الداخلية والخارجية، بين الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية والأمنية، وما خلفته من انقسامات حول دعم الحرب من عدمه، هذا بجانب قضايا الهجرة والمناخ وصعود الأحزاب اليمينية المتشددة وغيرها من القضايا حتى حدوث عملية “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر 2023، وهو اليوم الذي جعل أنظار أوروبا تتجه مرغمة نحو الشرق الأوسط، وأصبح هذا الملف على قائمة اهتمامات صناع القرار الأوروبي، وساهم بشكل وثيق في إحداث تغييرات على المستوى السياسي الداخلي لبعض الدول الأوروبية، خاصة تلك التي كان من المقرر لها أن تشهد انتخابات يُحدد على إثرها الشكل القادم للقيادة السياسية.
وكان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مسألة مثيرة للخلاف منذ عقود داخل الأوساط الأوروبية، ولكنه لم يكن محط اهتمام حتى بدأ هجوم حماس على إسرائيل وما تلاه من رد فعل إسرائيلي على قطاع غزة، فقد تسببت الأحداث في صدمة كبيرة أدت إلى ردود فعل “فورية” قدم بعضها الاحتلال في هيئة الضحية، وبرر الرد الإسرائيلي والتضامن معه بذريعة أن “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”، وتبنى ادعاءات قيادة الاحتلال عن أن المقاومة “تتخذ المدنيين دروعًا بشرية”، مع إغفال التذكير بالقانون الدولي أو ضمان سلامة المدنيين الفلسطينيين، الأمر الذي فُسر على أنه تفويض مطلق للرد العسكري الإسرائيلي.
وعلى عكس الحرب الروسية الأوكرانية التي التفّت حولها القارة الأوروبية بموقف موحّد يدين العدوان الروسي على أوكرانيا، إلا أن أوروبا وخلال حرب غزة وحتى الآن عاجزة عن الخروج بموقف موحّد تجاه هذه الحرب، ويظهر ذلك في تباين وجهات النظر بين الدول الأوروبية وغياب دعوات الحل الدبلوماسي، ونجد أن اتجاهات ردود الأفعال السياسية قد انقسمت إلى ثلاثة اتجاهات من الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وفي السلوك التصويتي في الهيئات الدولية وغيرها من المواقف، مع وجود تباين نسبي في المواقف ضمن كل اتجاه.
- الانحياز المطلق لإسرائيل
ومنذ اليوم الأول للحرب، التف عدد من عواصم القرار الأوروبي حول الموقف الإسرائيلي وإدانة حماس، وظلت هذه الدول متمسكة بهذا الموقف، مثل ألمانيا والنمسا والمجر والتشيك وغيرها من الدول الأعضاء التي صوتت لصالح عدم وقف إطلاق النار، ووافقت على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل على الرغم من الاتهامات الخطيرة الموجهة إليها بانتهاك حقوق الإنسان وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
أما على صعيد الاتحاد الأوروبي نفسه، فقد أظهرت الاستجابة الأولية للأحداث انقساماً كبيراً داخل المؤسسة الأوروبية، فقد تسببت زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية الألمانية “أورسولا فون دير لاين” لإسرائيل بعد أسبوع من الحرب وكذلك الإعلان عن مراجعة المساعدات التي يقدمها الاتحاد لفلسطين غضباً واسعاً، إذ واجه الاتحاد بعدها عدداً من الاتهامات بالانحياز وعدم الانسجام مع الدبلوماسية التقليدية التي لطالما اعتمدت نهج التوازن تجاه المسألة الفلسطينية والإسرائيلية. وهو ما تم إصلاحه عبر دعوة “جوزيب بوريل”، مسؤول السياسة الخارجية، للاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف أقل تأييداً لإسرائيل، منتقداً الدعم غير المشروط لإسرائيل، ومعلناً عن موقف الاتحاد الممانع لتهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم.
- إدانة العدوان الإسرائيلي:
وجه عدد من الدول الأوروبية الانتقادات اللاذعة للحكومة الإسرائيلية كإسبانيا وإيرلندا وبلجيكا ومالطا والنرويج وسلوفينيا، وشهد هذا العام اعتراف أربع دول بالدولة الفلسطينية رسميًا بعد أن كان التفكير في هذا الأمر قبل السابع من أكتوبر أمرًا مستبعدًا، وهم أيرلندا وإسبانيا والنرويج وسلوفينيا، في حين أبدت دول أخرى مثل مالطا اعتزامها اتخاذ خطوة مماثلة، وبهذا يصبح عدد الدول الأوروبية المعترفة بفلسطين كدولة مستقلة 12 دولة، وهو ما اعتبر ثغرة في جدار الصد الأوروبي للحقوق الفلسطينية ولو بحدها الأدنى. كما أظهرت أغلب الحكومات الأوروبية دعمًا واضحًا للمحكمة الجنائية الدولية بعد أن طلبت إصدار أوامر باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ووزير دفاعه “يوآف غالانت”.
- عدم الانحياز أو تغير الموقف:
هناك دول تجنبت النقد الواضح دون أن تتصدر مشهد الانحياز، أو غلب عليها التذبذب في بعض المواقف، انطلاقًا من الاعتراف بعدم تناسب الرد الإسرائيلي مع طبيعة هجوم حماس، وخوفًا من اتساع رقعة التوترات والخوف من تأثيرها اقتصاديًا وسياسيًا على أوروبا، كما في حالة فرنسا التي انتهجت دبلوماسية جديدة، وعدلت موقفها نسبيًا في الشهر الثاني من الحرب ودعت إلى وقف إطلاق النار، ليتبع ذلك بأشهر صعود اليسار إلى المشهد الفرنسي مستفيدًا من الموجة الشعبية الهائلة المناصرة للقضية الفلسطينية. وكذلك بريطانيا، التي أجبرت الحرب حكومة ريشي سوناك على تبني مواقف أشعلت الرأي العام ضدها، وهو الأمر الذي تُرجم إلى أرض الواقع لاحقًا بإقالة وزيرة الداخلية البريطانية، متبوعًا بسقوط الحكومة بعد أقل من عامين من انتخابها وصعود حزب العمال المعارض الذي يتخذ موقفًا مؤيدًا لإنهاء الحرب على غزة.
وبالتحليل للمواقف الثلاثة، نجد أن الانقسام الأوروبي من العدوان الإسرائيلي على غزة قد أضعف الموقف الأوروبي الموحد تجاه القضية الفلسطينية منذ تسعينيات القرن الماضي، والذي يتمثل في الالتزام – ولو ظاهريًا- بحل الدولتين والعودة إلى حدود عام 1967، وإدانة المستوطنات الإسرائيلية، بالرغم من عدم تحرك الاتحاد الأوروبي حيال توسيع الحكومة الإسرائيلية للمستوطنات اليهودية غير القانونية بموجب القانون الدولي في الضفة الغربية.
ولعل أسباب الانقسام قد تكون واضحة بالنظر إلى العلاقات الأوروبية الإسرائيلية خلال الأعوام الأخيرة، فقد توطدت علاقات بعض البلدان مع تل أبيب إما بدافع من التاريخ، أو بسبب الروابط الاقتصادية والأعمال المشتركة، هذا بجانب تقارب القادة السياسيين الصاعدين من اليمين المتشدد في أوروبا مع القيادة الإسرائيلية اليمينية الحالية، بالإضافة إلى تيقن بعض الدول الأوروبية من حقيقة واحدة مفادها أنه لا يوجد أفق سياسي واسع لإنهاء المظالم السياسية الفلسطينية الممتدة لعقود في ظل الدعم المستمر لأكبر الدول في العالم لإسرائيل.
ولكن رغم ذلك، كانت هناك محاولات أوروبية إيجابية للتحرك خلال عام من الحرب، ويمكن رؤية ذلك من خلال موقف “جوزيب بوريل”، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، الذي قام بجولات عدة في الشرق الأوسط للقاء مسؤولين فلسطينيين وإسرائيليين، وكذلك المسؤولين في الدول المجاورة للصراع، في محاولة منه للتوصل إلى حل سياسي يمنع حدوث تصعيد من شأنه أن يجر المنطقة إلى حرب إقليمية، هذا بجانب المساعدات الإنسانية التي أعلن عنها الاتحاد الأوروبي لسكان القطاع، والتي قدرت بنحو ما يزيد عن 290 مليون يورو كمساعدات إنسانية، مع التركيز على القطاعات المهمة مثل الغذاء والصحة والمياه والصرف الصحي والحماية، مع الأخذ في الاعتبار أن الاتحاد الأوروبي ودوله هم المانحون الأكبر لفلسطين.
“طوفان الأقصى” على الصعيد الشعبي
كما أحدثت أحداث السابع من أكتوبر انقسامات على صعيد السياسات الأوروبية، أدت هذه الحرب أيضًا إلى نشوب انقسامات على الصعيد الشعبي أججت التوترات داخل الكثير من المجتمعات، خاصة الأوروبية، كما ساهمت في تعميق الفجوة الكبيرة بين الشعب وقيادته السياسية، الأمر الذي فاقم ظواهر عدة مثل صعود تيارات اليمين المتطرف، والاحتجاج ضد سياسات واشنطن العالمية، وتنامي المشاعر المعادية للمهاجرين والمسلمين، وتزايد معاداة السامية، والتهديد بزيادة الهجمات الإرهابية، وفضح ازدواجية المعايير الدولية في التعامل مع القضايا المختلفة.
وقد أدت التحركات الشعبية في عدد من العواصم الأوروبية بفعل تصعيد السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية إلى ضغط كبير على الحكومات الأوروبية أدى إلى تغييرات عدة على مستوى المواقف، فتحول الأمر من التأييد المطلق لإسرائيل كما في بريطانيا وفرنسا التي تضم أكبر جاليتين مسلمة ويهودية في أوروبا إلى المطالبة بوقف إطلاق النار والعودة إلى الحلول السياسية لحل أزمة القطاع، ولكن في ظل استمرار انقسام أوروبا حول الأزمة، لا يزال هناك إخفاق واضح في الضغط على تل أبيب لإنهاء هجومها الغاشم على القطاع، وباتت كل الخطوات فردية ومحدودة التأثير.
فبريطانيا على سبيل المثال كانت من أبرز البلدان التي شهدت تحولاً هائلاً في المواقف ضد إسرائيل، ففي بداية السابع من أكتوبر، كان حزب المحافظين الحاكم بقيادة “ريشي سوناك” أول الداعمين لإسرائيل بجانب الولايات المتحدة، وكذلك فعلت المعارضة العمالية بقيادة “كير ستارمر” حتى صوتت الجاليات المسلمة والمؤيدين لوقف الحرب ضده في الانتخابات العامة الأخيرة، الأمر الذي جعل موقف الحزب يتبدل إلى رفض استمرار الحرب. وبعد فوز الحزب بالانتخابات، شاهدنا قرار بريطاني بتقليص صادرات الأسلحة إلى تل أبيب، كما سحبت اعتراضها على مذكرات الاعتقال التي تعدها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير دفاعه بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، وقد يستمر الضغط على حكومة ستارمر حتى يتم وقف التعاون تمامًا مع إسرائيل والاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما سيكون له أثر إيجابي بسبب الدور البريطاني التاريخي تجاه القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع منذ “وعد بلفور”.
وبعد عام من الحرب، يمكن القول إن “طوفان الأقصى” قد أكد أن القضية الفلسطينية التي بدت وكأنها دخلت في طي النسيان، قد عادت مجددًا إلى واجهة المشهد الدولي، وفضحت ازدواجية المعايير الأوروبية التي تنادي بالديمقراطية والعدالة، وكسرت قاعدة الإجماع بشأن إسرائيل، كما أثبتت أنها لا تزال قادرة على التأثير وتحريك الرأي العام في جميع أنحاء العالم.
ويبدو أن مصالح الاتحاد الأوروبي السياسية في الشرق الأوسط باتت على المحك، فبعد أن كانت تتمحور حول المصالح الاقتصادية أو منع تدفق الهجرة إليها، ظهر إلى السطح ما يُعرف بالدور الأوروبي في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وما يتعلق به من توفير الأمن في المنطقة وتجنب التصعيد الإقليمي. وعليه، نجد أن السياسة الأوروبية أصبح يتعيّن عليها إعادة ترتيب قدراتها ومسؤولياتها من أجل التوصل إلى حل عادل ومستدام لهذا الصراع في أسرع وقت، باعتبارها “قوة ناعمة” مؤثرة في مجال حل الصراعات، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تجنب المعايير المزدوجة الصارخة فيما يتعلق بالأعراف والقوانين الدولية، حتى يتم استعادة الثقة بها مجدداً بما يُمكّنها من صياغة التطورات المستقبلية في المنطقة.