في ظل تصاعد الأزمة الروسية- الأوكرانية، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى في أوروبا احتواء الأزمة، سواء عبر المفاوضات المباشرة مع القيادة الروسية، أو التهديد بفرض عقوبات بالغة القسوة في حالة غزو أوكرانيا. ولكن كل هذه المحاولات لم تنجح في نزع فتيل الأزمة، بل ازداد الأمر تفاقمًا، وقامت روسيا في 24 فبراير بشن عملية عسكرية في أوكرانيا. لذلك، علينا العودة بالزمن إلى أغسطس 2008، حيث الغزو الروسي للأراضي الجورجية، وأبريل 2014 حيث السيطرة على شبه جزيرة القرم، وهل يتكرر نفس المشهد في الحرب الروسية- الأوكرانية في 2022؟
الحرب الروسية – الجورجية
منذ تولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحكم، عمل على إعادة بناء مقدرات روسيا العسكرية، وفي 2008 قام الرئيس الجورجي “سكاشفيلى” بشن هجوم عسكري على أوسيتيا الجنوبية أثناء افتتاح مونديال الألعاب الأولمبية في الصين، إلا أن الرد الروسي جاء سريعًا؛ فقامت القوات الروسية في اليوم التالي بالدخول إلى منطقة النزاع، بالإضافة إلى استخدامها لأول مرة الحرب الإلكترونية من خلال مهاجمة العديد من المواقع من أهمها وزارة الخارجية والبنك الوطني والبرلمان. ثم قامت روسيا باتهام جورجيا بالعدوان على أوسيتيا الجنوبية، وساندت إقليم أبخازيا الذي سعى إلى الحصول على استقلاله من جورجيا خلال تلك الحرب، لتقوم روسيا فيما بعد بالاعتراف رسميًا باستقلال الإقليمين والتعامل معهما كدول ذات سيادة.
وأعلن الرئيس الروسي آنذاك “ديمتري ميدفيديف” بأن الحرب جاءت “لحماية حياة كرامة المواطنين الروس”، لكن الهدف الحقيقي من الحرب كان إرسال رسالة مباشرة إلى الغرب بأن روسيا تعود وبقوة على الساحة الدولية، وكذلك معاقبة جورجيا نتيجة ولائه لدول الغرب من خلال تدمير جزء كبير من ترسانته التي كونها بتمويل من الغرب في إطار تعاونه العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى أنه كان ردًا على ما سعت إليه جورجيا من الحصول على عضوية في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والذي يمثل تهديدًا للأمن القومي الروسي.
تدخل عسكري في جزيرة القرم “لحماية المواطنين”
في 2014، أدركت روسيا أن هناك عزمًا من جانب أوكرانيا على التقارب من أوروبا، الأمر الذي سيشكل تهديدًا للوضع الاقتصادي والعسكري والأمني على روسيا، لذلك قرر بوتين التدخل سريعًا بشكل عسكري بقوة محدودة لكنها مؤثرة واستطاع من خلالها ضم الجزيرة إلى الأراضي الروسية.
وكان الهدف المباشر هو فصل جزيرة القرم عن أوكرانيا، مستندًا كالعادة إلى أن أغلبية السكان من أصل روسي. هذا النجاح الذي حققه بوتين في ضم الجزيرة دون إراقة دماء كان بداية لتكرار نفس السيناريو مرة أخرى في أوكرانيا، وقد كان من المتوقع منذ سنوات أن تحدث تلك الحرب.
الموقف الغربي من الحروب الروسية
خلال الحرب الروسية – الجورجية والتي استمرت لمدة خمسة أيام، نجد أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لم يتخذوا موقفًا تجاه تلك الحرب، فنجد أن إدارة الرئيس بوش الابن لم تستطع مد يد العون. وكذلك لم تستطع إدارة أوباما فعل الكثير في شبه جزيرة القرم، سوى الإعلان عن رفض الاعتراف بانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا. وذلك لأن الولايات المتحدة كانت متيقنة من أن دخولها في أي صراع مباشر سيجعلها في مواجهة مباشرة مع روسيا، لذلك اقتصر دورها على مجرد الدعم السياسي، وهو ما لم يتوقعه الرئيس الجورجي الذي كان يظن أن واشنطن ستقف بجواره، لذلك صرح آنذاك بأنه في احتياج إلى أكثر من مجرد دعم لفظي.
أما حلف الناتو والذي توسع في كافة دول حلف وارسو ودول الاتحاد السوفيتي السابقة، بما في ذلك رومانيا وبلغاريا وبولندا ودول البلطيق، ولم يعد هناك فاصل بين روسيا ودول الناتو سوى أوكرانيا وبيلاروسيا؛ توقعت جورجيا في عام 2008 أنه سيتصدى للهجوم الروسي، إلا أن الواقع أثبت عدم إقدامه على تلك الخطوة، وكان موقف الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بما في ذلك تركيا بأنه لا يملك أي صلاحيات للتدخل للدفاع عن دولة لست عضوًا بالحلف.
وظل حلف الناتو يراقب الموقف من بعيد، خاصة وأنه يعلم أن أحد أسباب اندلاع تلك الحرب هو رغبة جورجيا في الانضمام إلى الحلف، أما الاتحاد الأوروبي والذي كان يترأسه حينها الرئيس الفرنسي حاول التوصل إلى وقف إطلاق النار.
وبالنظر إلى ما سبق، لم يتأثر موقف روسيا كثيرًا في المجتمع الدولي بعد الحرب، نجد أن كل المواقف الأمريكية والغربية اكتفت بالإدانة فقط دون فرض أي عقوبات على روسيا. وعندما قررت واشنطن فرض عقوبات تصدت لها بريطانيا بعدم استبعاد أو فرض أي عقوبات على روسيا. إلا أننا على الصعيد الروسي نجد أن موسكو قررت وقف التعامل مع حلف الناتو، ووقف نشاطها في لجنة “روسيا- ناتو” والذي تعد خطوة إرغاميه من روسيا للناتو بعدم ضم جورجيا.
أما فيما يتعلق بجزيرة القرم عام 2014، نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية أدركت تمامًا أن روسيا بدأت قوتها تتعاظم مرة أخرى كقوة كبيرة على الساحة الدولية، وأن ميزان القوة العسكرية قد تغير؛ لذلك قررت هذه المرة فرض عقوبات على روسيا. ولكن يمكن القول إنها عقوبات رمزية لم تؤثر بشكل كامل على تغيير خطة موسكو؛ نظرًا لاعتمادهم على الغاز الروسي وكذلك على استثمارات روسيا في أوروبا، وبالتالي فإن تطبيق عقوبات قاسية قد يضر بمصالح الغرب بشكل كبير.
عقوبات اقتصادية على روسيا
منذ بداية الأزمة بين روسيا وأوكرانيا وتلويح بوتين بشن هجوم عسكري، قررت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب فرض عقوبات على روسيا، بدأت بمعاقبة عدد من البنوك الروسية المرتبطة بالجيش وصفقات السلاح، وعقوبات على عدد من رجال الأعمال، وفرض قيود على الصفقات الأمريكية المتعلقة بالديون الروسية. إضافة إلى وقف استكمال اجراءات بدء تشغيل خط الغاز “نورد ستريم 2” لنقل الغاز إلى ألمانيا والذي لم يعمل بعد، وبالتالي فإن تلك العقوبات هي سلاح ذو حدين مثلما تضر بمصالح روسيا تضر بمصالح الغرب.
ثم أضيفت مجموعة أخرى من العقوبات، تتمثل في حظر تصدير التكنولوجيا المتقدمة لعدد من القطاعات الصناعية الاستراتيجية الروسية، والحيلولة دون استفادة البنوك الروسية من أسواق المال الغربية، وتجميد الأصول المادية والحسابات البنكية الروسية في البنوك الغربية، واتفق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلفاؤهما يوم 27 فبراير على عزل عدد من البنوك الروسية عن نظام الدفع الدولي الرئيسي سويفت.
لكن تم استثناء الغاز والنفط من هذه العقوبات على الرغم من أهميتهم للاقتصاد الروسي، وهو ما يرجع إلى أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على روسيا في نحو 40% من إمدادات الغاز الطبيعي، وذلك على الرغم من أن بعض الدول الأوروبية تعتمد أكثر من غيرها، فأي عقوبات على الطاقة الروسية ستؤدى إلى ارتفاع الأسعار عالميًا، لكن من المتوقع أن تلك العقوبات لن يكون تأثيرها شديدًا لدرجة تغيير التوجه السياسي لبوتين.
وبالنظر إلى ما سبق، يتضح أنه لم يتأثر موقف روسيا كثيرًا في المجتمع الدولي بعد الهجوم العسكري سواء 2008 أو 2014، ونجد أن كل المواقف سواء من الولايات المتحدة الأمريكية أو الغرب وحلف الناتو قد اكتفت بالإدانة أو فرض عقوبات رمزية، وهو ما يحتمل تكراره في الأزمة الراهنة من خلال تطبيق عقوبات قد تضر بالاقتصاد الروسي بشكل هامشي، نظرًا إلى توجه الغرب للحفاظ على مصالحه الاقتصادية. ويمكن القول إن الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية دون أي تدخل عسكري هو شعار الغرب في كل الهجمات الروسية منذ 2008.
.
رابط المصدر: