عليان محمود عليان
مدخل:
منذ أواخر القرن التاسع عشر، يواجه الوطن العربي من خليجه العربي إلى المحيط الأطلسي العديد من التحديات الداخلية والخارجية، حيث تعرّض ـ ولا يزال ـ لهجمات استعمارية ـ صهيونية بكل صورها وأدواتها الإجرامية، بهدف واحدٍ رئيسي يتمثل بفرض التبعية والوصاية، وتقطيع أواصر الترابط الأزلي بين مكونات أبناء هذا الوطن؛ وفي سبيل ذلك سعت ـ وتسعى ـ القوى المعادية لهذه الأمة إلى تجريدها من مختلف وسائل البقاء والتطور والنهوض. وحتى تتمكن القوى الاستعمارية ـ الصهيونية من تحقيق أغراضها العدوانية، وضعت استراتيجيات للسيطرة على مقدّرات هذه الأمة وخيراتها، التي يبرز من بين أهمها وأخطرها مواد استراتيجية مهمة جداً، كالنفط والمياه.
وفي هذا الصدد، فإن أكبر المخاطر التي تواجه المياه العربية، ما يسعى إليه الكيان الصهيوني من سيطرة عليها بمختلف الوسائل. وكان رواد المشروع الصهيوني متيقظين ـ منذ البداية ـ بالنسبة إلى أهمية المياه في نجاح مشروعهم الاستيطاني في فلسطين واستمراره، ورفعوا شعارهم المعروف «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، وهو ما يؤكد أن البُعد المائي كان حاضراً في تكوين الأبعاد الجغرافية للمشروع بوصفه البُعد الذي يتوقف نجاح المشروع واستمراره وازدهاره عليه. لذلك وضعت الحركة الصهيونية دائماً التحكم بمصادر المياه في أولوياتها، إلى درجة عسكرة المياه. وبعدما نجح اليهود في تحقق هدفهم الأول (إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين)، شرعوا في السعي لتحقيق هدفهم الثاني: تعيين وترسيم حدود سياسية وقانونية لدولتهم تحوي ضمنها المناطق الغنية بموارد المياه.
إن التحديات المائية في الوطن العربي آخذة في التعمق والتأثير السلبي الخطير في مستقبله بالأبعاد كافة، السياسية والاقتصادية والأمنية، وهي أهم الأدوات التي يسعى الطامحون إلى السيطرة عليها لفرض التبعية والوصاية عليه، وبخاصة أن الكثير من مصادر الوطن العربي المائية تأتي من خارج حدوده الجغرافية والسياسية، كما هي الحال بالنسبة إلى مياه النيل والفرات. حتى إن المياه التي تنبع من داخل الوطن العربي، لم تخلُ من مخاطر السيطرة عليها.
إلا أن ما يزيد هذه الأزمة خطورة هو أن قرابة نصف الموارد المائية العربية السطحية المتجددة تأتي من مصادر مائية مشتركة مع الدول المجاورة غير العربية (كالنيل ودجلة والفرات)، كما أن هناك محاولات من قبل هذه الدول للاستئثار بأكبر كمية ممكنة من المصادر المائية المشتركة معها في أحواض هذه الأنهار. أضف إلى ذلك أن الكثير من القوى المحيطة بالوطن العربي، تعمل بشكل صريح أو ضمني للتنسيق والعمل مع الكيان الصهيوني، ولم يتوقف الأمر على القوى المحيطة فحسب، بل بات أكثر حرجاً مع بوادر التعاون العربي ـ الصهيوني في إقامة مشاريع مائية مشتركة، حتى مع من يتصدّرون العمل السياسي في فلسطين المحتلة غافلين عن أنها كلها تصب في مصلحة العدو الصهيوني.
إن مسألة الأمن المائي لا بد من أن توضع في قمة سلّم مصالح جميع البلدان العربية، لأن الأعداء ومسانديهم كثُر. وربما لا نبالغ إذا قلنا إن الأمن المائي العربي، في ضوء التطورات السياسية الدولية وانعكاساتها على وطننا العربي، تفوّق من حيث الأهمية على الأمن العسكري. ولكن ـ للأسف ـ رغم الإدراك المتنامي لخطورة قضية المياه في المنطقة وارتباطها الوثيق بقضية الأمن القومي العربي، إلا أن هذا الإدراك لم تتم ترجمته حتى الآن إلى سياسة عربية موحدة تجاه قضية المياه، وغياب استراتيجية أمنية عربية جدية فاعلة لحماية هذه الثروة القومية، سوف يفاقم المشكلة، ويعمّق من أبعادها الخطيرة.
هناك عدد من العوامل والتفاعلات الداخلية والخارجية أدت إلى تعاظم حدة مسألة الأمن المائي، ولعل ما مرت به المنطقة منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام، وما يحلو للبعض أن يطلق عليه «الربيع العربي»، يعكس مدى رغبة وسعي الدول الكبرى الاستعمارية للسيطرة على مقدرات الوطن العربي من خلال الاستقطاب السياسي للقوى المتصارعة سياسياً وعسكرياً. من هنا فإن الأمن المائي لا يقل أهمية عمّا سواه، بل يمكن القول إن الأمن المائي يفوق كل ما سواه؛ نظراً إلى أن إمكان تأمين المزيد من الحاجات الغذائية بسبل زراعية وصناعية مختلفة لشعوبنا محدودة لأن إمكانية زيادة المصادر المائية العذبة محدودة، كما أنه لا يوجد بديل من الماء، في الوقت الذي تجد فيه الطاقة ـ على سبيل المثال ـ عدة بدائل.
لا يمكن فصل مسألة الأمن المائي العربي عن مسألة أهمية ودور الموقع الاستراتيجي للوطن العربي، وما يواجهه من تحديات متعددة الجوانب، وفي مقدمها مشكلة الحفاظ على موارده المائية، لِما لها من تأثير خطير في خطط التنمية على الآماد القصيرة أو المتوسطة أو البعيدة. وما يجعل قضية الأمن المائي العربي أكثر خطورة، أن أغلب البلدان العربية لا تملك السيطرة الكاملة على منابع مياهها، إذ إن إثيوبيا (الحبشة) وتركيا وغينيا وإيران والسنغال وكينيا وأوغندا وربما زائير أيضاً، هي بلدان تتحكم بأغلب الموارد والمصادر المائية في المنطقة العربية.
ويمكن القول إن المياه في القرن الحادي والعشرين أصبحت واحدة من أكثر أدوات الصراع في العالم بشكل عام، وفي المنطقة العربية بشكل خاص، لأن الدول التي تمتلك مصادر المياه لا تخفي بطريقة أو بأخرى ميولها نحو فرض التبعية والأتاوى على البلدان العربية التي لديها مصابّ الأنهار، دون مراعاة للاتفاقيات الدولية التي تنظّم العلاقة بين الدول صاحبة منبع الأنهار والدول التي تمر عبرها الأنهار إلى نقطة المصبّ.
وفي خضم التطورات المتلاحقة، وبخاصة التغيرات السياسية المضطربة والغامضة المعالم في المنطقة العربية، وبخاصة في ما أطلق عليه مرحلة الربيع العربي، يحاول الغرب أن يعيد سيطرته على المنطقة العربية تحت مبررات كثيرة، ويسعى لإصدار نسخة جديدة أكثر سوءاً من اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916، ووعد بلفور الصهيوني عام 1917.
ستنتناول في هذا البحث المخاطر المحدقة بالموارد المائية للوطن العربي، من خلال مناقشة مختلف الجوانب ولا سيّما الجوانب القانونية منها.
أولاً: القانون الدولي وموقفه من المسألة المائية
تعاملت الاتفاقيات الدولية مع مشكلة المياه الدولية، كما عالجت بعض المعاهدات على مدار السنين قضايا من بينها الحصص المائية وتنظيم الملاحة وصيد الأسماك، وبناء المنشآت العامة مثل السدود، وتم تعديل بعض المعاهدات ـ ولا سيّما منذ مطلع السبعينيات ـ لتعكس القلق المتزايد حول مختلف المشكلات المائية الآخذة في التزايد والمخاطر.
تعامل القانون الدولي مع قضايا الأنهار، وبخاصة الأنهار العابرة للدول، من الناحية القانونية. ومع أواخر القرن التاسع عشر بدأت الاهتمامات في مفهوم النهر الدولي، من أجل الحدّ من الصراعات الدولية حول استخدام الأنهار بين الدول ذات الشأن.
خلاصة القول إن مفهوم المجرى المائي الدولي وفق التطورات المعاصرة يشمل بإطاره الواسع ـ إضافة إلى الأنهار ـ مساحات المياه العذبة الأخرى كالبحيرات والقنوات والخزانات والمياه الجوفية، أي أن النهر الدولي هو جزء من المجرى المائي الدولي. وفي هذا السياق يحدد القانون الدولي عدة أنواع من الأنهار الدولية، منها:
1 ـ أنهار وطنية ذات أهمية دولية: وتنبع أهمية هذا النوع من مدى صلاحيته للملاحة بأكمله، وبخاصة إذا كان النهر ينبع عند حدود دولة مجاورة ويصب في بحر عام لا اتصال لهذه الدولة به.
2 ـ الأنهار الحدودية أو المتاخمة: وهذه الأنهار تستعمل بين دولتين أو أكثر، وتشكل حدوداً (متشاطئة) دولية لها مثل نهر شط العرب بين العراق وإيران. وغالباً ما تتسبب أنهار كهذه في مشاكل تتعلق بقياس حدود الدولة النهرية، وما يرتبط بها من نواحٍ سياسية وعسكرية.
3 ـ الأنهار المتتابعة أو المتعاقبة: ففي هذه الحالة تكون الدول النهرية هنا دولة منبع أو دولة مصب للنهر، أو دولة المجرى الأوسط للنهر مثل نهر النيل الذي يجري في أقاليم عشر دول أفريقية.
التزمت البلدان العربية بالاتفاقات الدولية التي تنظم علاقاتها مع الدول التي تمتلك منابع الأنهار الدولية، لكن العديد من الدول المالكة لمنابع الأنهار لم تلتزم بالاتفاقات، وكان لحالة عدم الاستقرار السياسي في البلدان العربية دور هام في عدم اهتمام الدول المالكة للمنابع النهرية بمصالح البلدان العربية. وقد شجع على هذا التوجه التدخل الصهيوني وتعاون الدول المالكة للمنابع معه، حيث لا يخفي هذا الكيان عداءه للعرب، منذ زمن طويل جداً. ويرى قادة الكيان الصهيوني أن أخطر المعارك ستكون مع العرب حول المياه. وكما أشرنا، فإن هذا الكيان لا يلتزم بأي اتفاقيات ومعاهدات، ولا يتوانى عن ممارسة الضغوط، حيث أقام تعاوناً مع إثيوبيا للضغط على مصر، بعدة أساليب، منها تقديم مساعدات مالية لإقامة السدود على نهر النيل (سد الألفية)، والتوسع في علاقاته مع جنوب السودان ولا سيّما بعد انفصاله عن السودان في شهر تموز/يوليو عام 2011، مع عرضٍ مقابلٍ لذلك ألا وهو شراء مياه النيل من جنوب السودان.
وقد أدركت البلدان العربية المخاطر التي قد تواجه مياهها، لذا نجد الكثير منها يلجأ إلى المؤسسات الدولية القانونية أو ذات الاختصاص. وتعزز ذلك من خلال المبادرات العربية، ومن بينها مؤتمر عام 2000 الذي عقد بدعوة من مركز الدراسات العربي ـ الأوروبي بباريس، وجامعة الدول العربية.
توصل معهد القانون الدولي في عام 1991 إلى مجموعة من القواعد العامة بشأن استخدام مياه الأنهار الدولية، حيث راعت هذه القواعد معيار العدالة عند توزيع المياه بين الدول المشتركة في الأنهار. وتعني العدالة هنا حصول الدول المشتركة في نهر معيّن على حصص متساوية من مياه النهر، وهذا مرتبط بطبيعة النهر، وحجم المنطقة التي يمر بها في أرض الدولة، والظروف المناخية في حوض النهر ككل وفي كل دولة على حدة، وتاريخ استغلال مياه النهر وحجم السكان، وتكاليف الحصول على المياه من مصادر بديلة، ومدى توافر هذه البدائل.
ولم يتوقف الأمر على المعهد الدولي، بل نجد مدى اهتمام هيئات ولجان دولية بقضية المياه، إذ اعتبرت لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاجتماعية والاقتصادية في اجتماعها في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2002، أن الحق في المياه يتضمن حماية الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، بما فيها المنشآت المائية والإمدادات، وأعمال الري وحماية البيئة الطبيعية من الأضرار.
تأسست دراسة القانون الدولي بشكل عام على ثلاثة مبادئ أساسية، هي: مبدأ العدالة والاستعمال المعقول، ومبدأ عدم الإضرار بالغير، ومبدأ التعاون الدولي المائي لإنجاح المبدأين السابقين، كاتجاه عام نحو تحقيق التنمية المستدامة. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أنه إذا كان من حق الدول النهرية قانوناً أن تقيم سدوداً على الجزء المار بإقليمها، فإن ثمة قيدين جوهريين يردّان على هذا الحق هما: عدم التسبب في إلحاق الضرر بباقي دول النهر، والالتزام بإجراءات الإخطار المسبق، المتمثلة بوجوب قيامها بإرسال كل الدراسات والبيانات الفنية المتعلقة بالسد إلى جميع دول المجرى المحتمل تضررها من إنشائه، مع التزامها قانوناً بعدم البدء في الإنشاء، إلى أن تتمكن هذه الدول من دراسة وتقييم الآثار المحتملة في فترة معقولة.
لكن إذا كانت المنظمات والهيئات واللجان الدولية تبدي اهتماماً واضحاً في مشكلة المياه، فما هو دور المنظمات العربية في هذا الشأن؟
بالعودة إلى الستينيات من القرن العشرين نجد أن مشكلة المياه العربية فرضت حالتها بشكل قوي على القيادات العربية، وتحديداً الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي دعا إلى عقد قمة عربية عام 1964 لمواجهة الأطماع الصهيونية في المياه العربية، وبخاصة مشروع تحويل نهر الأردن لمصلحة الكيان الصهيوني، حيث نتج من ذلك قرارات هامة، لم يتم تنفيذها ومتابعتها بشكل جدي حتى وصلت الأوضاع المائية العربية إلى ما وصلت إليه من سوءٍ وضياع، إذ لم تقْدم الجامعة العربية على تبني مشروع ملزم لجميع الأقطار العربية، وبخاصة بعد هزيمة عام 1967، ورحيل عبد الناصر، وما تبع ذلك من استسلام لأمريكا والانفتاح على الكيان الصهيوني، بدءاً بمعاهدة كامب دايفيد (1978)، مروراً باتفاقية أوسلو (1993)، إلى وادي عربة عام 1994 واتفاقية إقامة قناة البحرين في أواخر عام 2013، بين الأردن والسلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني. وهكذا فإن الهيئات العربية ومن خلفها الدول العربية، ما زالت غير قادرة على تبني استراتيجية مؤثرة في التعامل مع القضايا المائية، حتى إن العديد من المنظمات الإقليمية لم تستطع إيجاد حل معقول وعادل للمشكلات المائية العربية، والسبب ـ في رأينا ـ أن أصحاب الشأن المباشرين لم يكرسوا جهوداً تتناسب وحجم المخاطر. وقد ازدادت الخطورة أكثر بسبب النزاعات بين البلدان العربية نفسها، حول المشكلات المائية، وبالتالي ازدادت أطماع الدول التي تنبع منها الأنهار التي تجري لمئات بل آلاف الكيلومترات في الوطن العربي.
ثانياً: المشكلات المائية بين سورية والعراق من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى
لا يمكن فصل الأطماع السياسية وجذورها التاريخية، عندما نناقش القضايا المائية بين عدد من الدول العربية من جهة، وبين الدول التي تحيط بالإقليم العربي من جهة أخرى، إذ نجد دولة مثل تركيا تسعى من خلال إقامة المشاريع والسدود المائية، وبشكل خاص مشروع جنوب شرق الأناضول (الغاب)، إلى تحقيق أهداف سياسية إضافة إلى أهداف اقتصادية، وبخاصة في علاقاتها مع سورية والعراق. أصبحت الدوافع السياسية التركية وراء مثل تلك المشاريع واضحة في ضوء التطورات السياسية التي تعيشها هذه البلدان العربية (سورية والعراق)، إذ تسعى تركيا ـ إذا تمكنت ـ إلى تغيير خطير في خريطة الجغرافيا السياسة في المنطقة، من أجل بناء مكانة إقليمية متميزة من خلال الربط المائي الإقليمي، واستخدام الموارد المائية كورقة ضاغطة على كل من سورية والعراق، بواسطة التحكم بتصاريف نهر الفرات، فنجد أن تركيا تعارض بشدة أي اتفاق مائي متعدد الأطراف. ويتمثل أخطر الأهداف السياسية المائية التركية في المنطقة بإرغام العرب على قبول الكيان الصهيوني والتعاون معه بصورة دائمة من خلال ربط قضية مياهها بقضية السلام بالمنطقة العربية، وبخاصة بعد التقارب التركي ـ «الإسرائيلي» في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية كافة.
ومع انتهاء تركيا من مشروعها الضخم على نهري الفرات ودجلة، أصبح بإمكانها أن تتحكم بتدفق مياه الفرات، وامتلكت سلاحاً تستطيع أن تشهره بوجه العراق وسورية إذا ظهر أي خلاف في الرأي حول أي مشكلة من المشكلات الثنائية أو الثلاثية، وخصوصاً بعدما أفصح الأتراك، من أجل استمرار تدفق مياه الفرات إلى سورية، عن ثلاثة شروط:
أولاً: إقرار سوري بالتنازل عن لواء الإسكندرون.
ثانياً: عدم السماح للعناصر الكردية ذات الأهداف القومية الكردية بالتحرك، وضربها داخل سورية.
ثالثاً: عقد اتفاقية للمياه تشمل مياه العاصي بوصفه نهراً دولياً، ويمر في دولة ويصب في أخرى.
كانت الأزمة المائية بين تركيا وسورية ـ وما زالت ـ تؤجج الصراع في المنطقة، وبخاصة بعد التطورات التي تشهدها سورية منذ ثلاث سنوات. وفي عام 1990 بلغت الأزمة بينهما ذروتها عندما أقفلت تركيا نهر الفرات بالكامل، وفي العام 1995 اتفقت مع مجموعة شركات أوروبية و44 مصرفاً لتمويل سد «بيرجيك» على نهر الفرات.
تتميز الممارسات التي تقوم بها الحكومة التركية بعدم الإذعان للتعهدات والمعاهدات الدولية ولا سيّما في ما يتعلق بالمسائل المائية، وبرفض التوقيع على الاتفاقية الدولية حول قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، رغم اعتمادها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذا يعني أن الحل وفقاً للنظرة التركية، لا بد من أن يكون سياسياً، حيث تستغل التطورات السياسية العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص، ولا تخفي رغبتها في التمدد والتوسع تحت العديد من المظلات، ولكن الهدف الأعلى سياسي.
وإذا كانت هذه هي بعض الأمثلة على التوجهات السياسية المائية التركية في علاقاتها مع سورية، فإن الوضع مع العراق ليس أفضل حالاً، فقد لعبت تركيا على نغمة الطائفية، آملة أن يكون أمامها فرصة لتعويض ما فقدته في مجالات ومناطق دولية أخرى، وعبر التمدُّد في العراق، ولكن الرياح ـ على ما يبدو ـ لم تجرِ كما تشتهي السفن. وفي أيار/مايو 2011 رفض العراق توقيع اتفاقية اقتصادية مع تركيا تضمن لها حصة مائية محددة. والحقيقة أن الخلافات بين تركيا والعراق ليست وليدة مرحلة معينة أو محصورة بمسألة بعينها، وقد تمثلت جوانب الخلافات في مسألة المياه بين البلدين بأبعاد مختلفة، وفي مقدمها الأبعاد الفنية، ومن بينها:
أولاً، عدم استجابة تركيا لنداءات العراق المتكررة بشأن زيادة حصته من مياه الفرات، وعوض ذلك طالبته بجدولة مياه نهري دجلة والفرات في حساب الحصص وهي الطريقة ذاتها التي اعتمدتها مع سورية.
ثانياً، استغل سكان وادي الرافدين الخاصية الطبيعية الجغرافية لنهري دجلة والفرات، وهي ارتفاع وادي الفرات عن وادي دجلة تارة، وعلى العكس تارة أخرى. فنهر دجلة في قسمه العلوي، يجري بمناسيب تعلو على مجرى نهر الفرات، وحين يصل إلى بغداد ينخفض عن نهر الفرات بسبعة أمتار تقريباً، ثم إذا سرنا جنوباً يعود فيصبح بالقرب من الكوت أعلى من نهر الفرات من جديد. وهنا ينحدر شط الغراف الذي يأخذ من الضفة اليمنى لنهر دجلة وينتهي إلى نهر الفرات عند الناصرية، وهذه الخصائص تساعد على تأمين الري من النهر الواحد والصرف إلى النهر الآخر بالتناوب بحيث يمكن شق جداول عديدة بين النهرين تمتد بصورة موازية لجريانها بالنسبة إلى النهرين، وهذا يتوقف على المنطقة التي تقع فيها هذه الجداول.
ثالثاً، يرفض العراق المطالبة التركية ويعتبرها تدخلاً في سيادته الإقليمية، وأن مشاريع الري داخل العراق شأن داخلي، وهذا ينسجم مع ما أقرّته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة عام 1994. وفي هذا الخصوص فإن العراق يدفع ثمن عدم التزام الطرف الثاني (تركيا) بما اتُّفق عليه وفقاً للمواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمياه، حيث وقع وسورية مع تركيا كثيراً من الاتفاقيات عبر مراحل زمنية وفقاً للمعاهدات الدولية، بدءاً من عام 1923، مروراً بمعاهدة الصداقة بين البلدين عام 1946، وبروتوكول التعاون عام 1971 واتفاق العام1990.
وعندما نتحدث عن مشكلة المياه بين كل من سورية والعراق من جهة وتركيا وإيران من جهة أخرى، نجد أن سلوك تينك الدولتين يكاد يكون واضحاً. وفي ما يتعلق بإيران والعراق، تؤدي السياسة والأطماع التوسعية دوراً خطيراً في صيغة الاتفاقيات، وبخاصة في مسألة شط العرب. فعلى الرغم من استجابة العراق للكثير من المطالب الإيرانية، إلا أن إيران ما زالت مستمرة في السياسات المائية عينها، من خلال تحويل مسارات الأنهار والروافد التي تنبع من أراضيها وتصب في شط العرب والأراضي العراقية من تاريخ وجود البلدين.
وقد تصاعد السلوك الإيراني المناوئ، حيث انعكس تحويل الأنهار وجفافها سلباً على الثروة النباتية والحيوانية. ومن بين السلوكيات الضارة الإيرانية، نجد أنها عمدت عام 2010 إلى تصريف مياه الصرف الصحي فيها إلى جنوب العراق، وهو ما أدى إلى تضرر مساحات واسعة من الأراضي، فضلاً عن زيادة الملوحة في شط العرب.
خلاصة القول إن هناك العديد من المشكلات المائية بين سورية والعراق من جهة وتركيا وإيران من جهة أخرى، والمشكلة الرئيسية القاتلة أن معظم مصادر المياه العربية تنبع من مصادر غير عربية، إضافة إلى أطماع الدول، وأكثرها خطورة أطماع الكيان الصهيوني.
إن الصراع على مياه النهرين (دجلة والفرات) قد تطور بشكل مختلف عما كان عليه، مع بدء مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين. وكان للكيان الصهيوني المعادي للعرب دور خطير في تأجيج الصراع، وهو لم يُخف أطماعه في المياه العربية للوصول إلى النيل والفرات. فمنذ عام 1944 أعد خبير صهيوني مشروعاً يعتمد على تجميع مياه المنطقة (الأردن ـ اليرموك ـ العوجا ومياه الينابيع الجوفية والسيول)، وفي الفترة التي كان فيها أيزنهاور رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، كلف أريك جونستون لمعالجة أزمة المياه، إلا أن الأخير لم ينجح في ذلك، وجاء بدلاً منه كونون، فشمل مشروعه نهر الليطاني وإنشاء فاصل كبير بين الأردن والكيان الصهيوني من خلال تخزين مياه اليرموك في الأردن بدلاً من بحيرة طبرية.
رابط المصدر: