- لجأت الصين للتحوط في موقفها من المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية من أجل كسب الوقت لرؤية نتائج الحرب، وتجنُّب التسرُّع للوقوف خلف إيران التي قد تكون الطرف الخاسر. كما أنها بدت مُهتمَّة بأداء دور في تسهيل خفض التصعيد بين الجانبين، دون عرض مباشر للوساطة.
- يضع الضعف الإيراني الظاهر في مواجهة إسرائيل، وتراجع التعاطف الشعبي الصيني مع إيران، الدبلوماسيين الصينيين أمام خيارات محدودة في التعامل مع أي جولة جديدة من هذا الصراع مستقبلاً، أهمها الالتزام بسياسة الموازنة خشية تعرُّض إيران للهزيمة، وعدم رغبة الصين في تأثر علاقاتها مع إسرائيل على المدى الطويل.
- نظراً لعدم امتلاكها أوراقاً عدة للتدخل لخفض التصعيد بين إيران وإسرائيل (ومن خلفها واشنطن)، ولبناء نفوذ على المفاوضات التي قد تبدأ بعد انتهاء الحرب، فإن الصين تبدو أمام عدة خيارات سيئة، أفضلها هو محاولة حماية مصالحها المباشرة باعتبارها أولوية استراتيجية متقدمة على محاولة التأثير أو بناء النفوذ.
كان الرد الصيني على الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على إيران لافتاً، من حيث توضيح موقف بيجين الرسمي وأهدافها والتحديات التي تشكل قيوداً على تحقيق هذه الأهداف، وهو ما تتناوله هذه الورقة بالتحليل، إلى جانب التوقعات بشأن مستقبل العلاقات الصينية-الإيرانية في ضوء الانكشاف الاستراتيجي الإيراني والاستقرار الإقليمي الهش.
أهداف إسرائيل والولايات المتحدة من الحرب على إيران
أعلنت إسرائيل أن أهداف الحملة الجوية التي شنتها ضد إيران منذ 13 وحتى 24 يونيو تأخير برنامج إيران النووي وتدمير برنامجها الصاروخي، ولاحقاً إسقاط النظام. ولا يوجد إجماع بين أجهزة الاستخبارات الغربية على أن إيران كانت على وشك تحقيق الاختراق النووي، كما يدَّعي قادة إسرائيل. وتشير التقديرات إلى أن إمكانيات إسرائيل العسكرية قد تُمكِّنها من إرجاع البرنامج النووي الإيراني للوراء عدة شهور فقط. يسمح ذلك لإسرائيل بكسب المزيد من الوقت لإعادة تقييم استراتيجيتها العسكرية وتمديد الفرصة لإقناع الإدارة الأمريكية للتدخل المباشر بشكل حاسم. لكن هذه الاستراتيجية قد تواجه تحديات أبرزها فقدان عنصر المفاجأة، وتعلُّم القادة العسكريين الإيرانيين من الأخطاء والتحضير لحرب طويلة وممتدة، وتعزيز الدفاعات العسكرية الضرورية التي تتناسب مع أسلوب إسرائيل القائم على تحقيق التفوق الجوي والاستخباراتي.
ووفق نفس التقديرات، فإن الضربة الأمريكية على المفاعلات الإيرانية قد تؤخر قدرة إيران على إنتاج سلاح نووي بما يتخطى العام. في 21 يونيو، قصفت الولايات المتحدة مفاعلات فوردو وأصفهان ونطنز باستخدام قنابل “جي بي يو 57” الخارقة للتحصينات وصواريخ توماهوك، فيما سمي عملية “مطرقة منتصف الليل“. وقال الرئيس دونالد ترمب إن المنشآت النووية الإيرانية “دُمِّرت”، لكن بعض المسؤولين الإيرانيين قللوا من تأثير الضربات، وهو ما منحهم فرصة لوضع ضوابط على الرد الذي استهدف، في 23 يونيو، قاعدة العديد في قطر واتخذ شكلاً رمزياً كما كان متوقعاً. وتلى ذلك إعلان ترمب التوصل لوقف إطلاق النار بين الجانبين وانتهاء الحرب.
على رغم ذلك، يبدو أن التوقف عن القتال سيكون مؤقتاً على المدى البعيد، إذ تخلق هذه الحرب ظروفاً انسيابية تسهم في زعزعة استقرار النظام الإقليمي، خصوصاً إذا ما حاولت إيران إعادة تأهيل برنامجها النووي والإسراع نحو إنتاج سلاح نووي. ويؤثر ذلك في مصالح قوى خارجية عدة، على رأسها الصين، التي يعتمد أمنها الطاقي بشكل كبير على المنطقة، إلى جانب مصالحها الاستثمارية الكبيرة تحت مظلة مبادرة الحزام والطريق، وطرق التجارة البحرية، وطموحها للتموضع بوصفها وسيطاً نزيهاً في المنطقة.
رؤية الصين
مع بدء الحرب، تبنَّت الصين لهجة عدائية تجاه إسرائيل. ففي خلال اتصال هاتفي مع نظيره الإيراني عباس عراقجي، في 14 يونيو، دان وزير الخارجية الصيني وانغ يي بوضوح “انتهاك إسرائيل لسيادة إيران وأمنها وسلامة أراضيها”، و”هجماتها المتهورة” ضد المسؤولين والمدنيين. وفي نفس اليوم، في خلال اتصال مع نظيره الإسرائيلي جدعون ساعر، عبر وانغ عن معارضة الصين للحرب التي شنتها إسرائيل، لكنه لم يذهب إلى حد “إدانتها”. وتبنى مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، فو تسونغ، لهجة متشددة شبيهة في 14 يونيو بوصفه مهاجمة إسرائيل للمنشآت النووية الإيرانية بأنها “خط أحمر آخر تجاوزته إسرائيل”.
لكن هذه اللهجة بدأت تتغير في 17 يونيو نحو مقاربة أكثر توازناً بعد تدخُّل الرئيس شي جينبنغ، الذي دعا في خلال قمة الصين ودول وسط آسيا الثانية “جميع الأطراف” للتهدئة، وعرض إمكانية ممارسة الصين دوراً في خفض التصعيد، مُشيراً إلى “الدول التي لديها نفوذ، خصوصاً على إسرائيل”، قاصداً الولايات المتحدة دون أن يسميها بممارسة دور نحو التهدئة. وفي مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 19 يونيو، لم يُدِن شي الهجمات الإسرائيلية على إيران، على عكس الرئيس الروسي. وقدَّم الرئيس الصيني مقترحاً عاماً من أربع نقاط يشمل وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، والبدء بالتفاوض حول برنامج إيران النووي، ودعوة القوى الدولية للمساهمة بالحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط. وجراء هذه اللهجة المعتدلة، تبنى فو أيضاً نفس الخط السياسي في تصريحات في 20 يونيو دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، مكرراً النقاط الأساسية في اقتراح شي.
ويبدو أن التخفيف من اللهجة الصينية تجاه إسرائيل جرى بعد مشاورات داخلية (وتوجيهات من شي) خلصت إلى ضرورة مقاربة الصراع من موقف أكثر توازناً. أحد الدوافع الأساسية قد تكون امتناع المسؤولين الصينيين، إلى الآن، عن إدانة غزو روسيا لأوكرانيا، وهو ما وضعها في موقف دولي محرج بمجرد صدور موقفها المتشدد تجاه إسرائيل. لكن الأهم يبدو أن الصين لجأت للتحوط من أجل كسب الوقت لرؤية نتائج الحرب، وتجنُّب التسرُّع للوقوف خلف إيران التي قد تكون الطرف الخاسر. بمعنى آخر، فإن ضعف إيران جعل الصين أكثر قلقاً من دعمها بشكل مباشر وكبير.
فضلاً عن ذلك، فإن الصين تبدو مُهتمَّة بأداء دور في تسهيل خفض التصعيد بين الجانبين، وهو موقف انعكس في رسائل شي حول الصراع، دون عرض وساطة بشكل مباشر.
ودعت الصين، مع روسيا وباكستان، إلى جلسة في مجلس الأمن بعد القصف الأمريكي، لتبني مشرع قرار يدين الهجمات دون تسمية الولايات المتحدة وإسرائيل مباشرة. واتضحت نوايا بيجين في خلال تصريحات فو تسونغ التي دعت مرة أخرى إلى وقف إطلاق النار. لكنَّه زاد على ذلك بالقول إن إيران تضررت “لكن مصداقية الولايات المتحدة تضررت أيضاً، بصفتها دولة ومشاركة في أي مفاوضات دولية”. ويعكس ذلك أن موقف الصين من المشاركة الأمريكية هو وضع ضغوط على موقع ونزاهة الولايات المتحدة بصفتها وسيطاً، ليس فقط في المنطقة، لكن حول العالم بأسره.
ويعتقد خبراء صينيون أن الحرب دليل على ضعف إيران، وهو ما دفع إسرائيل، التي يزيد تموضعها المتشدد إقليمياً، لانتهازه، وتراجُع قدرة الولايات المتحدة على الضغط على إسرائيل وحفظ الاستقرار الإقليمي. إضافة إلى ذلك، فإن فشل التفاوض في تفكيك البرنامج النووي الإيراني أقنع ترمب أن خيار الضغط العسكري على إيران قد يكون مناسباً في هذا التوقيت من حيث حساب المكسب والخسارة، وفقاً لهؤلاء الخبراء. ويقول خبراء آخرون إن إسرائيل ترى في إمكانية توصل الولايات المتحدة وإيران إلى اتفاق يسمح باستمرار تخضيب اليورانيوم وتخفيف العقوبات خطراً مباشراً على أمنها القومي.
ويعزو سون ديغانغ، مدير مركز الشرق الأوسط في جامعة فودان، توقيت الحرب إلى فشل إسرائيل في تحقيق نصر ساحق على حركة حماس وتحرير الرهائن، وهو ما شجَّع نتنياهو إلى تحويل الأنظار نحو إيران لكسب الدعم الشعبي وضمان مستقبله السياسي. وتوقع ليو جونغمين، الأستاذ في معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، أن لجوء إيران إلى استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة لن يخرج عن الإطار الرمزي، باعتبار فقدان عنصر المفاجئة ورفع مستوى جاهزية القوات الأمريكية في المنطقة بالفعل وعدم رغبة طهران في التصعيد، وهو السيناريو الذي تحقق بالفعل عبر استهداف قاعدة العديد بالطريقة المحدودة التي حدثت.
المحددات الاستراتيجية للمقاربة الصينية
يُمكن، إذن، استنتاج بعض المحددات الرئيسة لسلوك الصين، الآن وعلى المدى القصير، إزاء الحرب. ويبرز المحدد الأساسي، وهو امتناع الصين عن تقديم أي دعم مادي حاسم أو تحويلي لإيران، خارج إطار الدعم الخطابي والدبلوماسي في مجلس الأمن. يرجع ذلك للأسباب الآتية:
أولاً، سيولة الوضع الأمني على المستوى الاستراتيجي في المنطقة يرفع من مستوى المخاطر أمام صانع القرار الصيني. بمعنى آخر، فإن المنطقة تمر بمرحلة مفصلية تشهد تحولات جذرية في النظام الإقليمي لم تتضح ملامحها النهائية بعد. يجعل ذلك حسابات الربح والخسارة المتصلة بدعم عسكري مباشر لإيران قفزة في مجال يحكمه اللايقين وقد يؤدي، على المدى البعيد، إلى خسائر كبيرة للمصالح الصينية في المنطقة. أحد أهم الخسائر انهيار المقاربة الصينية القائمة على الموازنة/الحياد بين دول المنطقة، ومِن ثمَّ خسارة الهدف الاستراتيجي الصيني الساعي إلى تموضع الصين وسيطاً محتملاً ولاعباً مسؤولاً بديلاً عن الولايات المتحدة في صراعات المنطقة.
ثانياً، ثمة قيود على العلاقات الثنائية وقلق صيني مستمر منذ عقود حول استراتيجية إيران العدائية في الإقليم، بالتوازي مع قلق مستحدث، منذ 7 أكتوبر 2023، تجاه سياسات إسرائيل الإقليمية. ربما هناك تحوُّل في رؤية القيادة الصينية إزاء البلدين، إذ باتت ترى في استراتيجياتهما/صراعهما خطراً مباشراً على المصالح الصينية المتصلة بالطاقة والتجارة والاستثمارات والأهداف المعيارية طويلة المدى. على الجانب العسكري، أبدت إيران اهتماماً، في 2021 (عام انتهاء صلاحية القيود على مبيعات الأسلحة لإيران)، بشراء مقاتلات صينية من طراز “جيه 10″ لتقوية دفاعاتها الجوية على رغم تبنّي الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية القائمة على الحروب غير المتكافئة و”الدفاع المتقدم”. ولم تتم الصفقة نظراً لرغبة إيران، التي تحافظ قدر الإمكان على احتياطاتها من العملات الأجنبية، في تسديد ثمن الطائرات عبر شحنات النفط. لكن قد يتغير هذا الواقع بعد انتهاء الحرب، استناداً إلى الكفاءة الكبيرة التي أظهرتها هذه المقاتلات في ترسيخ التفوق الجوي الباكستاني خلال المواجهة العسكرية القصيرة مع الهند في مايو الماضي.
ثالثاً، أكَّد الرئيس شي أن الصين “مُستعدة للعمل مع جميع الأطراف للقيام بدور بناء في استعادة السلام والاستقرار في الشرق الأوسط”، وهو ما أثار التكهنات بشأن وجود رغبة صينية بالتوسُّط لإنهاء الحرب. لكن ثمة تحديات تقف أمام تحقق ذلك، أهمها تراجع النفوذ الصيني على القرار الاستراتيجي الإيراني، وعدم وجود أي نوع من أنواع النفوذ على إسرائيل، خصوصاً منذ دعم بيجين الواضح للفلسطينيين ما بعد هجوم 7 أكتوبر.
رابعاً، عدم استعداد الصين لفتح جبهة جديدة مع الولايات المتحدة قد تؤثر في ملفات تراها القيادة الصينية أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية لمصالح الصين، أهمها المفاوضات التجارية الجارية حالياً، وملف تايوان. ويُسهِم دعم الرئيس ترمب لنتنياهو في هذه الحرب في المزيد من الحرص من الجانب الصيني، باعتبار أن المواجهة أولوية للمصالح الأمريكية في المنطقة. لكنها أيضاً تمنح بيجين فرصة لزيادة الضغط، على المستويين الخطابي والدبلوماسي، على مصداقية سياسات الولايات المتحدة وإظهارها كقوة غير مسؤولة وسبب في زعزعة استقرار المنطقة.
التوقعات المستقبلية
يُتوَّقع أن تستمر الصين في استيراد النفط الإيراني لسببين: الأول، عدم توصل إيران والولايات المتحدة لاتفاق صريح يمنعها من ذلك، على رغم العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب على مبيعات النفط الإيراني في 1 مايو الماضي. لكن بعد انتهاء الحرب، صرَّح ترمب بأن إيران يمكنها الاستمرار في بيع النفط للصين، مع أن المتحدث باسم البيت الأبيض أوضح لاحقاً أن تصريحات ترمب لا تشير إلى تخفيف العقوبات الأمريكية المفروضة على مبيعات النفط الإيراني. والسبب الثاني، إمكانية أن يتم تضمين قضية الاستمرار باستيراد النفط الإيراني كجزء من اتفاق التجارة الذي يتم التفاوض عليه حالياً بين الصين والولايات المتحدة، بحيث يشترط أيضاً زيادة معدلات شراء الصين للنفط الأمريكي.
ويُرجح كذلك أن تقوم الصين ببناء منظومة طوارئ بحرية مهمتها حماية السفن التجارية وناقلات النفط المتجهة من وإلى الصين. وستشبه هذه المنظومة عملية مكافحة القرصنة التي تشارك فيها الصين بالفعل، منذ عام 2008، في منطقة القرن الأفريقي، وتشمل تمركز مجموعة من السفن (حوالي ست في نفس الوقت) للقيام بدوريات بحرية لمكافحة القرصنة وتأمين حرية الملاحة. وسيكون منطقياً، في حالة الخليج، الاعتماد على القاعدة البحرية الصينية في جيبوتي، بحيث لا يتم نشر هذه السفن في مياه الخليج أو البحر الأحمر إلا في حالة ارتفاع مستوى التوترات الإقليمية إلى مرحلة الخطر.
ويُرجَّح، بالتوازي، تسريع مشروع الأنبوب الواصل من ميناء جوادار الباكستاني إلى إقليم شينجيانغ الصيني، مع مد الانبوب داخل الأراضي الإيرانية (بما يشمل ميناء شهبار) لتجنُّب المضيق على المدى البعيد. لكن هذا الخيار سيتوقف على مستوى الاستقرار الأمني داخل إيران وما إذا كانت المواجهة مع إسرائيل (والولايات المتحدة) ستمتد لسنوات مقبلة. على الجانب الخليجي، قد يُركِّز صُنَّاع السياسات الصينيين على الانبوب الإماراتي الذي يؤدي إلى ميناء الفجيرة ويتجنب مضيق هرمز، وهو ما قد يزيد من حصة الإمارات كمصدر نفطي للصين.
وتعكس هذه الخيارات المحدودة بدء ما يمكن أن يطلق عليه “معضلة هرمز” بالنسبة للقادة الصينيين (على غرار “معضلة ملقا“) واستعداد بيجين لتحصين وارداتها من الطاقة من الاضطرابات المفاجئة في هذا الممر البحري. بمعنى آخر، إذا كانت واشنطن مصدر قلق بالنسبة لبيجين نتيجة قدرتها على تعطيل الملاحة الصينية في مضيق ملفا، تبرز إيران بوصفها مصدر قلق آخر بسبب تهديداتها المتتالية بغلق المضيق في حال توسُّع المواجهات العسكرية على المستوى الإقليمي.
فيما يتعلق بالملف النووي، خشيت الصين من أن تقود الحرب إلى انسحاب إيران من معادة حظر انتشار الأسلحة النووية، ومن ثمَّ الإسراع نحو امتلاك سلاح نووي. فذلك سيشكل معضلة أخرى تتعلق بالحد من انتشار الأسلحة النووية في العالم، مع زيادة قناعة الكثير من الدول بفاعلية الردع النووي (روسيا، كوريا الشمالية) مقابل ضعف منظومة الردع لدى الدول التي لا تملك أسلحة نووية (أوكرانيا، إيران، ليبيا). ومِن ثمَّ يرجح أن تحاول الصين إقناع إيران بعدم الإقدام على هذه الخطوة في مقابل العمل مع طهران على إحباط عودة العقوبات ضمن آلية “سناب باك” التي هدَّد الثلاثي الأوروبي بتفعيلها قبل موعد انتهاء صلاحية الاتفاق النووي في 18 أكتوبر المقبل. قد يحدث ذلك من طريق توظيف رئاسة روسيا الدورية لمجلس الأمن في شهر سبتمبر المقبل لتعطيل إعادة فرض العقوبات عبر آلية حل النزاعات. لكن هذه الجهود قد تواجه تحديات ناجمة عن إعلان مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران لم تمتثل لالتزاماتها بالضمانات النووية في 12 يونيو.
بالتوازي، كشفت الحرب عدم ميل الصينيين على مواقع التواصل الاجتماعي لدعم إيران. وتعمَّقت هذه النظرة نتيجة عدة أسباب ركز عليها النقاش على الانترنت، أهمها الضعف العسكري والاقتصادي الإيرانيين، والاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي العميق. لكن النقطة الأساسية التي تركز عليها النقاش هو وجود النزعة الكبيرة في المجتمع الإيراني للانجذاب نحو الولايات المتحدة وأوروبا سياساً وثقافياً، ومساعي إيران “لاستغلال الصين” واعتمادها على الوعود والدعم الخطابيين فقط، دون خطوات جوهرية للانضمام إلى المعسكر الصيني، على عكس دول أخرى أهم مثل روسيا وباكستان. ومن ثمَّ فإن إيران لا يمكن الوثوق بها أو الاعتماد عليها، وفقاً للنشطاء الصينيين.
ويضع الضعف الإيراني الظاهر في مواجهة إسرائيل، وتراجع التعاطف الشعبي الصيني مع إيران، الدبلوماسيين الصينيين أمام خيارات محدودة في التعامل مع أي موجة جديدة من هذا الصراع في المستقبل، أهمها الالتزام بسياسة الموازنة خشية خروج إيران مهزومة بشكل حاسم، وعدم رغبة الصين في تأثر علاقاتها مع إسرائيل على المدى الطويل.
ويمكن القول إن الضعف وعدم الفاعلية العسكرية اللذين أبدتهما إيران في خلال الحرب قد ينتجا تحولاً في التفكير الاستراتيجي الصيني الذي كان قائماً على اعتبار إيران قوة موازنة في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، وهو ما يمنح الصين الوقت لتوسيع نفوذها في الإندو-باسيفيك. لكن الطبيعة الخاطفة والمدة الزمنية القصيرة للحرب ومستوى الأهداف الإسرائيلية/الأمريكية التي تحققت فيها قد تترك انطباعاً بأنه باستثناء خلق مستنقعاً عسكرياً طويل المدى على غرار أفغانستان والعراق، فإن إيران قد تكون فقدت الميزة الوظيفية في الحسابات الصينية كطرف موازن ضد النفوذ الغربي قادر على إبقاء التركيز والانتباه الأمريكيين خصوصاً منصبين لعقود على الشرق الأوسط.
وسينعكس ذلك في إبطاء تنفيذ بنود اتفاق “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” لمدة 25 عاماً الموقعة في 2021 كجزء من مبادرة الحزام والطريق، والتي شملت استثمارات في قطاعات الطاقة والخدمات المصرفية والنقل والأمن السيبراني، استناداً إلى عدم اليقين السياسي والأمني في إيران على المديين القصير والمتوسط.
لكن، على رغم المسار السلبي المتوقع في التقييم الاستراتيجي الصيني لإيران، ثمة عوامل إيجابية أيضاً قد تكون أنتجتها الحرب، أهمها ترجيح حصة أكبر للصين في مستقبل التسليح في إيران، خصوصاً عقب النتائج التي حققها الجيش الباكستاني في مواجهة الهند. قد يتطلب ذلك تعديلات في العقيدة الدفاعية الإيرانية باتجاه تموضع تقليدي على حساب اللاتماثلية والاعتماد على الوكلاء الإقليميين. إلى جانب ذلك، قد تطلب إيران مساعدة الصين في إعادة بناء قاعدتها الصناعية بوصفها منطلقاً لإعادة بناء الاقتصاد الإيراني، خصوصاً بعد تراجع الثقة الكبير، على المستويين الرسمي والشعبي في إيران، تجاه نوايا الولايات المتحدة والقوى الغربية.
ويُتوقع أيضاً أن تستمر الصين بتقديم دعم دبلوماسي وخطابي لإيران، خصوصاً في مجلس الأمن، إذ لا يُحمِّل هذا النوع من الدعم بيجين كلفة كبيرة.
وبشكل خاص، يُتوقَّع أن تدعم الصين موقف إيران الرافض لخفض مستوى تخصيب اليورانيوم إلى الصفر إذا ما عاد الطرفان إلى طاولة التفاوض، على قاعدة منح إيران الحق في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. لكنها ستعارض أي محاولة من إيران الحصول على سلاح نووي في تبنّي نموذج كوريا الشمالية، لأن بيجين لا تريد رؤية سباق تسلح نووياً في المنطقة.
إلى جانب ذلك، فإن أكثر ما كان يقلق قيادة الحزب الشيوعي هو تحوُّل تغيير النظام إلى هدف أمريكي أيضاً. فلا تتوقف المخاطر جراء ذلك من احتمال استبدال النظام الحالي بنظام تابع للغرب، وهو ما يُعقِّد حسابات الصين في المنطقة، وإنما أيضاً صعوبة تحقيق ذلك بواسطة قوة خارجية قد تأتي بنتائج عكسية أهمها الفوضى أو إضعاف النظام بطريقة تسمح بإشعال حرب أهلية. ولا تتوقف التهديدات، من وجهة نظر قادة الحزب، عند هذا الحد، بل قد تشجع جهود نشطة وفعالة لإسقاط النظام الإيراني إلى خلق مبرر لتحدي النظام الشيوعي بشكل مباشر داخل الصين ومحاولة زعزعة قبضته على الحكم. بمعنى آخر، فإن مقتضيات أمن النظام في الصين ستظل تقتضي معارضة سقوط النظام الإيراني على يد إسرائيل والولايات المتحدة.
استنتاجات
في ضوء ما سبق، يبدو أن الصين ليس فقط لم تملك أوراقاً عدة للتدخل لخفض التصعيد، وإنما أيضاً لا تملك أوراقاً عدة لبناء نفوذ على العملية التفاوضية التي يُتوقع أن تبدأ بعد مدة من انتهاء الحرب. ويضع ذلك الصين أمام عدة خيارات سيئة، لكن أفضلها هو محاولة حماية مصالحها المباشرة باعتبارها أولوية استراتيجية متقدمة على محاولة التأثير أو بناء النفوذ. ويُفسِّر ذلك سياستي التحوط والموازنة اللتين تبنتهما بيجين في تعاطيها مع الضربات الإسرائيلية، في حين هاجمت الضربات الأمريكية وسَعَت لاستغلالها للخصم من صورة ورصيد واشنطن كوسيط دولي.
وسيضع أداء إيران العسكري والضعف الأمني والاستخباراتي ضغوطاً على علاقتها بالصين، نظراً لارتفاع مستوى مخاطر سقوط النظام أو تعرُّض إيران لهزيمة عسكرية حاسمة في أي مواجهة مستقبلية محتملة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وهو ما يفرض على بيجين إبقاء فرض المزيد من الاستقرار على علاقتها بإسرائيل وتجنُّب تحدّي الولايات المتحدة بشكل مباشر فيما يخص إيران.