- تمارسُ الولايات المتحدة عبرَ المواجهة الجارية في منطقة الشرق الأوسط، رغبتها في مُعالجة العُقدَة الإيرانيّة، ومعالجة عقباتٍ أساسيّة على طريق دمج إسرائيل إقليمياً، ورفع موانع اندماج الاقتصاد الهندي بالاقتصادات الأوروبية، وذلك في سياق المواجهة الاستراتيجية مع الصين.
- مع أن إسرائيل رغبت من وراء المواجهة الراهنة في الساحة الإقليمية بالقضاء على الخطر الإيراني “الوجودي” بشكل نهائي، لكنّ عدم قيامها بإجراءات عمليّة تعكس هذه الرغبة، يُظهِرُ أنّ تل أبيب لا تزال ملتزمة باتباع قواعد الاشتباك التي وضعتها الولايات المتحدة.
- على الرغم من أنّ واشنطن حقّقت -حتى الآن- درجة عالية من النّجاح في فَرْض قواعد الاشتباك بما يتناغم مع رؤيتها الاستراتيجية، إلّا أن ذلك لا يعني انعدام التأثير الإسرائيلي على المشهد، ويبقى واردًا احتمالُ قيام إسرائيل بخطوةٍ من شأنها تغيير “قواعد اللعبة”.
- مُضي إيران نحو امتلاك “الرّدع النووي” من شأنِهِ الإطاحة بكلّ الجهود المبذولة لترويضها، وإعادتها إلى طاولة المفاوضات. وحينَها ستكون الولايات المتحدة أمام واقعٍ جديدٍ كليًّا، يستلزمُ منها تغييرًا في قواعِد المُواجهة مع طهران.
تُشارك الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ مُباشرٍ في الحرب غير التقليديّة التي تخُوضُها إسرائيل منذُ 8 أكتوبر 2023. جاءت المُشاركة الأمريكية ابتداءً عبر تفعيلِ “جسر جوّي” لنقل الأسلحة النوعيّة، على رأسها القنابل الخارقة للتحصينات إلى إسرائيل. وسرعَانَ ما أعلنت المصادر الأمريكية عن توفير الدعم المالي، والتقني، والاستخباراتي، والاستشاري للجيش الإسرائيلي في معركته الهادفة إلى استعادة الرّدع، وذلك في سياق “خطة الحرب” الإسرائيليّة التي أُقِرّت على عجل، لكنّ أهدافها ظلّت تتغير بحسب التطوُّرات الميدانية. وفي الوقت نفسه، أسهمت واشنطن في توفير مظلّة دبلوماسيّة قوية لإسرائيل في “مجلس الأمن”، وخارجه، على الرغم من موجة الاستنكار العالميّة، وتزايُد الأصوات الدّاعية إلى وقف الحرب في داخل الولايات المتحدة وخارجها على مدار عام كامل.
وعمِلَت واشنطن لاحقًا على تعزيز نظام الرّدع الإسرائيلي، ومُعالجة ثغراته عبر إرسال بعض أهم القطع البحرية الاستراتيجيّة إلى المياه الإقليميّة، بما فيها حاملات الطائرات الرئيسة في البحرية الأمريكية. وبعد الهُجوم الصاروخي الإيراني الثاني على إسرائيل (عملية الوعد الصادق 2) عززت واشنطن الدفاعات الجوية الإسرائيلية عبر إرسال منظومات الدفاع الجوي المتقدمة “ثاد”، وإرسال طائرات التزوُّد بالوقود إلى المنطقة، وبناء منشآت تستوعب هذا النوع من الطائرات في الداخل الإسرائيلي، بما يُعزز قدرة إسرائيل على ضرب الأهداف الإيرانية.
وما اقتصرت المُشاركة الأمريكيّة على توفير الدّعم والإسناد، بل تطوّرت وفق مسار المعركة إلى المُشاركة المباشرة في عمليات القصف في كل من اليمن، والعراق، وسورية. كما شاركت الولايات المتحدة في التصدّي للهجوم الإيراني على إسرائيل بالصواريخ والمُسيّرات (عملية الوعد الصادق 1) في أبريل 2024.
وتخوضُ إسرائيل هذه المواجهة “الوجودية” التي تُسانِدُها فيها أمريكا ميدانيًّا، ضدّ “حركة حماس” في قطاع غزة، وضدّ مجموعة الميليشيات والتنظيمات المسلحة الموالية لإيران، والمُسانِدة لـ “حماس” في النطاق الإقليمي. وتستندُ المواجهة إلى مُقارباتٍ عسكريّة باتَ بعضُها كلاسيكيًّا في الأدبيات العسكريّة الإسرائيليّة؛ فهي تهدفُ إلى تفكيك بُنية هذه الميليشيات، والقضاء على تماسُكها، ووحدة صفها التنظيمي، وفاعليّتها الميدانية في سياق حرب غير تقليدية، وغير مُتناظرة. وألمح الإسرائيليون في أكثر من موقف، إلى أنّ المواجهة لن تكون مُقتصرةً على غزّة ولُبنان، وأنّ الدّور سيشمل ساحتي اليمن، والعراق أيضاً.
ويبدو جليًّا أنّ إسرائيل وجَدت أخيرًا فرصتها التاريخيّة للقضاء على مصادر التهديد الذي تُشكِّلُه التنظيمات الموالية لإيران، والتي تحيطُ بالكيان الإسرائيلي منذُ عُقود، وترفعُ شعار محو إسرائيل من الوجود. وذلك في ضوء التعاطُف العالمي، وبخاصّة الغربي مع إسرائيل بعد هجوم 7 أكتوبر، وتوافر الدعم الشّعبي غير المسبوق داخل المجتمع الإسرائيلي؛ حيثُ تُشيرُ المُعطيات إلى أنّ غالبيّة الشّارع الإسرائيلي تدعمُ هذا الخيار.
وتُعَدُّ مُقاربة “تفكيك بُنية القيادة”، عبر تغييب الصفّ القيادي الأول، إحدى المقاربات الكلاسيكيّة التي تبنّاها الجيش الإسرائيلي في مواجهة تنظيمات المقاومة المسلّحة طوال العُقود الماضية. وتمكّنت “تل أبيب” هذه المرّة، من تحييد قيادات “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، و”حزب الله”، علاوةً على القيادات الميدانية لـ “فيلق القدس”. كما هدّدت بوضع قيادات جماعة “أنصار الله” الحوثية، وقيادات الميليشيات العراقية على قائمة الاستهداف. وفي إطار هذه المقاربة، اختارت إسرائيل القادة الميدانيّين المرتبطين بالأذرع العسكريّة، وبخاصّة القيادات المقرّبة من “فيلق القدس” الإيراني، بغية تحقيق “فك ارتباط” ميدانيٍّ بين هذه التنظيمات، وغرفة القيادة الإيرانية.
وسعَت إسرائيل أيضًا إلى تطبيق مُقاربة “القبضة الحديديّة، والرّدّ الواسع” لإقرار مُوازنة ردعٍ مَبْنيّة على التّهويل من النّتائج الكارثيّة لأيّ تهديدٍ للأمن الإسرائيلي. وكانت إسرائيل جرّبت هذه المُقارَبة بهامشٍ مُريحٍ من النّجاح في خلال حرب 2006، ضدّ “حزب الله” اللبناني، لكنّ الغاية من تطبيق هذه المُقارَبة هذه المرّة، ما عادت “احتواء” التنظيم الشيعي اللبناني، وإنما “تحييد” قوّته المَيْدانيّة، وتحجيم عدَد قُوّاته، والعَتاد الذي يمتلكه، والإسناد المالي الذي يمنحه القوة والاستمرار.
أمريكا وفرصة “تحييد” الأوراق الإيرانيّة
ولا يُمكنُ إنكار أنّ المواجهة الجارية هذه الأيام، تأتي من منطلق “مصالح حيويّة” إسرائيلية، ودوافع تعتبرُها إسرائيل “وجوديّة”. غير أنّ دعم الولايات المتحدة، والمجموعة الغربية، الهائل لإسرائيل، والذي بلغ حدّ الانخراط المُباشر في المواجهة الميدانيّة، والإشراف الكامل على عمليّة “تحديد الأُطر الأساسية، والقواعد الكُليّة لهذه المواجهة”، وصمت الأطراف الإقليميّة، والدوليّة الأُخرى، يُشيران إلى أنّ القضيّة تتجاوزُ كونها مُجرّد مواجهةٍ تُمارسُها قوّة إقليميّة ضد مصادر التّهديد الخاصّة بها، وأنّ ثمّة “صورة كبرى” تقعُ في سياقها هذه المواجهة، وتتضمّن مصالح استراتيجية أوسع نطاقًا، لفاعلين يفوقون إسرائيل حجمًا، وأهميّةً.
وضمن هذه “الصورة الكبرى” يُمكنُ اعتبار مواجهة الشرق الأوسط، مُعالجةً غَرْبيّةً للتهديدات المُحْدِقة بـ “مشاريع الانصهار، والانفكاك الاستراتيجيّة”، والتي تُريد الولايات المتحدة من ورائها إعادة ترتيب الأوراق، لا في الشّرق الأوسط فحسب، بل في المشهد الدولي عمومًا. وبما يُرجّح كفّة المجموعة الغربيّة في جهود التصدّي للخطر الصيني الصاعد الذي تعتبره واشنطن التحدّي الأهمّ لهيمنتها العالميّة.
وكان مشروع ممرّ الهند-الشرق الأوسط-أوروبا (IMEC) الطّامح إلى إعادة صياغة التحالفات الإقليمية، أحَد تلك المشاريع الاستراتيجية، ويُضاف إليه سلسلة من المشاريع الأخرى، من بينها: مشروع إنعاش الاقتصاد الهندي، ودعمه في وجه العملاق الصيني، ومنها أيضًا مشروع فكّ ارتباط الاقتصادات الأوروبية بالمُنتَجات الصينيّة، ومشروع “سياسة الجوار الأوروبيّة” الهادف إلى تعزيز الوجود الغربي في مناطق شتى في العالم. وتهدف هذه المشاريع في مجموعها إلى بناء جدارٍ عازلٍ يمنعُ تقدُّم مشروع “الحزام والطريق” الصّيني الذي كان يطمحُ إلى دَمْج المنطقة العربيّة، واستخدام المَحطّة الإسرائيليّة للتواجد على سواحل البحر المتوسط.
وضمن هذه الرؤية الاستراتيجية اُعتُبِر هجوم 7 أكتوبر، والاضطرابات التي أعقبته في الشرق الأوسط، ضربةً قويّةً لمشروع الممرّ الهندي الأوروبي من طريق الإخلال بأمن المَحطَّة الإسرائيليّة فيه، عبر شبكة ميليشياتٍ عقائديّة مُسلّحة مُرتبطة بإيران. وقد عزز هجوم 7 أكتوبر، والتطورات التي تلته، القناعة الأمريكية بأن التطبيق السّلس، والمستمرّ لهذا المشروع (الذي جُمِّدَ منذ أكثر من عام)، يكاد يكون مستحيلاً في ضوء تهديدات إيران ووكلائها الإقليميين. ويمكنُ لهذه القوى مجتمعةً أنْ تعمل كذلك لمصلحة المعسكر الشرقي الذي أظهرت إيران رغبةً واسعةً بالانصهار فيه، وإثبات الولاء له.
وعلى مدى العُقود الماضية، شكّل الملفّ الإيراني أحدَ أهم قضايا الشّرق الأوسط المطروحة على طاولة الإدارات الأمريكيّة المُتعاقِبَة. وجرّبت واشنطن عدّة حُلول لمعالجة المسألة الإيرانية، على رأسها الاتفاق النووي الذي كان ناقصًا، ولم يُرْضِ الأطراف الإقليميّة. لكنّ المواجهة المُشتعِلة منذ عامٍ، وفّرت فرصةً واقعيّةً للولايات المتحدة لمعالجة “العُقدة الإيرانيّة” من منظورٍ مُختلِفٍ، وجًوهريّ. إذْ استندت الاستراتيجية الإيرانية في خلال العَقْدين الماضِيَيْن على استخدام ورقة النُّفوذ الإقليمي – عبر شبكة واسعة من الميليشيات والتنظيمات المرتبطة عضويًّا وعقائديًّا بالحرس الثوري الإيراني – من أجل الضغط على المجموعة الغربية، وصَوْنِ أوراقٍ أُخرى، على رأسها البرنامجَيْن النووي والصاروخي. وأدّى هذا الوضع إلى نشوء قناعة لدى الجانب الأمريكي، والأطراف الغربية بأنّ أيّ حوارٍ حول الملف النووي، سيظل ناقصًا إذا لم يتناول الملف الإقليمي، وسيظلُّ عقيمًا لأن الدولة العميقة في طهران سوف تستخدم نفوذها الإقليمي لإجهاضِه، أو للضَّغط على الموقف الأمريكي والغربي، من أجل تليينه. وعزّزت المواجهة الراهنة هذه القناعة في الغرب عمومًا، لكنّها منَحت الأمريكيّين فرصةً ذهبيّةً لقصّ المخالب الإيرانيّة، تمهيدًا لإعادة مسار “التفاوض مع إيران” إلى النقطة الطبيعية.
كما وجدت واشنطن في المواجهة الحاليّة فرصةً أيضًا، لإنجاز أهدافٍ استراتيجيّة جانبيّة، منها: وقف التهديد المُستمر للقواعد العسكرية، والمنشآت الاقتصادية الأمريكيّة، وإنهاء التهديد المتواصل لشرايين الاقتصاد العالمي، وتمكين “مؤسسة الدولة” في غرب آسيا، بعد أن استضعفتها ميليشيات وقوى مسلحة غير ملتزمة بمنطق الدولة، وقطع الطريق أمام المعسكر الشرقي الذي قد يسعى للتأثير على الملفات الإقليمية والدولية من خلال التأثير على قرار تلك القوى والميليشيات وسلوكها.
وضمن هذه “الصورة الكليّة” تبدو المواجهة الجارية منصّةً تمارسُ الولايات المتحدة عبرَها، رغبتها في مُعالجة العُقدَة الإيرانيّة، ومعالجة عقباتٍ أساسيّة على طريق دمج إسرائيل في المحيط العربي، ورفع موانع اندماج الاقتصاد الهندي بالاقتصادات الأوروبية، وذلك في سياق المواجهة الاستراتيجية مع الصّين. ولا ينفي هذا التحليل، مركزيّة الأجندة الإسرائيليّة في المشهد، وفاعليّة دوافعها الأمنيّة الاستراتيجيّة، لكنّه يُؤكِّدُ بأنّ المشهد الراهن، تديرُه الولايات المتحدة، وليسَ إسرائيل، لأنّ واشنطن وجدت فيه فرصةً أساسيّةً لتصحيح المسارات الاستراتيجيّة.
الحرب الإسرائيلية، والاستراتيجية الأمريكية: نقاط الالتقاء والافتراق
ثمّة نقاط التقاء بين هذه الحرب الإسرائيليّة، والرؤية الأمريكية، تدفع البلدين إلى تضافُر الجهود لمواجهة التنظيمات الموالية لإيران؛ إذ يطمحُ كلٌّ منهما إلى نزع الأوراق الإقليمية من يدِ إيران، وتفكيك شبكة الجماعات المسلحة الواسعة التي تديرها طهران للضغط على الخصم الإسرائيلي والخصم الأمريكي على حد سواء. وتبدو المصالح الاقتصادية الناجمة عن القضاء على هذه المخالب الإقليمية مشتركة أيضًا لدى كلّ من واشنطن، وتل أبيب. غير أن هناك نقاط خلاف جوهرية، تفصل الموقفين الأمريكي والإسرائيلي، وتقف خلف الخلافات بين البلدين حول آليّات التعامل مع المعضلة الإيرانية. ولكنّ مسار التطورات يُظهر أنّ الرؤية الأمريكية للتعامل مع هذه المعضلة، هي التي حدّدت حتى الآن، أطر المواجهة العسكرية الجارية، وقواعدها، وحدودها، على الرغم من أنّ إسرائيل هي الطرف الذي يتولّى التحرُّك الميداني فيها.
ومن أهم أوجه الخلاف التي يمكن استخراجها من المواقف الصادرة من كلا الطرفين، هو التبايُن بشأن ما إذا كانت إيران تشكل خطرًا وجوديًّا على إسرائيل. إذْ ترى إسرائيل في النظام الإيراني الحالي تهديدًا وجوديًّا لا يُمكنُ مُعالجة المعضلة الأمنية الإسرائيلية من دون استئصاله، وتؤكد من هذا المنطلق، ما تُسمّيه “ضرورة ضرب رأس الأفعى في طهران”، لكنّ الولايات المتحدة لا ترى في إيران خطرًا وجوديًّا ينبغي القضاء عليه. وهذا ما يتضح في المواقف الصادرة عن قادة الحزبين في الولايات المتحدة، ويشيرُ إلى أن إدارة الملف الإيراني – لا التأثير الجوهري على طبيعة نظام الحكم في إيران – هو الذي تطمح إليه واشنطن.
وتنجمُ عن هذا الخلاف الجوهريّ بشأن اعتبار إيران خطرًا وجوديًّا، خلافاتٌ أخرى، مثل: الخلاف بشأن نقل المعركة إلى إيران، والخلاف بشأن محاولة تغيير النظام السياسي في طهران. وفي حين ترفع الإدارة الإسرائيلية يافطة ضرورة توجيه الضربة العسكرية إلى منشآت عسكرية، واقتصادية، وسيادية، ونووية داخل إيران، تعارض الولايات المتحدة بحزم مثل هذا التصعيد، مُفضِّلةً بقاء المواجهة ضمن حدود ضرب الميليشيات العقائدية. وهي معارضة وصلت حدّ الشجار بين الجانبين، وربما هي التي وقفت خلف تسريب بعض الوثائق عن خطط إسرائيل لضرب منشآت داخل إيران في الأيام الأخيرة. وهو خلافٌ يعمّقه خلافٌ آخر حول الموقف من النظام الإيراني؛ إذ بينما يدعو السياسيون في إسرائيل إلى العمل على تغيير النظام الإيراني، واستبداله بنظامٍ أكثر التزامًا “بالقواعد العالمية”، وبأمن إسرائيل، تؤكد الولايات المتحدة سواء على لسان الإدارة الديمقراطية الراهنة أم على لسان المرشح الجمهوري لخوض السباق الرئاسي، أن تغيير النظام السياسي في إيران ليس ضمن أجندتها، وأنها تفضل التوصل إلى اتفاقيات مع هذا النظام.
وليست هذه الخلافات مهمة من حيث دلالتها على الانشقاقات داخل صفوف الجبهة المناوئة لمحور المقاومة، وإنما هي مهمة من حيث دلالتها على الجهة التي تقود هذه المواجهة، وتُحدّدُ مَنطِقَها، وقواعدَها، وتضع لها حدوها، وغاياتها النهائية.
وبينما رغبت إسرائيل من وراء هذه المواجهة بالقضاء على الخطر الإيراني الوجودي بشكل نهائي، لكنّ عدم قيامها بإجراءاتٍ عمليّةٍ تُعبّرُ عن هذه الرغبة، يُظهِرُ أنّ إسرائيل مُلزَمَةٌ – حتى الآن – باتباع قواعد اشتباكٍ، وضعتها الولايات المتحدة، وتفرضُها على تل أبيب. وهي قواعد تهدف إلى تحقيق مكاسب استراتيجية، رسمتها الولايات المتحدة، وتتمثّل في: تقليمِ المخالب الإيرانية، ونَزْعِ ورقة النُّفوذ الإقليمي من يد صانع القرار في طهران، تمهيدًا لإعادة طهران إلى طاولة الحوار، بعد أنْ تُصبح “منزوعَة المخالب والأوراق”.
وبهذا المعنى، فإنّنا أمام حربٍ تمارسُها إسرائيل بدعم أمريكي وغربيٍّ صَريحٍ، لكنْ ضمن قواعد ترسمها واشنطن من أجل تحقيق أهدافٍ استراتيجيّةٍ أوسعَ نطاقًا، تتجاوز حدود النّزاع الإيراني-الإسرائيلي، والمصالح الحيويّة الإسرائيلية. وتتباينُ المعالجة الأمريكية في منهجيّاتها مع الرؤية الإسرائيلية لجوهر الصّراع، وإن كانت تُقرُّ لإسرائيل بحاجتها إلى ترميم الرّدع، والتّعامل مع القوى والتنظيمات المسلحة الموالية لطهران أو المتحالفة معها.
الاستنتاجات والاحتمالات
تجري المُواجهة الإقليميّة في غرب آسيا، بين إسرائيل من جهة، وإيران وشبكة وكلائها الإقليميين من جهة ثانية. لكنّ تأمُّل الصورة الكُليّة للمشهد، يُظهِرُ أنّ حدود هذه المواجهة، ومنهجيّاتها، وأهدافها الكبرى، إنّما تفرضُها الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى استثمار هذه الفرصة التاريخية، لمعالجة معضلاتٍ استراتيجية حالت دون إيجاد حلٍّ مُرضٍ للعُقدة الإيرانية، بما فيها الملف النووي، كما حالت دون نجاح استراتيجيات أمريكية كبرى في منطقة الشرق الأوسط، أُعِدّت من أجل التصدّي للتحدّي الصّيني الذي تعتبرُه الولايات المتحدة التّحدي الأهمّ لهيمنتها العالميّة.
وفي إطار هذه “الصورة الكليّة”، تبدو الولايات المتحدة هي التي تُحدّد قواعد المواجهة العسكرية في الشرق الأوسط، وتفرضُ مَنْطِقَها، وحُدودَها. وتحرِصُ على ألّا تُتَجاوَز تلك الحدود، حتى إذا رغبت إسرائيل في تجاوُزِها. وتبدو حربُ إسرائيل “الوجودية” في هذه الصُّورة الكليّة “آلية فعّالة” تمارسُ الولايات المتحدة من طريقها، خطّتها لتغيير المعالم الإقليميّة، بما يتناسبُ مع رؤيتِها الاستراتيجية.
وتُعارض واشنطن، وفق هذه الرؤية، توجيه ضربةٍ قاتلةٍ للنظام الحاكم في إيران، أو العمل على تغييره بالقوة. بل تستهدفُ من وراء هذه المواجهة، تقليمَ أظفار طهران، وإعادتها إلى طاولة المفاوضات النوويّة منزوعَة القوة والتأثير الإقليمي، وهو ما من شأنه مُعالجة مخاطر البرنامج النووي الإيراني من دون الحاجة إلى عمل عسكريّ. وقد تكتفي الولايات المتحدة بتوفير أنظمة دفاع جويّ فعّالة للأطراف الإقليميّة لمواجهة خطر التّرسانة الصاروخيّة الإيرانيّة من دون أن تسعى إلى ضرب البرنامج الصاروخي الإيراني. وبذلك تضمن واشنطن استمرار مبيعات الأسلحة إلى الأطراف الإقليميّة التي بلغت في العام الماضي أكثر من 90 مليار دولار، بنسبةٍ مئويّةٍ تُقارِبُ 40% من مجموع مبيعات الأسلحة الأمريكيّة.
وعلى الرغم من أنّ الجانب الأمريكي حقّق -حتى الآن- درجةً عاليةً من النّجاح في فَرْض قواعد الاشتباك بما يتناغم مع رؤيته الاستراتيجية، إلّا أنّ ذلك لا يعني انعدام التأثير الإسرائيلي على المشهد، ويبقى واردًا احتمالُ قيامِ إسرائيل بخطوةٍ من شأنها تغيير “قواعد اللعبة”. كما أنّ السّيطرة الأمريكيّة على المشهد حتى اللحظة، لا تعني أنّ واشنطن هي القوة العالمية الوحيدة المؤثرة في المواجهة الجارية، ومآلاتها، والتي تبقَى محطّ اهتمام قُوىً كُبرى على رأسها: روسيا، والصين. ويمكنُ ملاحظةُ بوادرَ لهذا الاحتمال، في جهود روسيا لتزويد الجانب الإيراني بأنظمة دفاع جوي متطورة من طراز S400، أو تزويدها بصواريخ “فرط صوتية”، وصواريخ كروز متطورة مضادة للسفن.
ويبقى من المحتمل أيضًا، وإن بدرجاتٍ أقلّ، أنْ تمضي إيران نحو خيار “الرّدع النووي”، سواء عبر الحصول على السّلاح النووي، أو الحصول على المظلّة النووية الروسيّة؛ ما من شأنِهِ أنْ يُطيحَ بكلّ الجهود المبذولة لترويضِ إيران، أو “تقليمِ أظفارها”، وإعادتِها إلى طاولة المفاوضات. وحينَها ستكون واشنطن أمام واقعٍ جديدٍ كليًّا، يستلزمُ منها بكلّ تأكيد، تغييرًا في قواعِد المُواجهة.