في أصل الحصار السياسي الذي أدّى إلى إجراء انتخابات ١٧ أيلول/سبتمبر، تخلّى الزعيم اليميني المتطرّف أفيغدور ليبرمان عن مشاعره المعادية للعرب؛ ليهاجم المتديّنين في أشدود، حيث أنّ هذه الاستراتيجية باتت تجدي نفعًا مع الناخبين المنحدرين من الاتحاد السوفييتي السابق.
يتردّد صدى القطع النقدية في نادٍ للألعاب في أشدود، أكبر ميناء في إسرائيل ومعقل اليمين المتطرف، في الغرفة حيث عشرات ألواح اللعب لا يوجد سوى رجلين في السبعينات من العمر، واحدٌ منهم فقط يتحدّث العبرية.
هو ألكسندر كليتمان المتقاعد ذو السبعين عامًا، كان صانع ساعاتٍ في روسيا قبل أن يصبح عاملًا عاديًّا في معمل ساعات عندما وصل إلى إسرائيل بعد فترةٍ وجيزة من انهيار الاتّحاد السوفييتي.
هذا المصير الكلاسيكي هو مصير ملايين من المهاجرين (العليا) الروس_عليا هي كلمة عبرية تشير إلى هجرة اليهود إلى أرض الميعاد أما عن هجرتهم خارج خارجها فتسمى يريدا_.
لتصويت هؤلاء الروس تأثيرٌ كبير على بقاء السياسي بنيامين نتنياهو في انتخابات ١٧ أيلول/سبتمبر من عدمه، نتنياهو الذي لم يعد قادرًا على تشكيل ائتلافٍ في حزيران/تموز الماضي بسبب انشقاق حليفه السابق أفيغدور ليبرمان القومي المتطرّف الملقّب ب”قيصر” الكتلة الناطقة باللغة الروسية في إسرائيل.
في هذه الأزمة أُجبِر رئيس الوزراء البرلمان على حلّ نفسه ليجدّد فرصته مرة أخرى من خلال صناديق الاقتراع، وهذا ما أغضب كليتمان (عامل الساعات الروسي الأصل) “انتخابات عامَّة لمرتين في عامٍ واحد! إنها لعبة أطفال ترمي الملايين في سلّة المهملات”.
كما هو الحال دائمًا سيُصوّت لصالح حزب ليبرمان (إسرائيل بيتنا)، ليس فقط لأنه روسي _ولد ليبرمان في مولدوفا ١٩٥٨_ بل أيضًا لأنّه الوحيد الذي “يفهم المشكلة”.
في هذا المجال يقول كليتمان “بيبي _نتينياهو كما يطلق عليه اليسار_ في قبضة المتدينين، فبفضله تسير الحريديم بسلاسة” _الحريديم الخشية من الله بالعبرية وهذه الكلمة تدل على جماعة أصولية يهودية_.
ويتابع كليتمان أن “هؤلاء الناس (الحريديم) لا يذهبون إلى الجيش ولا يعملون ولا يعرفون شيئًا خارج التوراة، كل ما يفعلونه هو أخذ أموالنا، عائلات من عشرة أطفال لا يمكنهم الاعتماد على أنفسهم ولا القتال، فماذا يُحَضَّر لنا كبلدٍ بعد خمسة عشر عامًا إن بقي الحال هكذا”.
“جمهور الناخبين من اليسار”:
يلخّص هذا الخطاب العنيف حمْلة وزير الدفاع المستقيل وآخر مدافعٍ عن الحكومة، وهو اليد اليمنى لنتنياهو، وهو أيضًا الشهير بمواقفه المعادية للعرب، غيّر عداواته ونصّب نفسه قائد جوقة العلمانية.
ليبرمان كما قال أحد أعضاء إسرائيل بيتنا”حصنٌ ضدّ أولئك الذين يريدون وضعنا قلنسوةً على رأس السلطة”، هؤلاء يردّدون كما تقول الملصقات الطرقية “نعم للدولة اليهودية، ولا لدولة القانون اليهودي”.
“إنّ الناخبين الناطقين بالروسية ثلاثة أرباعهم علمانيون غريزيًّا غيروا المشهد السياسي الإسرائيلي بعمقٍ خلال ربع قرن” هذا ما قالته ليلي جليلي المؤلفة المشاركة في كتاب( The million that chamged the Middle East )
وتتابع جليلي “هذه الكتلة الضخمة كانت حاسمةً في كلّ انتخاباتٍ تشريعيةٍ تقريبًا منذ عام ١٩٩٢ بدءًا من إسحاق رابين إلى إيهود باراك وطبعًا نتنياهو أيضًا” وتتابع جليلي أنه “منذ باراك ارتكب اليسار خطأ في تجاهل هؤلاء الناخبين، وهو ما يحصل اليوم مع اليمين”.
وعن هذا الخطأ يقول شيمون بيريز: “لقد كان أحد أكبر أخطائنا”، لذلك فإن الذين يسميهم الإسرائيليون غير مبالين بغض النظر عن بلدهم الأصلي، قد ابتكروا عمليًّا مفهوم اليمين الشعبي المتطرّف، ولكنهم معادون للتدخل الديني، خاصّةً في القضايا العملية مثل العمل خلال أيام السبت أو الزواج.
في إسرائيل لا يوجد اتحادٌ مدني، لذلك فإنّ الآلاف من المهاجرين من الاتحاد السوفييتي “غير اليهود” يُجبرون من قبل الحاخامية الكبرى على الزواج في الخارج.
الآن تغير كلّ شيء، فمن خلال مطالبته لنتنياهو بإنهاء الخدمة العسكرية المتشدّدة كسر ليبرمان اليمين ووضع القضية الأمنية بالدرجة الثانية لصالح النقاش الديني.
“نحن في قلب اللعبة”:
تلخّص ستيلا وينشتاين ٣٢ سنة، وهي عضو مدينة أشدود في (إسرائيل بيتنا) منذ مراهقتها “مقاعدنا الخمسة التي لا يمكن المساس بها في الكنيست هي من أنقذتنا في انتخاباتٍ سابقة، لكنها ليست الطموح الحالي لمرشحنا، لأننا في الانتخابات السابقة كنا نلعب من أجل بقائنا فقط، نحن الآن في قلب اللعبة”.
بالفعل إذ تعطي النتائج الحالية لستيلا الحق فيما قالت، لأن هذه النتائج تضع حجر الزاوية للحكومة القادمة.
أعضاء هذا الحزب ينشطون في زوايا مدينة أشدود الأربعة التي تتميز بالتعايش مع مجتمعها الناطق بالروسية الهام للغاية (ثلث الدائرة) يضاف إليهم واحدةٌ من أكبر فرق (الحريديم) في البلاد.
هؤلاء الرجال ذوو اللباس الأسود والشعر المجعّد _٢٠٪ من سكان أشدود_ يشكلون جزءًا من المنظر الطبيعي للمدينة.
يُذكر أنه في العام الماضي اشتبكت المجموعات فيما وصفته الصحافة الإسرائيلية “حرب السبت” حيث خرج الآلاف من الناطقين بالروسية إلى الشوارع ضد أوامر البلدية القاضية بإغلاق مراكز التسوق خلال يوم الراحة حسب التوقيت اليهودي، طبعًا كان ذلك بضغطٍ من الحريديم.
بالنسبة لستيلا وينشتاين فإن تصويت ١٧ أيلول/سبتمبر بمثابة استفتاءٍ على مكان الدين في المجتمع، وبرأيها فإن مثل هذه النقاشات تأخرت كثيرًا، وهي في نفس الوقت تتجاوز مخاوف الكتلة الروسية.
وتقول ستيلا “نحن لسنا ضد الدين اليهودي، بطبيعة الحال فإن ليبرمان يأكل حلالًا ويريد أن يكون قادرًا على الذهاب إلى لعبة كرة القدم مع ولده وتناول القهوة على التراس”.
وأيضًا تعتبر ستيلا أن ما يحدث من قِبَلهم إنما هو تعبيرٌ عن “الحرية” وليس دفاعًا عن قضية الهوية، حيث أنه وبرأيها لا يجب أن يَحبس جزءٌ من السكان أنفسهم في الأحياء اليهودية التي “يتعين على بقية المجتمع تمويلها حتى النهاية”.
وتنتقد ستيلا المتدينين اليهود حيث ترى أنهم “يسعون هم أنفسهم لإنشاء دولة داخل الدولة التي يريدون فرض قانونها علينا”.
وهكذا فإن ليبرمان يعيش من الآن فصاعدًا كرجل “عش ودع غيرك يعيش”، فهو بذلك يريد أن يكون محترِمًا للمجتمع، إذ يشجع حكومة وحدةٍ وطنية فوق الانقسامات ومتحرّرة من المتدينين ومن نتنياهو أيضًا بلا شك، كما يقول المعلقون.
في هذا التحول الاستراتيجي بحسب جليلي “حدّد ليبرمان نقطة ضعف نتنياهو وهي اعتماده على الأرثوذكسية المتطرفة، فهو بعيد جدًا عن هذا العلماني الذي يحاول أن يتقمصه”.
وتبرّر جليلي فكرتها هذه أن “نتيناهو كان طول حياته في تحالف مع المتدينين، وعقد صفقاتٍ مع الحاخامات الأكثر راديكالية، وقد اختار العمدة الجديد للقدس المرتبط جدا بالحريديم”.
في الحي الشعبي (يود غيميل) تقع لوحات الأكشاك في مركز التسوق المتداعي، كلها تقريبًا مكتوبةٌ بالأبجدية الكيريلية _نظام كتابة يستخدم في عدة أبجدياتٍ عبر أوراسيا_، وحتى الصحيفة المحلية مكتوبة بهذه الأبجدية.
هناك يحذّر رجلٌ ستيني مولودٌ في جورجيا “هنا يوجد حي ليبرمان، لكن يجب أن نصوت لصالح بيبي_نتينياهو_ لأنه بصرف النظر عن وسائل الإعلام فإنه يُبلي بلاءً حسنًا”.
وخلف واجهة محلٍ يبيع الأطعمة ومنها لحم الخنزير يقف يوني، وهو شاب “روسي مولودٌ هنا” يرى الأمور من زاويةٍ مختلفة، يشير نحو موقف سياراتٍ “سقطت قطعة من صاروخ هناك في أيار/مايو، لهذا السبب، بيبي”.
أشدود تبعد ٣٥ كم فقط عن غزّة، بحلول عام ٢٠١٨ استقال ليبرمان من وزارة الدفاع احتجاجًا على “ابتزاز المافيا” التي قامت به حماس في إشارةٍ إلى الدفعات الشهرية لقطر للقطاع والتي سمح بها نتنياهو مفترضًا أنها “جلبت الهدوء”.
وشابان إسرائيليان أوكرانيان من جهةٍ أخرى يشكّكان بما يحدث، فملصقٌ عملاقٌ لفلاديمير بوتين ونتنياهو يغطيّان مقر الليكود، ورحلةٌ مؤخرًا مثيرةٌ للجدل قام بها رئيس الوزراء إلى كييف.
على هذا جنادي لودمسكي ذو ال٤١ عامًا والذي يجمع مثل الكثير بين وظيفتين (فني أسنان ومنقذ سبّاح) يقول ممازحًا “الرئيس الجديد (الممثل فولوديمير زيلنكسي) يهودي، وهو بطبيعة الحال في الجيب، أليس كذلك؟”.
ما هو الهدف؟ يتساءل لودمسكي ويتابع تساؤله “هل هو لجذب الروس؟ إن كان هكذا فهذه عنصرية، لأنّ هؤلاء سيكونون لا يزالون مرتبطين بهويتهم ومتواطئون”.
ويقول لودمسكي: “أنا إسرائيلي عشتُ في كندا ولا أهتم إن تحدثوا معي بالروسية” على الرغم من كل شيء يُفشي لودمسكي اسمين لا يمكنه أن يبقى لا مباليًّا تجاههما: ليبرمان ويئير لابيد.
يُعتبر لابيد سدًا أسود ضدّ الحريديم وتحالف مع الجنرال بيني غانتس، ولكنه يعاني من الصورة النخبوية المفصولة عنه وهي”تل أبيب”.
وبعيدًا عن ناخبي ليبرمان، فيما يخص انتخابات ١٧ أيلول/سبتمبر وقع غانتس ولابيد اتفاقيةً لتقاسم الفائض من أصوات ليبرمان وهذا ما يعتبر تقاربًا سياسيًّا بينهما.
آخر شعار لحزبهم أزرق-أبيض كشف النقاب عنه قبل أسبوعٍ من التصويت “حكومةٌ علمانية أو حكومة دينية أنت فقط من سيقرّر”.
ويصطاد ليبرمان الآن في المناطق المركزية والبرجوازية ويدفع ثمن ملصقاتٍ لحملته “اجعل إسرائيل طبيعية مرةً أخرى” من أجل جذب شباب المدن، وهي ما يسميه الديمغرافيون “الجيل ١٠٥” للكتلة الروسية.
أما عن أطفال المهاجرين الذين ولدوا أو وصلوا من صغرهم إلى إسرائيل، والذين يتحدثون العبرية بدون نبرتها الأصلية، فقد أدوا خدمتهم العسكرية ويدّعون “إسرائيليتهم”.
وتقول عنهم ستيلا وينشتيان “لقد فقدنا هذا الجيل ولكن استعادته تصريحات نتنياهو المستهينة وليبرمان حشدهم” وتتابع ستيلا في نفس الموضوع “عندما يقول بيبي أنه هو من صنع ليبرمان سيسمع كل الجيل خطاب هذه النخبة”.
وتوضح ستيلا أن جميع حراس المراكز التجارية تقريبًا لديهم شهادة هندسة من روسيا، ومع ذلك “يمكننا دفع تكاليف دراستنا وشراء شققنا دون الاعتماد على الأبوين”.
وبالسنبة إلى ليلي جليلي فإن هذا الأمر قبل كل شيء هو الطريقة التي يعامل بها الحاخام الأكبر يهوديتهم “بشكّ”، وهذا برأيها ما يحفّز هذه العودة إلى الهوية “أصبح ليبرمان بمثابة تصويتٍ لما هو قديم”.
إذًا هذا الخطاب المعادي أحيا الحزب، فعندما يقول بيبي أن المتشدّدون هم “شركاء طبيعيون” فإن (الجيل ١٠٥) يعتبره حليفًا لأعدائهم، فهم الذين يجعلون حياتهم صعبة.
بيني شليزنجر جراحٌ في تل أبيب هو المثال النموذجي عن هذا الجيل الذي تعافى من التفكيك، تصوت عائلته لصالح ليبرمان، لكنه هو وأصدقاؤه يميلون إلى اليسار إلى جانب بيرتس.
ومع ذلك فهو يفهم الإغراءات “على الرغم من أن معظم مواقفه أبعدته عني فإن ليبرمان يقدم الخيار الوحيد الواضح بشأن مسألة الإكراه الديني”.
ويتابع شيلزنجر أن “الآخرون يحاولون أن يكونوا على صوابٍ سياسي، ومن هنا لا يوجد حل وسط بين العلمانية الصادقة والانتهازية، لذلك فإن علمانية ليبرمان يمكن أن تؤدي إلى نهاية عهد نتنياهو”.
غيوم جندرون لصحيفة ليبراسيون ٩ أيلول/سبتمبر ٢٠١٩
الرابط الأصلي من هنا
رابط المصدر: