- مع توجه الأنظار نحو الصراع في لبنان، تتفاقم أزمة النزوح في سورية، مما يضيف أعباء جديدة وتداعيات اجتماعية واقتصادية وإنسانية على بلد أنهكته أعوام طويلة من النزاع وأصبح في حالة هشة للغاية.
- أدَّت أزمة النزوح من لبنان إلى توترات في بعض المناطق السورية، وإذا استمرت وتفاقمت فقد تصبح مشكلة أكثر خطورة تدفع باتجاه توترات اجتماعية بين الوافدين والمجتمع المحلي.
- اقتصر النشاط الإقليمي والدولي لدعم النازحين اللبنانيين والسوريين على مبادرات محدودة حتى الآن، لعل أهمها مبادرة القيادة الإماراتية لتقديم حزمة مساعدات إغاثية عاجلة بقيمة 30 مليون دولار إلى النازحين اللبنانيين إلى سورية.
- من المهم أن يبادر المجتمع الدولي إلى تسريع تقديم المساعدات إلى سورية للتخفيف من أزمة النزوح، وتشجيع السوريين العائدين على الاستقرار داخل بلادهم.
فرض تصاعد التوترات في منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً الحرب في لبنان، واقعاً جديداً مع عودة ونزوح مئات الآلاف من السوريين واللبنانيين. وفي حين تتجه الأنظار نحو الصراع في لبنان، تتفاقم أزمة النزوح في سورية، مما يضيف أعباء جديدة وتداعيات اجتماعية واقتصادية وإنسانية على بلد أنهكه 14 عاماً من النزاع وأصبح في حالة هشة للغاية.
أنماط النزوح الرئيسة وخصائصها
بدأ النزوح السوري واللبناني تجاه سورية مع بداية الحملة الجوية الإسرائيلية العنيفة يوم 23 سبتمبر، والتي طالت مناطق الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية[1]. من الصعب جداً الخروج بتقدير دقيق لعدد العائدين السوريين والنازحين اللبنانيين الذين عبروا إلى الأراضي السورية بعد مرور أسبوعين على اندلاع النزاع في لبنان، إلا أن هذا الرقم يتراوح غالباً بين 220 و250 ألف وربما يصل إلى 300 ألف أو أكثر. ويعود ذلك لتباين الأرقام والإحصائيات التي تأتي بشكل أساسي من جهتين: مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في سورية، والحكومة السورية، ونظراً إلى أن عدداً لا بأس به من النازحين يقطعون الحدود بشكل غير رسمي.
وتشير تقديرات المفوضية، التي بنتها على معطيات جمعها الهلال العربي السوري على المعابر الرسمية[2]، إلى أن 70% من 220 ألف الذين دخلوا سورية هم من من السوريين العائدين، ونسبة الـ 30% المتبقية هم لبنانيون[3]. أما إحصائيات الحكومة السورية فتشير إلى عودة 233 ألف سوري ونزوح 86 ألف لبناني من المعابر الرسمية مع نهاية يوم 6 أكتوبر، حسب جريدة الوطن. فيما صرح وزير الداخلية اللبناني لقناة “العربية” يوم 7 أكتوبر أن 400 ألف سوري ولبناني نزحوا إلى سورية منذ بداية النزاع. ويبدو التدهور السريع في الوضع لافتاً، فطبقاً للمفوضية بلغ عدد النازحين 11 ألف في 25 سبتمبر، و40 ألف في 27 سبتمبر، و69 ألف في 28 سبتمبر، و100 ألف في 29 سبتمبر، و128 ألف في 30 سبتمبر، و160 ألفاً في 2 أكتوبر، و186 ألفاً في 3 أكتوبر، و206 آلاف في 4 أكتوبر، وصولاً إلى 220 ألفاً في 5 أكتوبر. وهنا يمكن تسجيل عدة ملاحظات مهمة:
- يرجع التباين في الأرقام إلى احتمال وجود مصلحة للحكومة السورية في تضخيم الأعداد للحصول على المزيد من المساعدات. ومع ذلك، يجب الأخذ بالاعتبار أن أرقام الحكومة مبنية على بيانات الهجرة والجوازات، بينما تبني الجهات الإنسانية تقديراتها على معاينات ميدانية بسبب وجودها على كل المعابر. مما يجعل من المرجح أن تكون تقديرات الأمم المتحدة أكثر تحفظًا، بينما تكون تقديرات الحكومة مبالغا فيهاً.
- طبقاً لمشاهدات موثوقة، فقد دَخَلَ الآلاف من لبنان عبر المعابر غير الرسمية (مثل معبر مطربة)، وذلك لعدة أسباب:
- بالنسبة للسوريين، دخل العديد عبر معابر غير رسمية، قبل 29 سبتمبر، لتفادي تصريف 100 دولار أمريكي بسعر تصريف المصرف المركزي السوري (وهو أقل من القيمة السوقية للدولار)، والذي تشترطه الحكومة السورية على أي مواطن عائد لبلده، قبل أن توقف الحكومة العمل بهذا القرار يوم 29 سبتمبر ولغاية يوم 6 أكتوبر(مُدِّدَ وقف العمل بالقرار حتى 16 أكتوبر).
- يحتمل أن العديد من الذكور لجأوا إلى المعابر غير الرسمية، خاصةً في حال وجود مذكرات أمنية بحقهم، لتفادي الخدمة العسكرية الإلزامية أو الملاحقة الأمنية.
- دخول الكثيرين بطريقة غير شرعية سببه أنهم لاجئين مسجلين لدى المفوضية في لبنان، وبالتالي فهم مؤهلون لتلقي المساعدات المادية التي لا يريدون خسارتها، إذ بمجرد تسجيل مغادرتهم الأراضي اللبنانية يخسرون صفة اللاجئ. بالإضافة إلى ذلك، قد يعني الخروج بشكل قانوني أنهم لن يتمكنوا من العودة إلى لبنان بعد انتهاء الحرب.
- على رغم هذا النزوح الكبير، لم تُسجل مراكز الإيواء التي أعدتها الحكومة السورية إلا استقبال حوالي 10,000 مواطن لبناني فقط من أصل حوالي 65 ألفاً نزحوا إلى سورية (بحسب المفوضية). وقد يعود ذلك لأسباب عدة، من بينها:
- إن الكثير من اللبنانيين الذين نزحوا إلى سورية هم من الطبقة الوسطى، حيث استأجروا غرفاً فندقية (إذ منحت الحكومة السورية خصماً يصل إلى 60% على أجور الفنادق للبنانيين)، أو شققاً في المدن السورية، وهم لا يحتاجون بالضرورة للدعم (في هذا الوقت على الأقل).
- تُشكل بيئة حزب الله الاجتماعية جزءًا مهماً من النازحين، وتشير المشاهدات إلى قيام عناصر في جهاز الحزب باستقبال النازحين على معابر رسمية وغير رسمية وتأمينهم، خاصة في منطقة القصير في ريف حمص، حيث يوجد حزب الله بشكل علني منذ سنوات طويلة. ويوجد احتضان للنازحين اللبنانيين في مناطق ذات أغلبية شيعية في سورية (ومناطق أخرى)، وتقوم جمعيات أهلية بتأمين ما يحتاجونه. وعليه، فإن معظم النازحين اللبنانيين حتى اليوم هم إما قادرون على إعانة أنفسهم ذاتياً أو يحظون برعاية اجتماعية من المجتمع الأهلي المتضامن أو المتعاطف معهم.
- بالنسبة للسوريين، فإن عدم تسجيل توجُّه أي منهم لمراكز الإيواء يعود لعدة أسباب، من بينها: أنهم -كما هو الحال مع النازحين اللبنانيين- من الطبقة الوسطى وما فوق، ولذا فإن بمقدورهم إعالة أنفسهم (حتى الآن على الأقل)؛ ولديهم القدرة على العودة إلى مسكنهم الأصلي أو الإقامة عند أقارب؛ عدم الرغبة في الوجود في مراكز الإيواء الرسمية ليبقوا بعيدين عن عيون الأمن السوري (خاصةً في حال وجود مذكرات أمنية بحقهم)، وكذلك عن عيون المفوضية، وذلك تجنباً لخسارة بطاقة اللاجئ التي يستفيدون منها في لبنان.
يصعب تحديد التوزيع الجغرافي للبنانيين والسوريين داخل سورية بدقة، خاصة أن معظم اللبنانيين لم يتوجهوا إلى مراكز الإيواء، ما يعني أنهم على الأرجح اتجهوا إلى مناطق تتوفر فيها شبكات دعم اجتماعي، حيث توجد مجتمعات شيعية وقاعدة شعبية داعمة لحزب الله، وتحديداً في مناطق ريف دمشق، وحمص، والقصير، ومناطق أخرى (انظر الخريطة رقم 1).
وبالنسبة للسوريين، فقد أعلنت الإدارة الذاتية عن وصول 12,000 سوري وتسعة لبنانيين، في حين دخل ما يقارب 1500 شخص إلى مناطق المعارضة عبر معبر عون الدادات.
خريطة 1: النزوح من لبنان إلى سورية بين يومي 24 سبتمبر و5 أكتوبر 2024
الاستجابة لأزمة النزوح
تأتي موجة النزوح هذه في ظل أوضاع إنسانية واقتصادية صعبة في سورية، ولا تحظى حتى اليوم بالاهتمام الكافي على رغم التدفق الكبير الذي حصل في أول أسبوعين من النزاع في لبنان. وتتزامن الأزمة مع ضعف شديد في إمكانات الحكومة السورية على توفير الخدمات الأساسية اليومية للسوريين، وتراجع كبير في حجم التمويلات الإنسانية، إذ مع انقضاء تسعة أشهر من هذا العام، لم يتم تمويل سوى 26.2% من خطة الاستجابة الإنسانية في سورية لعام 2024 (1.07 مليار من أصل 4.07 مليار طالبت بها الوكالات الأممية مطلع العام). وكان أبرز أوجه هذا التراجع وقف برنامج السلة الغذائية الذي كان يستفيد منه ما يقارب خمسة مليون سوري لضمان أمنهم الغذائي.
وهناك اليوم ثلاث مستويات من الدعم الفعلي والمحتمل للوافدين من لبنان: دعم الجمعيات الأهلية، ودعم الحكومة السورية، والدعم الأممي.
1. الجمعيات الأهلية: مع بداية النزوح برز دور الجمعيات الأهلية من المتعاطفين مع المهجرين لأسباب سياسية أو وطنية في احتواء النازحين ومساعدتهم، وخاصة اللبنانيين. ويبرز دور العديد من الجمعيات الخيرية في الطائفة الشيعية في سورية يدعمها رجال أعمال مقتدرون، ولها القدرة على التعامل مع أزمة النزوح، لولا أن الحديث اليوم عن ما لا يقل عن 65 ألف لبناني نزحوا إلى سورية، ومن الصعب التنبؤ بقدرة هذه الجهات الأهلية على الاستمرار في دعم النازحين اللبنانيين في حال طال الصراع أو تضخمت أرقامهم بشكل كبير. ومن المتوقع أن تؤدي إيران دوراً في دعم هذا المجهود، وقد هبطت طائرة إيرانية محملة بالمساعدات للنازحين اللبنانيين يوم 2 أكتوبر في قاعدة حميميم الروسية في محافظة اللاذقية، ووصلت طائرة أخرى يوم 7 أكتوبر. كما كان دعم النازحين اللبنانيين إحدى المواضيع التي ناقشها وزير الخارجية الإيراني في زيارته لدمشق يوم 5 أكتوبر. ولا يمكن تناسي أن حزب الله كان فاعلاً في سورية طيلة سنوات النزاع، وله وجود وازن في عدة مناطق، خاصة أرياف حمص ودمشق، وهو ليس وجوداً عسكرياً صرفاً بل له أبعاد اجتماعية.
2. الحكومة السورية: أكد الرئيس السوري بشار الأسد في كلمته أمام الجلسة الأولى للحكومة التي شكلها مؤخراً على أن دعم اللبنانيين يمثل أولوية في الوقت الحالي. وقد تبع ذلك سلسلة من الإجراءات، إذ أرسلت الحكومة السورية 20 طناً من الأدوية إلى لبنان، وفتحت وجُهِّزت مراكز الإيواء، كما جرى تسهيل حصول اللبنانيين على شرائح اتصال للهاتف الخليوي في سورية، بالإضافة إلى مبادرات أخرى.
3. المنظمات الأممية: نشطت على معظم المعابر منذ بداية النزوح لتقديم المساعدات للنازحين، سواء بشكل مباشر أو عبر الهلال الأحمر، إلا أنها وبسبب انخفاض التمويل لن تكون قادرة على التعامل مع موجة النزوح حتى وإن قامت بإعادة توجيه مواردها المحدودة من تدخلات أخرى نحو هذا الملف. وفي 7 أكتوبر، بعد مرور أسبوعين على بداية النزوح، أصدرت الوكالات الأممية العاملة في سورية نداءً عاجلاً للمانحين لتمويل الاستجابة (على غرار ما فعلته في أعقاب زلزال عام 2023)، بقيمة 324 مليون دولار (مقارنة بـ 400 مليون طلبتها عند الاستجابة لزلزال 2023)، وذلك على غرار النداء الذي وجهته وكالات الأمم المتحدة في لبنان والذي طلبت عبره من المانحين 426 مليون دولار.
ويظل السؤال عمَّا إذا كانت الدول الغربية والعربية ستُقدم الدعم لسورية في مواجهة أزمة النزوح الحالية، وذلك في ضوء المواقف السياسية السلبية لدى معظم هذه الدول من حزب الله، وخصوصاً مبادرته للقتال في أعقاب السابع من أكتوبر 2023. في الأيام والأسابيع التي تلت زلزال عام 2023، توجهت مئات الطائرات عليها آلاف الأطنان من المساعدات للسوريين، كان لدولة الإمارات العربية المتحدة حصة الأسد منها. ولكن، وبعد مرور أسبوعين على بدء أزمة النزوح، اقتصر النشاط الإقليمي والدولي لدعم النازحين اللبنانيين والسوريين على مبادرات محدودة حتى الآن، لعل من أهمها مبادرة القيادة الإماراتية لتقديم حزمة مساعدات إغاثية عاجلة بقيمة 30 مليون دولار إلى النازحين اللبنانيين إلى سورية. كما تعهَّدت الولايات المتحدة بتوفير ما يقارب 160 مليون دولار من أجل دعم النازحين داخل لبنان وأولئك الفارين إلى سورية.
التداعيات على الداخل السوري
أولاً، على المستوى الاقتصادي. تترك أزمة النزوح والحرب في لبنان العديد من التداعيات على الاقتصاد السوري، وهي تداعيات سلبية في معظمها:
أ) تفاقم أزمة المحروقات: بدأ النزاع في لبنان بمفاقمة أزمة الوقود في سورية نتيجة تعطيل شبكات التهريب غير الرسمية. تعتمد سورية على النفط الإيراني، وشراء نفط عبر وسطاء من مناطق سيطرة الأكراد في شمال شرق سورية، والتهريب من لبنان لتعويض النقص الناتج عن انخفاض إنتاجها المحلي. ولكن تراجع واردات النفط الإيراني في 2024، وتصاعد الصراع في لبنان، ساهما في تقليص هذه الإمدادات تقليصاً كبيراً، وزيادة الطلب مع استمرار موجة النزوح، حيث شهدت سورية في الأسبوعين الماضيين أزمة مواصلات خانقة ضمن المدن وبين المحافظات نتيجة عدم تزويد الحكومة لوسائط النقل بمادة الديزل. كما ارتفعت أسعار البنزين اللبناني المهرب في السوق السوداء السورية من 330,000 ليرة سورية إلى 650,000 ليرة لكل 20 لتراً، إضافة لفقدان المادة بشكل كبير من السوق السوداء. عدا عن تزامنه مع دخول فصل الشتاء في سورية. وفي هذا التوقيت غير المناسب، وفي خطوة خُطِّطَ لها قبل الأزمة على الأغلب، رفعت الحكومة السورية سعر ديزل التدفئة المدعوم بنسب 150%.
ب) ارتفاع الأسعار: تشهد سورية ارتفاعاً في أسعار السلع يتراوح بين 10 و20 % حسب بعض التقارير، ويرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل، أغلبها مرتبط بتداعيات الحرب في لبنان. بشكل عام، تدفع الحروب وحالة عدم الاستقرار الناس إلى تخزين السلع الضرورية، في حين يلجأ التجار إلى تخزينها بغرض بيعها لاحقًا بأسعار مرتفعة. وهناك عامل رئيس آخر هو ارتفاع تكاليف النقل نتيجة زيادة أسعار الوقود، كما أن تصاعد النزاع بين إسرائيل وحزب الله يهدد بتعطيل ميناء بيروت، الذي يُعد بوابة حيوية للبضائع المتجهة إلى سورية.
ج) الضغط على الليرة السورية: إن سوء الأوضاع في لبنان، واستمرار عودة السوريين إلى بلادهم تاركين أشغالهم في لبنان، لهما انعكاسات سلبية على الحوالات التي يرسلها السوريون من لبنان إلى سورية. يعمل حوالي مليون سوري في لبنان بحسب تقديرات غير رسمية، وتُعد التحويلات المالية التي يرسلونها إلى عائلاتهم مصدراً مهماً للنقد الأجنبي في سورية. كما أن تعطيل مطار بيروت، الذي يستخدمه السوريون للسفر، يؤثر في تدفق المغتربين السوريين وأموالهم التي تشكل شريان حياة مهماً للعائلات السورية. ومن المتوقع أن يزيد النزاع في لبنان من الضغط على الليرة السورية، ما سيؤدي إلى مزيد من التضخم وزيادة كلفة المعيشة في سورية.
د) تداعيات اقتصادية إيجابية: قد يحمل الصراع تداعيات إيجابية للبعض في سورية، خاصةً الفنادق وأصحاب الشقق المؤجرة، إضافة إلى التجار (سواء الجملة والمفرق) نتيجة زيادة الطلب والاستهلاك. لكن وعلى الرغم من الفائدة التي ستعود على البعض، فإن التضخم الناتج عن هذه الحركة الاقتصادية سينعكس سلباً على شريحة أوسع من الشعب. كما يمكن أن تستفيد الحكومة بشكل عام من المساعدات الأممية والدولية والإقليمية التي قد تتدفق لدعم النازحين، خاصة في خضم انخفاض الدعم الأممي بشكل عام، كما حصل في أعقاب زلزال 2023. إلا أن أي دعم إضافي لن يكون كافياً للتعويض عن أعباء أزمة النزوح وآثارها المتعددة، والتي ستظهر بشكل أكبر مع مرور الوقت (كما حصل بعد الزلزال)، سواء على الحكومة ومؤسساتها أو على الشعب.
ثانياً، على المستوى الاجتماعي. أدَّت أزمة النزوح إلى توترات في بعض مناطق سورية، وإذا استمرت وتفاقمت فقد تصبح مشكلة أكثر خطورة تدفع باتجاه توترات اجتماعية بين الوافدين والمجتمع المحلي، سواء على أساس الهوية (لبناني-سوري)، أو الوضع الاجتماعي (عائد-شخص لم يغادر مجتمعه)، إضافة إلى خطر تعزيز مظاهر التكيف السلبية المنتشرة في سورية مثل السرقة وعمالة الأطفال والتسرب المدرسي والهجرة (خاصة نحو أوروبا)، إضافة إلى تعاطي وتجارة المواد المخدرة.
وتشير روايات متداولة إلى أن أهالي بعض المناطق رفضوا تأجير منازل لنازحين لبنانيين خوفاً من وجود عناصر حزب الله بينهم، مما -باعتقادهم- سيعرض منطقتهم لاستهداف إسرائيلي (على غرار عمليات الاغتيال من طريق الغارات الجوية). وفي مثال على التوترات الاجتماعية التي قد تحصل، شهدت مدينة حمص مظاهرات سيارة وإطلاق نار لمناصري حزب الله (من سوريين وربما لبنانيين) عند إعلان خبر اغتيال حسن نصرالله أثارت توتراً لدى سكان المدينة جرى التعبير عنه لوسائل إعلامية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، دون حصول ردود فعل مباشر.
وإذا اتبعت إسرائيل سياسة مشابهة لما تفعله في غزة في جنوب لبنان، فإن ذلك سيعني نزوحاً طويل الأمد لمئات الآلاف من اللبنانيين، سواء من قاعدة حزب الله الاجتماعية أو غيرها من المناطق التي تستهدفها العملية العسكرية الإسرائيلية، والذين لجأوا إلى مناطق آمنة في لبنان وسورية. إن استطالة النزوح ستؤدي إلى تعميق المشكلات المذكورة أعلاه، وقد تقود إلى تغيير ديموغرافي لبعض المناطق السورية، أو تخلق الانطباع بحصول ذلك، نتيجة لاستطالة النزوح، وإن كان هذا الاحتمال يبقى بعيداً في الوقت الراهن، على رغم التهويل الحاصل حوله من قبل بعض الجهات.
وتحمل التطورات الأمنية المتسارعة تداعيات على ملف النزوح إلى سورية. ففي 4 أكتوبر قصفت الطائرات الإسرائيلية الطريق الواصل بين معبري المصنع (الجهة اللبنانية) وجديدة يابوس (الجهة السورية)، مما أدى إلى قطع الطريق الدولية بين سورية ولبنان. وبما أن هذا المعبر يعد المنفذ الأساسي بين البلدين، إذ مَرَّ معظم من نزحوا إلى سورية عبره، من المتوقع أن يؤثر قطع الطريق في تدفق النازحين، على رغم استمراره بوتيرة أخف (نتيجة عبور النازحين سيراً على الأقدام). ومن تداعيات القصف أن العائلات اللبنانية التي أرادت النزوح لسورية بسياراتها ومتاعها الشخصي لن تتمكن من ذلك الآن. ومع مرور عدة أيام على قصفه لم يقم الجانب اللبناني، والذي وقع القصف من جهته، بأي محاولة لإصلاح الطريق. كما أن قطع الطريق الدولي أدى لتوقف الحركة التجارية بين سورية ولبنان بشكل شبه كامل.
خلاصة واستنتاجات
حتى الآن، أدت جهود الاستجابة الإنسانية إلى احتواء أزمة النزوح من لبنان إلى سورية، ولكن إذا استمرت نتيجة استمرار الحرب، فقد يشهد الوضع في سورية تدهوراً على مستويات عدة، خاصةً إذا ترافق مع غياب استجابة فعالة وشاملة من المجتمع الدولي لدعم سورية في مواجهة هذه الأزمة.
وقد يؤدي تزايد التوترات الاجتماعية الناتجة عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإنسانية إلى تقويض التماسك المجتمعي في سورية، مما قد ينعكس أيضاً في صورة تدهور أمني وزيادة في أساليب التكيف السلبي، وأهمها تعاطي وتجارة المخدرات والهجرة. إن عدم التعامل الجدي مع هذه القضايا سيزيد من احتمالية تفاقم الوضع الهش بالفعل، مما يعرض استقرار البلاد لمزيد من المخاطر التي ستنعكس سلباً على المحيط الإقليمي والدولي.
ومن المهم أن يبادر المجتمع الدولي إلى تسريع تقديم المساعدات إلى سورية للتخفيف من أزمة النزوح، خاصة مع التركيز على العائدين السوريين من لبنان. لقد كانت عودة السوريين من لبنان مطلباً قديماً للحكومة السورية، لكنه لم يتحقق. والآن، في ظل التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، تجد حكومة دمشق نفسها مضطرةً لاستقبال آلاف السوريين. ويمكن أن تسهم المساعدات الإقليمية والدولية في احتواء الأزمة وتشجيع العائدين على الاستقرار داخل سورية، بالإضافة إلى تمكين الجهات المعنية من جمع معلومات دقيقة حول أعداد العائدين، وتوزيعهم الجغرافي، ومناطق عودتهم.
لقد جُمِّدَت قضية التعافي المبكر في سورية مع تراجع المساعدات الإنسانية والإغاثية الطارئة، وذلك لأسباب عدة، أبرزها الفيتو الغربي، واستمرار الجهات الفاعلة في سورية في تحويل مسار المساعدات (aid diversion)، إضافة إلى تحوُّل الاهتمام نحو أزمات أخرى مثل أوكرانيا والآن إلى لبنان. واليوم، ربما تُشكل أزمة النزوح في سورية فرصة لإحياء مسألة التعافي المبكر المشروط في سورية. الهدف الرئيس قد يكون إحياء بعض القطاعات الحيوية في سورية، مثل الزراعة، وإعادة تأهيل البنية التحتية الأساسية من كهرباء، ومياه، ومستشفيات، بما يخدم السكان المحليين والعائدين. ويُشكل صندوق التعافي المبكر الذي تُخطط الأمم المتحدة لإنشائه في سورية فرصة مناسبة لتوجيه هذا الدعم وتأطيره.