- ثمة توافق خليجي كامل بأن التصعيد العسكري في الإقليم، وخاصة بين إسرائيل وإيران، لا يخدم المصالح الخليجية، ولا يصبّ في تعزيز رؤيتها للإقليم. وإذْ وجدت دول الخليج أنفسها عالقة في هذه المواجهة الإقليمية الخطِرة، فإن مصلحتها تقتضي بذل المساعي الدبلوماسية الكافية للحيلولة دون تخريب مقاربة خفض التصعيد التي تدعو إليها منذ سنوات.
- يستدعي الصراع في غزة، وبين إسرائيل وإيران، مأسسة مقاربة خفض التصعيد التي تتبناها دول الخليج باتجاه تأمين دعم المجتمع الدولي لها، والمضي نحو بناء نظام إقليمي جديد، يستبعد الحلول العسكرية ويحتضن الحوار والمفاوضات بوصفها أفضل وسيلة لحل الصراعات وإنهائها.
- من المفترض أن تستكمل إدارة ترمب نهجها الراغب في “إنهاء الحروب” و”عدم التدخل” باستراتيجية مساندة في الشرق الأوسط لمنع دعاة الحروب والتدخل العسكري في هذه المنطقة، وهي استراتيجية باتت أكثر إلحاحاً في أعقاب حرب غزة والمواجهة الإسرائيلية-الإيرانية.
في غياب حلول إقليمية شاملة، تبقى المقاربة الخليجية الملتزمة بخفض التصعيد بمنزلة إدارة بنّاءة لأزمات الإقليم، وأفضلُ، بما لا يُقاس، من الحلول العسكرية الجامحة، وحروب المنافسات والرؤى الإقليمية المتناقضة. لكنّ هذه المقاربة بقيت مُهدَّدَةً بأي جولة للصراع بين إسرائيل وإيران. ولهذا فإن تعزيز الفرص الاستراتيجية التي تخلقها المقاربة الخليجية بات يستدعي مزيداً من العمل الدؤوب لاحتواء ومعالجة التهديدات التي من شأنها تعطيل فاعلية “خفض التصعيد”. التحدي يكمُن في النجاح في إرساء تهدئة طويلة المدى يتخلّق في أثنائها معالم وقواعد إيجابية جديدة في المنطقة قد تُغري اللاعبين المختلفين بالمزايا الاستراتيجية لهذه التهدئة وتفضيلها على الصراع والاشتباك العسكري.
على مدى السنوات الأخيرة، أدركت دول الخليج العربية أن الترجمة الحقيقية لمقولة “تقاسم العبء” الأمريكية، والمناسبة لمصالحها الوطنية الاستراتيجية، هي السعي الخليجي إلى المشاركة في هندسة الإقليم باتجاه تعزيز خفض التصعيد. اقتضى ذلك التوجّه نحو إعطاء الأولوية للتنمية والازدهار والحوار والتعاون ودمج الجميع دون إقصاء، وتقليص عناصر التأزيم، ما أمكن.
هذه الترجمة الخليجية لا تصبّ في صالح الخطط الوطنية الاستراتيجية في التنويع الاقتصادي الخليجي، والاستعداد لمستقبل مختلف فقط، بل إنها أيضاً تتواءم مع مصالح الخليجيين الجيوسياسية؛ القائمة على محاولة منع قيام طرف إقليمي محدد بعينه بممارسة الهيمنة الإقليمية، واحتكار التفوق الاستراتيجي على باقي اللاعبين؛ لأن مثل هذه الهيمنة وَصفةٌ للحروب الدائمة والاستقطابات الحادة، وليست وَصفةً للاستقرار الإقليمي ومشاركة الجميع في بناء منظومة إقليمية شاملة ومتوازنة.
الإقليم بين رؤى متباينة
هناك توافق كامل بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي الستة بأن التصعيد العسكري في الإقليم، وخاصة بين إسرائيل وإيران، لا يخدم المصالح الخليجية، ولا يصبّ في تعزيز رؤيتها للإقليم. وجدنا إجماعاً خليجياً على الإدانة الشديدة لهجوم إيران على قاعدة العُديد في قطر. وبعد الانتهاك المُدان للسيادة القطرية من جانب طهران وجدنا تأكيداً قطرياً بأن “الحوار هو السبيل لتجاوز الأزمات الراهنة والحفاظ على أمن المنطقة”.
الدول الخليجية الست متفقة على أن المنطقة بحاجة إلى سياسات التنمية والتقارب والحوار والتسويات وليس إلى سياسات العسكرة والاستقطابات ومشاريع التمدد والهيمنة. وتُراهن الرؤية الخليجية على أن الدروس المستفادة من جولات الصراع والمواجهة المتعددة في الإقليم أثبتت أن الدبلوماسية والحوار والاحتواء تُعطي نتائج أفضل من الحروب وتَفاقُم حدة الصراع. ولطالما دعت دول مجلس التعاون منفردة أو بشكل ثنائي أو جماعي إلى ضرورة أن تتجنب كلٌّ من إيران وإسرائيل رؤيتهما الإقليمية الأحادية، التي تكاد تقترب من منافسة صِفرية على الهيمنة الكاملة، والفوز الساحق على الخصم، دون اعتبار للواقعية السياسية ومنطق التوازنات ومصالح باقي اللاعبين والفرقاء، الأمر الذي يكشف عقم هذه المقاربات، وجنوحها الإيديولوجي المفْرِط.
وإذْ وجدت دول الخليج أنفسها عالقة في هذه المواجهة الإقليمية الخطِرة، فإن مصلحتها تقتضي بذل المساعي الدبلوماسية الكافية للحيلولة دون تخريب مقاربة خفض التصعيد التي تدعو إليها منذ سنوات.
لقد كانت حرب غزة اختباراً خطيراً لهذه المقاربة. لم يتم تسجيل نجاح كبير في هذه المسألة في عموم الإقليم، لكن منطقة الخليج بقيت المكان الأمثل لنجاح هذه المقاربة، وصمود التقارب الخليجي-الإيراني. بيد أن التطورات الخطيرة الأخيرة في الصراع الإسرائيلي-الإيراني، التي شهدناها في يونيو الجاري، مثَّلت تهديداً جوهرياً لمقاربة خفض التصعيد الخليجية، وخُشيَ من أن يُجْهِز عليها، في حال رفض منطق المفاوضات، وعدم توقف الحرب. وفي هذا السياق، جاءت تحذيرات الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي دعا فيها إلى إنهاء الصراع الإيراني الإسرائيلي بسرعة، مُحذراً من “عواقب وخيمة” في حال استمرار الأزمة. وقال قرقاش للصحفيين إن الحرب “تُعيق” منطقة الخليج، باعتبار أن “هذه الحرب تُخالف النظام الإقليمي الذي تسعى دول الخليج إلى بنائه، والذي يُركز على الازدهار الإقليمي”.
وحتى مع وقف الحرب بين إسرائيل وإيران، سيُجبَر صانعو السياسات الأمريكيون على الاختيار بين رؤيتين متنافستين للشرق الأوسط. في السنوات الأخيرة، سعت الدول العربية بشكل متزايد إلى دمج إيران في المنطقة بدلًا من مواجهتها. في المقابل، تعتقد إسرائيل أنها لا تستطيع قبول ذلك. ونتيجةً لذلك، يُطالب الخليج بإلحاح بحلٍّ دبلوماسي. وسنراقب على مدى الفترة المقبلة مدى استعداد الجانبين الإسرائيلي والإيراني لتهدئة حقيقية، والتكيّف مع المعادلات الجديدة في موازين القوة.
ترفض دول الخليج مواجهة عسكرية إقليمية عالية المخاطر في جوارها. وهي تقرأ الأمور بنسبية، وبدت غير مترددة في الإعلان عن مخاوفها وقلقها من انزلاق الشرق الأوسط نحو صراع طويل الأمد، ومزعزع للاستقرار وأمن الطاقة، ومُقوِّض لخرائط الدول الوطنية وموزاييكها المتنوع المعقد. ومن المثير بحث وتقييم مدى تأثير التعبير عن تلك المخاوف في لجم دعوات تغيير النظام في إيران بالقوة، التي لاقت رفضاً خليجياً.
عواقب غير محسوبة
لقد منح انضمام سورية ولبنان في الأشهر الأخيرة إلى محور الداعين في المنطقة للبناء والاستقرار والدولة الوطنية ارتياحاً في الأوساط الخليجية، التي لا ترغب في رؤية ما يُقوّض هذا المسار؛ من طريق عواقب غير محسوبة لتفاقُم المكاسرة العسكرية الإسرائيلية-الإيرانية.
إن نهج خفض التصعيد، وتعزيز الحوار والدبلوماسية-وإن كان يُعدُّ إدارة للأزمة/ للأزمات وليس تقديم حل جذري لها- أفضل مما قد يبدو حلولاً راديكالية للمعضلات الإقليمية، في حين يكمُن في طيات هذه الحلول مغامرات غير محسوبة، ومخاطر غير مدروسة قد تُودي بالاستقرار الإقليمي الهش، وتخلق فوضى مجهولة التداعيات.
لقد كان صدى كلمات الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، في جولته الخليجية في مايو الماضي، مريحاً لدى دول مجلس التعاون الخليجي، ومن ذلك حديثه عن نهاية حقبة “التدخل الأمريكي”، وطي صفحة “المحافظين الجدد” و”بُناة الدول”.
وربما كان من المفترض أن تستكمل إدارة ترمب نهجها الراغب في “إنهاء الحروب” و”عدم التدخل” باستراتيجية مساندة في الشرق الأوسط لمنع دعاة الحروب والتدخل العسكري في هذه المنطقة، وهي استراتيجية باتت أكثر إلحاحاً في أعقاب حرب غزة والمواجهة الإسرائيلية-الإيرانية.
الخلاصة والاستنتاجات
إن دول الخليج تراهن على جهودها المتعددة في الوساطة والتواصل الدبلوماسي من أجل وضع ثقلها لمنع تجدُّد أي صراع غير محسوب العواقب بين إسرائيل وإيران. وتحاول دول الخليج، على رغم الإقرار بصعوبة محاولاتها ومراهناتها، أن تُغذّي مسار الانفراج الدبلوماسي والمفاوضات، بدل التصلّب والنهج الصقوري المدمّر، والدعوات لحرب طويلة. وكما يقول ولي نصر، “تريد إسرائيل محوراً مع العالم العربي من شأنه احتواء إيران، وتريد إيران حرمان إسرائيل من أي موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية. لكن من جانبهم، يريد قادة الخليج نظاماً إقليمياً يكبح جماح كل من إيران وإسرائيل مع تمكين حكوماتهم”، وإعطاء الأولوية للتهدئة والتواصل الدبلوماسي والاستقرار والازدهار والتكامل الإقليمي.
في نهاية المطاف، (قد) يعتمد مستقبل النظام في الشرق الأوسط على ما إذا كانت المواجهة العسكرية التي دارت في المنطقة ستُخاض (مجدداً) أم ستنحسر وتتوقف (لأطول فترة ممكنة).
وفي كل الأحوال، تظل مقاربة خفض التصعيد الخليجية من أهم إنجازات الدبلوماسية الخليجية، لكن الصراع في غزة وبين إسرائيل وإيران يستدعي مأسسة هذه المقاربة باتجاه تأمين دعم المجتمع الدولي لها، وهذه أولى الخطوات باتجاه بناء نظام إقليمي جديد، يستبعد الحلول العسكرية ويحتضن الحوار والمفاوضات وتبريد الصراعات، وينبذ مشاريع الهيمنة، مهما كان الطرف الذي يتبناها.