روبرت مالي
واشنطن العاصمة-اتخذ السير بموازاة المعركة العالمية ضد جائحة فيروس كورونا مسار الشدّ والجذب بين روايتين تتنافسان حول الطريقة التي يجب أن يُحكم بها العالم. وعلى الرغم من أن معالجة الوباء هو الأمر الأكثر إلحاحا، فإن أي رواية سائدة ستكون لها نتائج بعيدة المدى على حد سواء.
وما تقوله الرواية الأولى واضح: لقد أظهرت الأزمة الصحية العالمية الحاجة إلى التعددية بجلاء أكثر، وكشفت مغالطة القومية الانفرادية، أو الانعزالية. وتقدم الرواية الثانية وجهة نظر مضادة: تخلق العولمة، والحدود المفتوحة، نقاط ضعف أمام الفيروسات والتهديدات الأخرى، ويتطلب الصراع الحالي حول السيطرة على خطوط الإمداد، والمعدات المنقذة للحياة، أن تحظى هذه الأخيرة بالعناية على المستوى المحلي من قبل كل دولة. ويرى من هم في المعسكر الأول أن الوباء دليل على ضرورة أن تتحد الدول من أجل التغلب على التهديدات المشتركة؛ ويراه من هم في المجموعة الثانية دليلاً على أن الدول أكثر أماناً إذا انعزلت عن بعضها البعض.
وللوهلة الأولى، يبدو محتملا أن كوفيد-19 يؤيد النقاش الذي يدعو إلى نهج دولي أكثر تنسيقا. ونظرا إلى أن فيروس كورونا لا يتوقف عند الحدود الوطنية، فالمنطق يقول أنه لا ينبغي أن تكون الاستجابة مقيدة بها.
إن هذا منطقي تمامًا من منظور الصحة العامة. وإذا استمر كوفيد-19 في أي مكان، فسيظل تهديدًا أوليًا في كل مكان، بغض النظر عن الجهود المبذولة لتثبيته. وكلما وُزعت، على نطاق أوسع، معدات الاختبار، والعلاجات واللقاحات عند اكتشافها، تم القضاء على الوباء بصورة أسرع. وكلما تمت مشاركة المعرفة العلمية، طُورت تلك الأدوية بوتيرة أسرع. وفي هذه الأثناء، كلما تم التنسيق بين الحكومات في أمور مثل قيود السفر، والتباعد الاجتماعي، كان الخروج من هذه الأزمة أكثر سلاسة.
ويبدو أن الوباء يتطلب أيضًا بذل جهود جماعية أكبر لحل النزاعات المميتة، وليس فقط لمساعدة السكان المحليين الضعفاء. إذ بسبب الضغط الاجتماعي والاقتصادي الإضافي الذي أحدثه الوباء، يمكن أن تؤدي النزاعات الحالية داخل الدول، أو بينها، إلى مزيد من فقدان السلطة الحكومية، أو حتى إلى انهيار الدولة في البلدان القريبة بالفعل من نقطة الانهيار. وبعيدًا عن التكاليف البشرية الواضحة، سيؤدي هذا إلى إنشاء بؤر جديدة ومتنامية حيث يمكن أن ينتشر كوفيد-19 دون رادع؛ التدفقات الكبيرة للمهاجرين عبر حدود تفتقر للتنظيم؛ وفرص أكبر للأطراف الفاعلة العنيفة غير الحكومية لاستغلال الفوضى، والتأصل، والتوسع.
أخيرا، هناك منطق اقتصادي واضح لمتابعة التعاون الدولي. إذ من خلال مساعدة البلدان الأكثر تضررا، يمكن لجميع البلدان تخفيف الضربة التي ستواجهها بسب الانهيار العالمي الذي يلوح في الأفق.
ومع ذلك، فإن الوباء يقوي أيضا سحب وجهة النظر المتنافسة. إذ تميل الأزمات إلى تكثيف الاتجاهات الموجودة مسبقًا وتسريعها– خاصة الأزمات الشديدة. إذ تزامنت جائحة كوفيد-19مع فترة من المقاومة الشعبية، والمعادية للعولمة، والنظام الدولي بعد الحرب، تعززها عدم المساواة داخل البلدان، وفيما بينها.
ولأسباب جلية، يقول منتقدو النظام الاقتصادي العالمي الذي نشأ بعد نهاية الحرب الباردة، أن هذا الأخير أفاد القلة على حساب الكثيرين. وكذلك، بدت الأمم المتحدة وكأنها مَعلَمة تفضل المنتصرين في حرب قديمة، مما يعكس علاقات القوة البالية، ويحرم بلدان جنوب العالم، التي لم يكن العديد منها قد حصل على الاستقلال في الوقت الذي تأسست فيه الأمم المتحدة، في عام 1945، من التعبير بما يكفي. وبموازاة ذلك، وخاصة منذ الأزمة المالية العالمية لعام 2008، أدى السخط الاجتماعي، والاقتصادي، إلى ظهور أشكال مختلفة من الشعبوية، والقومية، والاستبداد، في دول بما في ذلك روسيا، وتركيا، والمجر، والبرازيل، وإسرائيل، والولايات المتحدة.
ويمكن تعزيز هذه الديناميكيات جيدا من خلال أزمة كوفيد-19. وتبدو إحدى رؤى المستقبل كما يلي: في الأشهر والسنوات المقبلة، ستجعل الاحتياجات المحلية الملحة التضامن الدولي يبدو وكأنه رفاهية لا يمكن تحمل تكلفتها. وعندما تتقلص الاقتصادات الوطنية، ستتقلص الموارد، وستكافح الحكومات لتوفير احتياجات سكانها. وسيجد القادة السياسيون أنه من الصعب للغاية تبرير تخصيص الأموال لمساعدات التنمية الأجنبية، ومنظمات الصحة والإغاثة الدولية، واللاجئين، أو المبادرات الدبلوماسية. إن تزايد السخط على المستوى المحلي سيترجم إلى المزيد من الغضب، وخيبة الأمل تجاه النظام الدولي.
وفضلا عن ذلك، فإن أي مطالبة أمريكية متبقية بالقيادة العالمية ستكون قد تضررت، بسبب سوء إدارة ترامب للوباء، والشعور بأنها لم تكن قادرة على رعاية نفسها، ناهيك عن الآخرين، وفكرة أنها انسحبت لتركز على نفسها في وقت الصعوبات. وقد تتقدم الصين، مدعومة بمظاهراتها السخية، والتي تظهر بصورة إيجابية على الإعلام في ذروة الأزمة، لملء فراغ القيادة. ولكنها قد تجد نفسها تنوء تحت ثقل تعاملها الفاشل مع تفشي المرض، والتداعيات السياسية المحلية لانكماش اقتصادي عميق.
وبغض النظر عمن يتصدر القمة (هذا إن وجد)، من الصعب تصديق أن اليأس الاجتماعي والاقتصادي الناجم عن الوباء، لن يمهد الطريق لارتفاع أكبر لموجة معاداة المهاجرين، وكراهية الأجانب. ولقد بدأت العديد من البلدان، بالفعل باستخدام الأجانب والأقليات، أكباش فداء.
هل يمكن أن يظهر نظام دولي أسمى وأقوى في مرحلة ما؟ ربما. حتى قبل تحقيق النصر في الحرب العالمية الثانية، بدأت قوات التحالف في ابتكار نظام ما بعد الحرب، المصمم لمنع تكرار مواجهة عالمية أخرى. وكان لهذا النظام نقاط ضعف عميقة. إذ على الرغم من أنه خلق وهم الحوكمة العالمية، إلا أنه لا يمكن أن يكون أكثر فعالية من أي شيء تسمح به القوى المنافسة في جوهرها. وعلى الرغم من كل إنجازات هذا النظام الناجحة، يمكن للمرء، أيضًا، سرد حالات فشله الذريعة.
ومع ذلك، كان النظام الذي نشأ من أربعينيات القرن العشرين أفضل بشكل واضح من الأنظمة السابقة. إذ في عام 2020، لا يمكن للمرء إلا أن يبدأ في تخيل ما يلزم لإنشاء نظام جديد، وأكثر استدامة، ويعالج المخاوف المتزايدة بشأن المساواة، وحيث يمكن أن تعبر فيه البلدان عن نفسها. وفي نفس الوقت، قد نضطر إلى التنقل في عالم جديد، يحل فيه نظام الحرية للجميع فجأة محل الترتيبات الحالية. وحتى لوثُبت أن الفوضى مؤقتة، فسيكون ذلك نهاية حزينة، ومزعجة، وخطيرة، لحقبة ما بعد الحرب.
لقد حدد كوفيد-19 تكاليف مواجهة أزمة عالمية في ظل نظام دولي تشوبه عيوب. والنتيجة الأسوأ الوحيدة هي مواجهة الأزمة القادمة بدون نظام على الإطلاق.
رابط المصدر: