لم يعد الإنسان يدخر لذاته للعيش، بل يصرف ما تراكم عنده من أموال اضطر للسحب منها لاحقا. فالمواطنون لم يعودوا يثقون بالمنافسة العالمية، والمباراة الضارية في البورصات تسبغ النفع عليهم أيضا، هناك نفور واضح، تبدل في سياسة الرعاية الاجتماعية، ظهور نزعات جديدة الأنانية والهيمنة والاستغلال والاستلاب…
الليبرالية الجديدة نظرية اقتصادية، وإيديولوجيا سياسية ظهرت في منتصف السبعينات من القرن الماضي، أعلى مراحل الرأسمالية، تحولت إلى سياسة عالمية بفعل ما تطمح إليه من اكتساح للعالم، وتقديم المواصفات الممكنة للرخاء والحرية، وتحرير الاقتصاد من هيمنة الدولة، وتدخلاتها في السوق.
جاءت الفكرة من الواقع الذي شهد أزمات مالية واقتصادية، ومن ضيق التفكير في سبل مواجهة مشاكل العالم المتفاقمة في الفقر والهشاشة، وليدة أزمة النظام الرأسمالي، سعيها كما يرغب المنظرون والخبراء تجنيب البلدان الانجرار نحو الشيوعية والاشتراكية الجماعية، وكل الأنظمة المضادة للفكر الليبرالي.
جاءت هذه الفلسفة من قبل منظرين اقتصاديين، وأطر متمرسة في الاقتصاد والتحليل لأنماط الإنتاج، أفكار مغايرة لأجل تجاوز منطق الليبرالية الكلاسيكية مع “ادم سميث” والليبرالية الاجتماعية مع “كينز”، وجاء صعود الليبرالية الجديدة مع “فريدريك هايك” و”ميلتون فريدمان”، ونخبة من خريجي مدرسة “شيكاغو”، قيمة النظرية الجديدة في تبني المؤسسات المالية العالمية منها البنك العلمي وصندوق النقد الدولي للأفكار الجديدة في مجال الإصلاح المالي والإداري، وتدبير شؤون الدولة على مستوى ريادة المال والأعمال والعناية بالمرافق الجديدة، وضخ المال في المقولات، والبنية التحتية، وقطاعات حيوية للربح كالسياحة وبناء الطرقات والعناية بالاستثمارات، وفتح السوق للشركات الخارجية العملاقة، وضمان سيولة انتقال الرساميل وعبور الشركات من خلال ليونة المساطر القانونية، والتحفيز من قبل الدولة بعيدا عن فكرة التأميم وتدخلات الدولة بشكل مباشر.
الهدف هنا لأجل ضح دماء جديدة في شريان الاقتصاد المنهار أو هي وصفة لانقاد الرأسمالية المهزومة، وتكريس المنفعة، والزيادة أكثر في الحرية التجارية والتبادل، هذا الربط المتين بين الرأسمالية والحرية، هدفه العمل على تكريس فلسفة الاختيار من خلال الوعود بالازدهار والمنفعة الشاملة، وتحرير الدولة من أعباء النفقات الاجتماعية كتمهيد للخوصصة في القطاعات الحيوية، والحد من الدعم السخي للسلع، وتقليص الوظائف، وتحرير الأسعار، وكل ما يتعلق بالرأس المال، والرفع كذلك من الاستهلاك.
لا سبيل للنهوض بالاقتصاد سوى تغيير نظرتنا عن أنفسنا والعالم، لا بديل عن التجارب الجديدة في غمار الرفع والزيادة في الأرباح، وفي أسبقية العرض على الطلب، والسيولة النقدية، وتحفيز الفرد على العمل والإنتاج والاستهلاك معا. فرص النجاح مهمة والغاية إزالة الحاجة، وتحرير المجتمعات من الفقر، والزيادة في القيم الفردانية التي غابت في المجتمعات الشيوعية من خلال القبضة الحديدة للحكم، وفي الديمقراطية الاجتماعية، وسياسة دولة الرفاه الاقتصادي، تلك علامات ومعالم الاقتصاد ما قبل النيوليبرالية، وتلك الوعود التي نتج عنها أزمات ساهمت في الحد من التنمية والحرية بدافع المصلحة العليا للوطن وبدافع الهوية والسيادة على الخيرات، وبدافع الملفات الاجتماعية التي قيدت حركة الدولة والمجتمع معا.
فهل فعلا قدمت الليبرالية الجديدة تصورات للحد من الفقر والهشاشة أم أنها مجرد فلسفة لانقاذ الرأسمالية من الانهيار؟ وهل ساهمت الليبرالية الجديدة في تعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية أم أن هدفها تعميم المنفعة ؟
– الليبرالية الجديدة وتعميم المنفعة
تقوم النيوليبرالية على أفكار فلسفية مستمدة من أصول الليبرالية مع التعديل والتقويم حتى تتناسب وفلسفة العصر، الحرية الفردية، وتمجيد العمل والإنتاج والتسويق، إنه منطق النظرية الكلاسيكية، الفكر الجديد يعني التحول من دولة الرعاية والتكافل نحو حرية أكثر للمال، والأرباح الخاصة بالتجارة والمتعلقة بالأغنياء، ما يعزز هذا الطرح تلك الإصلاحات التي طبقت في بريطانيا على عهد “مارغريت تاتشر” والرئيس الأمريكي “رونالد ريغان”، انتقال الليبرالية الجديدة نحو بعض دول أمريكا اللاتينية كالتشيلي، وباقي العالم من خلال فلسفة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، حيث تغلغلت أفكار “ميلتون فريدمان” وعصبة من علماء الاقتصاد والخبراء الذين درسوا ونهلوا من مدرسة “شيكاغو” في الاقتصاد.
طلب فريدمان بضرورة أن تكف الدولة بأكبر قدر ممكن عن التدخل في شؤون الأسواق، وأن الدولة ينبغي عليها أن تفرض على مواطنيها معدلات ضريبية لا تتعدى 10 أو 15 في المائة في أقصى الحالات(1)، دولة الرعاية الاجتماعية ليست مناسبة، وأنها بالفعل تمثل عائقا في سبيل التنمية، في وضع القيود أمام السوق الحرة، هذا الانفتاح الاقتصادي يؤدي لا محالة إلى تحقيق المجتمع الحر، روح المبادرة الفردية، ما يميز جوهر الفكر الليبرالي، السوق كيان مهيمن ومؤسس للرؤية الاقتصادية، ولعل الفشل الذي أصاب المجتمعات الرأسمالية جاء نتيجة الفشل المباشر في تحقيق دولة الرفاهية، وصعوبة تطبيق مبادئ الشيوعية بفضل القبضة الحديدية للدولة، وبفعل التدخل المباشر في السوق والتجارة الحرة، إضافة للعامل الأيديولوجي، وغياب الحرية، أما المستفيد الأكبر من النيوليبرالية فهم القلة القليلة من الناس، أصحاب الامتيازات، والأغنياء من أصحاب رؤوس الأموال، والشركات الكبرى المهيمنة على الشأن الاقتصادي، والموجهة للسياسة والثقافة.
العولمة باعتبارها الوجه الآخر لليبرالية الجديدة في نهج سياسة الانفتاح، وفتح الأسواق المحلية للشركات العابرة للقارات، دون رسوم جمركية، وبالتالي دون القدرة على المنافسة للسلع والمنتجات العالية الجودة، وحتى يتسنى للرأسمالية العبور نحو البلدان الأخرى، وتعميم نمطها الاقتصادي والاستهلاكي، فإنها في حاجة ماسة إلى خلخلة البنى التقليدية للمجتمعات النامية، وتفكيك الذهنيات، واللعب على وتر الثقافي والإصلاحات المالية والاقتصادية للدول الأخرى، الإجراءات المالية والنقدية التي كان يطالب بها “كينز” وشكلت مدخلا للنظرية الكينزية، هدفها التخفيف من الركود والكساد.
الليبرالية الجديدة ليست في حاجة إليها، من منبع أن هذا النوع من التنظير يصلح للمجتمع المنغلق، وأنه لا يناسب منطق السوق الحر، من منطلق كذلك أن الطلب هو الذي يحدد مستوى الإنتاج المحلي، وليس العرض. تعديل هذه الفلسفة أو النسخة الأصلية للفلسفة الليبرالية يقتضي الإنصات للآراء الجديدة النابعة من منطق كل عصر، وتحرير الناس من قبضة الفكر الجماعي النابع من تغلغل الأفكار الاشتراكية في قلب المجتمعات الرأسمالية، وبالتالي فالطريق نحو العبودية كما يشير لذلك الاقتصادي النمساوي “فريدريك هايك” يعني التحذير من مخاطر التخلي عن الفكر الليبرالي والحرية الفردية، واقع الحال يستلزم التعديل من التفكير، والبحث عن الممكن في مسايرة إيقاع الحياة، والحفاظ على النمط المثالي في النزعة الفردانية والحرية، وذلك بالحد من الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية، وتقليص تدخل الحكومة في كل شيء حتى يبقى للحكومات أعمال معينة في جمع الضرائب، وتوجيه اللوم للشخص ذاته في عدم تحسين وضعه الاجتماعي دون أن يعتمد على الدولة في ضمان قوته، لما يوفره اقتصاد السوق الحر من امتيازات وعمل في تحسين مستوى العيش، والبحث عن فرص أكثر.
إن الدولة النيوليبرالية كما في محتوى النظرية يجب أن تكون إلى جانب حقوق الملكية الخاصة للأفراد، وحكم القانون والمؤسسات، وأسواق تعمل بكامل حريتها والتجارة الحرة(2)، يعني خلق مناخ سليم وملائم للاستثمار لصالح الرأسمالية، وتعميم نمطها، وهذا العمل يناسب الخطط القوية في التنمية والرفع من مستوى العيش، وبفعل الصدمات والكوارث الطبيعية غالبا ما تعيد السياسة الاقتصادية رسم معالمها من جديد، التسريع بالخوصصة كذلك أي عندما تحدث الأزمة لا يجب معالجتها بالأفكار السابقة، بل غالبا ما تتولد أفكار جديدة تنبعث من واقع الصدمات والأزمات، وتهرع الحكومات في تسريع تفويت الأملاك العامة، وتعديل الأسعار، وبث روح المرونة مع رجال المال والأعمال، كما تخلف هذه الأفكار والصيغ المفيدة نتائج عملية لإزالة الصعوبات والعراقيل في سبيل الحل.
فكرة “اليد الخفية” التي بلورها “أدام سميت” لم تعد تجدي نفعا، ما يربحه الشخص ويجنيه من نتائج يعود بالنفع على المجتمع، وأعتقد أن صواب الفكرة هنا لا تعترض عليها الليبرالية الجديدة، بل توسع من معانيها، وتمنحها تحليلا أوسع في ظل اقتصاد السوق، وتراجع الحكومات عن التدخل، ورفع يدها عن القطاعات الحيوية، وترك الأمور للسوق، وبالتالي وجود السوق الحرة لا يستبعد بالطبع الحاجة إلى الحكومات، بل على النقيض، أن وجود الحكومات أمر ضروري، فهي تؤدي من جهة دور منبر لتقرير “قواعد اللعبة”، ومن جهة أخرى تؤدي الحكم لتفسير القواعد المقررة وتفعيلها(3)، لا بديل عن الحرية السياسية في اقتصاد السوق، يصبح التبادل وحرية الاختيار والسياسة النقدية أنجع الوسائل للسياسة الاقتصادية للحكومات.
– الليبرالية الجديدة وتكريس الهشاشة والتفاوت الطبقي
الرأسمالية تسير على رأسها، ولن تستقيم أو تستوي إلا بالتحليل والرفض للمنطق الذي يفرضه هؤلاء المنظرون على العالم الثالث، وعلى البلدان الرأسمالية ذاتها، لا نعني هنا الوصفة السحرية للقضاء على مبادئ الليبرالية في نسختها الأصلية، ولا نعني الرفض لكل المنطلقات التي وضعتها النيوليبرالية، لأن الحرية الفردية معقولة، والمناخ السياسي والاجتماعي في الاستثمار يمكن القبول به، شرط الديمقراطية وحقوق الإنسان، وما يزعج الرأي الآخر، الإملاء والقبول بالإصلاح لما هو اقتصادي واجتماعي في الإذعان الكامل لهذه السياسة خصوصا، وبعض دول العالم الثالث لازالت تعاني من سياسة التقويم الهيكلي في الإجهاز على القطاعات الخدماتية، في صعوبة تسديد الديون وتحويلها إلى استثمارات خارجية.
كما تتغير الأسماء، وتعود المؤسسات المالية من جديد، وتلوح في الأفق معاني جديدة في اقتصاد السوق، ومنها الشراكة الحقيقية والرفع من الأداء، والبحث عن الكفاءات، وتطوير القطاعات، وما يتناسب والسياسة العالمية في الاقتصاد المتحرر من هيمنة الحكومات وقبضتها الحديدية، لا بديل عن المناخ المناسب في إتاحة العمل للشركات الكبرى للعبور والإقامة في البلدان التي تتوفر على مناخ سياسي مفعم بالديمقراطية والحرية السياسية.
السوق هي التي تتولى تحديد جميع الأسعار، بما فيها أجر اليد العاملة، فضلا عن أنه يجب أن يكون هناك حد أدنى للأجور، لقد جعل “فريدمان” الخصخصة تشمل الرعاية الصحية، وخدمة البريد والتعليم، وتعويضات التعاقد، وحتى المنتزهات الوطنية(4)، بعبارة بسيطة تخلي الحكومات عن برامح الرعاية الاجتماعية، والكف عن الاستثمار في القطاعات الخدماتية، وفسح المجال أمام الشركات الكبرى في العمل، وخلق مبادرات جديدة، وإلغاء القواعد السابقة التي ساهمت في تكبيل الاقتصاد دون الزيادة في الأرباح وتراكم رأس المال، المعالجة بالصدمة، وصعود رأسمالية الكوارث مع الباحثة الكندية “نعومي كلاين” في تحليل الأزمات ورصد التدخلات في خلخلة المجتمعات من خلال شن حملات على القطاع العام وافتراسه، والحد من سلطة الدولة، وتحطيم البنى الاجتماعية، والاستفادة من اليد العاملة الرخيصة، والزيادة في الفقر والهشاشة.
لم يعد الإنسان اليوم يدخر لذاته للعيش، بل يصرف ما تراكم عنده من أموال اضطر للسحب منها لاحقا. فالمواطنون لم يعودوا يثقون بالمنافسة العالمية، والمباراة الضارية في البورصات تسبغ النفع عليهم أيضا(5)، هناك نفور واضح، تبدل في سياسة الرعاية الاجتماعية، ظهور نزعات جديدة من قبيل الأنانية والهيمنة والاستغلال والاستلاب، ومن نتائج ذلك التفاوت الاجتماعي، والشرخ الطبقي الكبير بين الأغنياء والفقراء، تلك أوهام الرخاء الاقتصادي، نتائجها سخط المواطن على السياسة الجديدة في واقع متوحش، تفاقمت المعاناة والزيادة في معدلات الفقر والجريمة والاحتقان العالمي، الحكومات المستسلمة للسوق لا سبيل لها في تحقيق العدالة الاجتماعية لأنها مطالبة بتعديل سياستها.
والفقير هو المسؤول عن فقره، وليست سياسة الحكومات، ثم تحليل سبب التخلف وتراجع معدلات النمو إلى ما هو طبيعي جغرافي أو إلقاء اللوم على الثقافي والاجتماعي، وعراقيل خاصة بالدولة ومناخ الاستثمار، مما يغدق البلدان في تبعية عمياء للنيوليبرالية، ويزيد من الهشاشة من خلال صناعة الفقر وتسطيح الوعي، ونهج سياسة التمويه والإلهاء من قبل الإعلام الموجه، ولذلك يزداد الفقراء فقرا والأغنياء غنى وملكا. والنتيجة بوادر الصراع الطبقي، تدهور القدرة الشرائية والتهميش، وما يقلقنا أكثر السير نحو المجهول.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/economicarticles/39052