خلال الأشهر الماضية التي مرت من عام 2024، تم تسجيل أرقام قياسية لوصول المهاجرين غير النظاميين إلى السواحل والحدود الإسبانية، بنسبة غير مسبوقة منذ عقدين، وفقا لإحصائيات عممتها وسائل الإعلام الإسبانية.
وبعد أن أضحت أزمة الهجرة من القضايا الرئيسة في الحملات الانتخابية بأوروبا، مع الانعطافة المتنامية لانتعاش خطاب اليمين- مثلما حصل في الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي- ستكتسب إشكالية الهجرة مكانتها البارزة في سياسة دول الاتحاد الأوروبي، لا سيما عقب إقرار “ميثاق الهجرة الأوروبي”، حيث ارتفع الجدل الداخلي في عدد من الدول الأوروبية، ومنها إسبانيا التي تعالت فيها أصوات تتساءل: هل صرنا على شفا أزمة هجرة أخرى؟
فيما جاء رد جهات متشائمة: “إن الأسوأ لم يأت بعد”.
تغير السيناريو
يوضح أحدث تقرير رسمي عن الهجرة غير الشرعية في إسبانيا، شمل الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، اتجاهات الهجرة غير النظامية نحو إسبانيا، من خلال أرقام كشفت عن زيادة كبيرة في أعداد المهاجرين السريين، مقارنة بالعام الماضي. فإلى حدود منتصف صيف العام الماضي (2023)، اعتبرت إسبانيا الدولة المتوسطية الأوروبية الوحيدة التي تمكنت من احتواء الهجرة غير الشرعية. فجأة، سينقلب المشهد، لتنضم إسبانيا إلى اليونان، في تزايد اختراق حدودهما بصفة لا قانونية، وفقا لمعطيات المنظمة الدولية للهجرة، مع انتعاش مذهل على طريق جزر الكناري بالمحيط الأطلسي. وهو الوضع الذي لا يزال متواصلا حتى اليوم.
بلغت الزيادة 96 في المئة. رقم يؤشر إلى اتجاهات مقلقة فيما يخص ديناميكيات الهجرة، ويسلط الضوء على الضغط المتزايد على البنية التحتية والخدمات المحلية بجزر الكناري، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه من تحديات إنسانية.
لسنوات طويلة كانت إسبانيا ملجأ لكثير من المغاربة، فكلا الشعبين يشتركان في تواطؤ يحفظه التاريخ وتفرضه الجغرافيا
وبالرغم من مخاطر الطرق، فإن الهجرة السرية لا يبدو أنها ستختفي قريبا، حتى مع مشاهد حطام القوارب بالمئات، وأعداد الغرقى الذين تلفظ جثثهم بين الحين والآخر أمواج البحر. إن نجاح من أدركوا جزر الكناري، يظل مغريا يجتذب المزيد من الراغبين في محاولة الوصول، وتتوقع منظمات أوروبية تضاعف عدد “قوارب الموت”، بحجم يصعب التنبؤ به، وتؤكد أن الأرقام المنتظرة ستعني بلا شك تفاقم خطورة الوضع الذي يعيشه المرشحون للهجرة، وهم شباب من الجنسين، من بلدان أفريقية مختلفة، ضمنهم ما يقرب من ستة آلاف (6000) قاصر نزحوا إلى الكناري.
في الأشهر السابقة من هذا العام (2024)، شهد الأرخبيل زيادة كبيرة في عدد الوافدين عن طريق البحر. ولم يعد خفيا أن هذا “التجدد” للوافدين تعود أسبابه الوثيقة إلى الأوضاع غير المستقرة في منطقة الساحل.
أشخاص يتجمعون على طول الشاطئ وهم ينتظرون فرق البحث والإنقاذ للعثور على الناجين وانتشال الجثث بعد غرق زورق يحمل أكثر من مئة مهاجر في مبور بالسنغال، في 9 سبتمبر
حل الأزمة من “جذورها”
حسب التقارير الرسمية، وصل 21.470 شخصا إلى سواحل جزر الكناري، مقارنة بـ8.508 أشخاص وصلوا في الفترة نفسها من عام 2023. ما يمثل زيادة بنسبة 152.4 في المئة. وعلى الرغم من تسجيل بعض التباطؤ في معدل الوافدين منذ شهر مارس/آذار، فإن الضغط على الجزر لا يزال كبيرا. وهذا الطريق يستخدم بشكل رئيس من قبل المهاجرين من بلدان غرب أفريقيا، هربا من الفقر المدقع، وفي حالات أخرى من النزاعات المسلحة، أو الاضطهاد بسبب هويتهم الإثنية والعرقية أو الميول الجنسية.
واعتبارا لكون موريتانيا وغامبيا والسنغال تشكل منطلق الهجرة غير النظامية المتجهة صوب جزر الكناري، فقد عاد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز لزيارتها من جديد نهاية الشهر المنصرم (أغسطس/آب)، كنقطة أساسية لوقف الأزمة الجديدة، وبهدف احتواء الهجرة السرية، الظاهرة التي تضاعف أيضا الضغوط المرهقة للبلدان الثلاثة، وتهدد أوضاعها الأمنية، في الوقت الذي تشكل فيه أحد أكثر عوامل الهشاشة الاجتماعية والضعف القانوني بالنسبة لإسبانيا.
ابتلاع الثعابين
لسنوات طويلة كانت إسبانيا ملجأ لكثير من المغاربة، فكلا الشعبين يشتركان في تواطؤ يحفظه التاريخ وتفرضه الجغرافيا.
وقد تمت استعادة صور نمطية متقاطعة بين البلدين، موصوفة بـ”السلبية”، بعد وصول زعيم “الحزب الشعبي اليميني” خوسيه أزنار إلى رئاسة الحكومة الإسبانية، (ما بين عامي 1996 و2004)، وتفضيله الجزائر على حساب المغرب. ثم تراكمت مشكلات الهجرة، وأزمة “جزيرة ليلى” (2002)، وملف الصيد، وقضية الصحراء الغربية، ومزاعم تورط مغاربة في أعمال إرهابية داخل إسبانيا، وتهريب المخدرات، بالإضافة إلى الصراع التاريخي حول مدينتي سبتة ومليلية، والجزر والصخور القريبة من سواحلهما، والنزاعات حول الاختصاص على المياه والمساحات البحرية في منطقة مضيق جبل طارق وفي منطقة البحر الأبيض المتوسط.
اعتراف مدريد بمقترح الحكم الذاتي في الصحراء الغربية (مارس 2022)، شكل تحولا تاريخيا لموقف إسبانيا، بعدما وصف رئيس وزرائها بيدرو سانشيز المقترح المغربي بـالحل “الأكثر جدية وواقعية ومصداقية”
أمور وقضايا اجتمعت لترسم نمطا من علاقة “حب وكراهية متبادلة” في العلاقات الإسبانية المغربية، أنتجت وضعا يتأرجح بين الصداقة وحسن الجوار، وحالات التوتر الشديد، الذي بلغ ذروته عندما استقبلت إسبانيا، في أبريل/نيسان 2021، بأحد مستشفياتها، إبراهيم غالي، زعيم “جبهة البوليساريو” الانفصالية الصحراوية، إثر إصابته بـ”كوفيد-19″. ما أشعل غضب الرباط، وكان الرد عدم اعتراض المغرب (على الأقل)، في الدخول غير القانوني إلى مدينة سبتة، لأكثر من عشرة آلاف من المهاجرين السريين، بينهم مئات القاصرين.
إثر ذلك شككت أحزاب إسبانية في الآفاق المستقبلية للتعاون المشترك بين إسبانيا والمغرب، واصفة إياها بالعلاقة المعقدة التي ينبغي إبقاؤها تحت المراقبة، حتى لا تتحول سلباً ضد المصالح الإسبانية. وهاجمت هذه الأحزاب المغرب بكونه ينظر بشكل متزايد إلى المهاجرين باعتبارهم أوراق مساومة مالية وسياسية.
رجال إنقاذ على متن سفينة إنقاذ إسبانية يساعدون المهاجرين على النزول من قارب “كايوكو” وعلى متنه 81 مهاجرا، بينهم 3 نساء و3 أطفال، في ميناء “لا ريستينجا” في جزيرة “إل هييرو” في جزر الكناري، في 9 سبتمبر
لكن اعتراف مدريد بمقترح الحكم الذاتي في الصحراء الغربية (مارس 2022)، شكل تحولا تاريخيا لموقف إسبانيا، بعدما وصف رئيس وزرائها بيدرو سانشيز المقترح المغربي بـالحل “الأكثر جدية وواقعية ومصداقية”. وهو ما وضع نهاية للأزمة الإسبانية-المغربية، وكان بداية لمرحلة جديدة من العلاقة الثنائية القائمة على “الاحترام المتبادل والالتزام بالاتفاقيات والشفافية والتواصل الدائم”.
و”أخيرا تحققت المصالحة بين إسبانيا والمغرب على حساب التنازلات”، كما عنونت “لوموند” الفرنسية إحدى افتتاحياتها. وصرح برلماني اشتراكي ووزير إسباني سابق: “يجب علينا بناء الاحترام المتبادل عن طريق ابتلاع الثعابين إذا لزم الأمر”.
الجدار المغربي
تحول المغرب إلى معبر تقليدي وبوابة لانتقال المهاجرين غير الشرعيين، نظرا لموقعه القريب في الضفة المقابلة من المتوسط بالقارة الأفريقية، على بعد 13 كيلومترا.
أما بشأن سبتة ومليلية الواقعتين على الساحل الشمالي للمغرب، والخاضعتين للحكم الإسباني منذ القرن السابع عشر، في أغرب إرث من التاريخ الاستعماري، فيظهر الوافدون إلى هاتين المدينتين صورة مختلفة، إذ انخفض بشكل ملحوظ عدد القادمين إليهما عن طريق البحر.
وحسب إحصائيات دوائر الهجرة في إسبانيا، تقدم سبتة ومليلية سيناريوهات أكثر تحديدا، فقد سجلت سبتة في هذه الفترة انخفاضا في أعداد المهاجرين إليها بنسبة 60.6 في المئة، حيث انتقلت من 33 شخصا في عام 2023 إلى 13 في عام 2024. في حين شهدت مليلية انخفاضا بنسبة 94 في المئة، مع وصول 6 أشخاص فقط في عام 2024. ومعظم هؤلاء المهاجرين مغاربة وجزائريون من الشباب الباحثين عن الاستقرار والعمل في أوروبا.
تعتبر مدريد أن الرباط هي “الشريك الاستراتيجي الرئيس لإسبانيا في الشؤون الداخلية”، حيث تنص الاتفاقيات بين البلدين على التحدي المشترك للهجرة غير الشرعية، والحرب ضد الإرهاب
وعلى عكس الوافدين عن طريق البحر، شهدت سبتة زيادة كبيرة في عدد الوافدين عن طريق البر، حيث وصل عددهم إلى 1354 شخصا في عام 2024، مقارنة بـ510 في العام السابق، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 165.5 في المئة.
وهؤلاء المهاجرون هم عادة من الشباب المغاربة، وأيضا من جنوب الصحراء الكبرى.
كما زاد عدد الوافدين عن طريق البر، حيث دخل إجمالي 1172 شخصا بشكل غير نظامي (115 في سبتة و18 في مليلية)، أي بزيادة قدرها 151.4 في المئة وأقل بنسبة 66 في المئة على التوالي.
عادة ما يسيطر المغرب بإحكام على الحدود المسيجة حول سبتة، التي يبلغ طولها أقل بقليل من عشرة كيلومترات. ففي أبريل/نيسان الماضي أحبطت قوات الأمن المغربية الموجودة في جهة “المضيق-الفنيدق” (شمال البلاد)، محاولة هجرة غير نظامية باتجاه مدينة سبتة.
وتتلاحق الأحداث من دون توقف، فبتاريخ 3 سبتمبر/أيلول الحالي، شهدت حدود مليلية أحد أيامها الأكثر عنفا تجاه المهاجرين السريين، حين أحبط تعاون قوات الأمن الإسبانية والمغربية محاولة واسعة النطاق للهجرة غير الشرعية، أقدم عليها مئات القاصرين المغاربة غير المصحوبين بذويهم، في محاكاة عبور مماثلة لما كان يقع في مدينة سبتة، على أمل الوصول إلى البر الرئيس لإسبانيا.
قتلى على أسوار مليلية
تعتبر مدريد أن الرباط هي “الشريك الاستراتيجي الرئيس لإسبانيا في الشؤون الداخلية”، حيث تنص الاتفاقيات بين البلدين على التحدي المشترك للهجرة غير الشرعية، والحرب ضد الإرهاب، خاصة بمنطقة الساحل القريبة، التي تعاني من أعمال عنف من الجماعات الجهادية الموالية لتنظيم “القاعدة” و”داعش”.
صورة التقطت من الجانب الإسباني في 24 فبراير تظهر نقطة عبور حدودية مغلقة تُعرف باسم “باريو تشينو” تفصل المغرب عن جيب مليلية الإسباني في شمال إفريقيا، حيث توفي أكثر من عشرين أفريقيا في 24 يونيو 2022
وبعد مرور نصف عام على وضع حد لفترة الخلاف، بدأت إسبانيا والمغرب في تطبيق التدابير المتفق عليها لتطبيع العلاقات، بتنفيذ الخطوات الملموسة لاحتواء ضغط الهجرة من الدولة المغاربية. ومن أولى نتائجها الرد القوي على محاولة تجاوز السياج الحدودي لمدينة مليلية في 24 يونيو/حزيران 2022، ما أسفر عن مأساة كبيرة، لم يحدث من قبل نظيرها في سقوط مثل هذا العدد من الضحايا. وهي الأحداث التي أبلغت السلطات المغربية إثرها عن إصابة 76 مهاجرا، و140 في صفوف الشرطة. وبحسب ولاية مليلية، تمكن 133 مهاجرا من دخول المدينة.
ولا تزال الأسئلة حولها معلقة من دون إجابة مقنعة. أهمها سؤال:
– هل موقع التدافع الذي قتل فيه العشرات من المهاجرين واللاجئين هو أرض إسبانية أم مغربية؟
ولم يصدر أي تعليق بهذا الشأن، تفاديا من أن تحتوي الإجابة على اعتراف ضمني مغربي بوجود حدود بينه وبين مدينتين يؤكد أنهما أراض تابعة له تاريخيا.
تجريم الهجرة
في أواخر شهر فبراير/شباط الماضي أعلن المغرب عن أكبر عملية اعتراض للمهاجرين غير الشرعيين في المياه الإقليمية للصحراء الغربية، بعد توقيف سفينة على متنها 141 شخصا، كانت متوجهة إلى جزر الكناري. وهو ما شكل الاعتراض الأكبر الذي قام به المغرب هذا العام.
وبالرغم من ذلك لا تتردد جهات معارضة داخل إسبانيا في اتهام المغرب بعدم التعاون إزاء الاختناق الذي يفرضه ضغط الهجرة عبر البحر. وفقا لما نشرته صحيفة “إلموندو” المدريدية من تصريحات على لسان أفراد من الحرس المدني وشرطة الحدود الإسبانية بمدينتي سبتة ومليلية.
حسب آخر إحصائيات تعود لشهر أبريل المنصرم، يشكل المغاربة الجالية الثانية ضمن الجاليات الرئيسة في إسبانيا بعد المهاجرين الكولومبيين
وأشار أستاذ من جامعة مدريد إلى السلطات في المغرب بالقول: “إنهم يحولون الهجرة إلى سلاح”.
وقد انتقدت بعض منظمات حقوق الإنسان الأورومتوسطية مضمون الاتفاقية المبرمة بين إسبانيا والمغرب بشأن التعاون في مجال الأمن ومكافحة الجريمة، تماشيا مع سياسات الهجرة الأوروبية. وحاججت المنظمات الحقوقية برفضها لترسيخ الهجرة ضمن “منطق الأمننة”، الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من انتهاكات الحقوق على الحدود. كما رفضت ربط عملية الهجرة غير الشرعية بالجريمة المنظمة والجريمة العابرة للحدود.
استفهامات غير مطمئنة
لم تكن عملية التطبيع الثنائي بين إسبانيا والمغرب مسألة سهلة، بل كانت مدفوعة بالتضامن وبتحديات مشتركة منطلقة من رؤية شاملة للظاهرة، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى استعادة الأولوية في علاقات الجارين.
لقد منح استقرار عدد كبير من المهاجرين المغاربة في إسبانيا للعلاقات الثنائية بعدا إنسانيا تحتاجه، فحسب آخر إحصائيات تعود لشهر أبريل المنصرم، يشكل المغاربة الجالية الثانية ضمن الجاليات الرئيسة في إسبانيا بعد المهاجرين الكولومبيين.
وييقى التساؤل الخافت لدى خبراء من الضفتين، حول مدى نجاح كل من إسبانيا والمغرب في تحويل القضايا المتعارضة بينهما، (المشار إليها أعلاه)، إلى ثوابت في علاقاتهما الثنائية، وقضية استراتيجية لتحقيق وممارسة دور القوة في نظاميهما الإقليميين، (الاتحاد الأوروبي والمغرب العربي الكبير)، وحول مدى أهمية ترويج الخطاب السياسي والإعلامي المبني على مفردات وتعابير براقة حول الترابط والرغبة في التفاهم المتبادل المبني على الأواصر التاريخية والثقافية. أم إن عدم التماثل بين الحقيقة والخطاب المعلن، سيبقى هو السائد في العلاقة بين البلدين، وكذلك سريان أساليب متبادلة لاستغلال خفي للحساسية والضعف في المفاوضات حسب مجال كل قضية؟