في هجوم منسق عبر لبنان وأجزاء من سوريا، انفجرت مئات أجهزة النداء الإلكترونية “البيجر” التي تستخدمها جماعة “حزب الله” المسلحة اللبنانية بشكل متزامن يوم الثلاثاء، ما أسفر عن مقتل أكثر من عشرة أشخاص وإصابة الآلاف. لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم، لكن من المرجح بشدة أن إسرائيل هي الجاني. توسعت حرب إسرائيل متعددة الجبهات لتشمل، إلى جانب “حماس” في غزة، إيران و”محور المقاومة” التابع لها، وهو تحالف يضم الكثير من الجماعات الوكيلة، من بينها “حزب الله”.
ويتساءل كثيرون: لماذا الآن؟ هل هناك دلالة أوسع لتوقيت الهجوم؟
أعلنت إسرائيل أن منع هجمات “حزب الله” هو أحد أهدافها الحربية، رغم تحذيرات الولايات المتحدة من أن عملية أوسع قد تؤدي إلى حرب إقليمية شاملة. قد يكون هجوم “البيجر” بداية لحملة عسكرية إسرائيلية طويلة الأمد ضد “حزب الله” في لبنان، أو ربما يكون ببساطة أحدث عملية سرية في حرب الظل المستمرة منذ فترة طويلة بين إسرائيل ووكلاء إيران. ومن الممكن أيضا أن تكون إسرائيل قد شنت العملية بسبب وجود نافذة زمنية محدودة يمكن خلالها تنفيذ الهجوم دون اكتشافه.
أما بالنسبة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد)، فقد يسهم هذا الهجوم بشكل كبير في تحسين سمعته التي تضررت بشدة بسبب الإخفاقات التي رافقت هجوم “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على إسرائيل. كما يبدو الهجوم وكأنه مقتطف من رواية جاسوسية، حيث تكثر الفرضيات حول كيفية تمكن “الموساد” من تنفيذ عملية بهذا الحجم وهذه الدراماتيكية. لا نعلم بعد ما إذا كانت القنابل قد زُرعت في مرحلة التصنيع أو إذا كانت سلسلة التوريد قد جرى اختراقها في مرحلة أخرى من العملية.
اعتمد “حزب الله” على وسائل اتصال قديمة مثل أجهزة النداء “البيجر”، معتقدا أنها بعيدة عن متناول الهجمات السيبرانية الإسرائيلية. وفي أعقاب هجوم 7 أكتوبر، حاول أفراد “حزب الله” تجنب استخدام الهواتف المحمولة إلى حد كبير، حيث حث زعيم الجماعة، حسن نصر الله، المقاتلين على استخدام وسائل اتصال بديلة.
وقد تكهن البعض بأن البرمجيات الخبيثة التي جرى حقنها في الأجهزة قد تسببت في ارتفاع حرارة البطاريات، مما أدى في النهاية إلى انفجارها. ومع ذلك، كان الهجوم منظما بعناية فائقة، وبتخطيط دقيق واهتمام بالتفاصيل. وبصرف النظر عن التأثير المباشر للهجوم، فإن القدرات التي أظهرها ستزيد من حالة جنون الارتياب لدى “حزب الله”، وتجعله أكثر حذرا وغير متأكد مما قد يفعله “الموساد” في المستقبل.
ومن المرجح أن يتبع “حزب الله” هذا الهجوم بإجراء إصلاح شامل لجهازه الأمني الداخلي، مع مراجعة الثغرات في أمنه العملياتي ومحاولة تعزيز قدرات عناصره. قد يشمل ذلك عملية تطهير داخلية للجواسيس، وهو ما قد يؤدي إلى سفك الدماء داخل “الحزب”، مما يعتبر مكسبا إضافيا للمخابرات الإسرائيلية.
كان الهجوم منظما بعناية فائقة، وبتخطيط دقيق واهتمام بالتفاصيل
أحد الدوافع وراء هجوم “البيجر”، كما كان الحال في اغتيال الزعيم السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية في طهران أواخر يوليو/تموز، هو تصميم “الموساد” على إعادة إحياء علامته التجارية. فقبل هجوم 7 أكتوبر، كانت المخابرات الإسرائيلية تتمتع بسمعة قوية بأنها كليّة القدرة، ومآثرها الأسطورية جرى تصويرها في أفلام الجاسوسية الشهيرة مثل فيلم “ميونيخ” لستيفن سبيلبرغ، ومسلسل “فوضى” الذي عرضته شبكة “نتفليكس”.
وقد أدت حملة الاغتيالات المستهدفة التي نفذتها إسرائيل حتى الآن إلى قتل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، صالح العاروري، في بيروت في يناير/كانون الثاني، وقائد “حزب الله” البارز فؤاد شكر في بيروت أواخر يوليو/تموز، بالإضافة إلى إسماعيل هنية بعد فترة وجيزة.
بقايا أجهزة بيجر متفجرة عرضت في بيروت في 18 سبتمبر
وبالإضافة إلى تحسين صورة “الموساد”، فإن العمليات السرية الإسرائيلية لها تأثير عملي أكبر. فمن المرجح أن الهجوم دمر مركز القيادة والتحكم الخاص بـ”حزب الله”، مما تسبب في مشكلات كبيرة في الاتصالات للجماعة في المستقبل القريب. وعلاوة على ذلك، أصيب مئات من مقاتلي “حزب الله” في هجوم يوم الثلاثاء، ومن المؤكد أن بعضهم أصيب بعاهات جسدية، مثل فقدان أصابع أو أيدي أو إصابات أخرى قد تهمشهم ميدانيا، ولو بشكل مؤقت.
وسيبدأ الحوثيون في اليمن، والميليشيات في العراق وسوريا، وغيرهما من وكلاء إيران في اتخاذ احتياطات أكبر. وربما يؤدي ذلك إلى تغييرات في الطريقة التي تتواصل بها هذه الجماعات مع بعضها البعض، مما قد يؤثر بشكل مباشر على مستوى التنسيق فيما بينها ويعيق قدرتها على شن هجماتها. كما سيتعدى تأثير ذلك حدود لبنان، إذ ستبدأ الجماعات غير الشرعية الأخرى حول العالم– سواء كانت إجرامية، إرهابية، أو حتى مخترقي الأمن السيبراني– في التساؤل عن أمان أجهزة الاتصالات الخاصة بها.
ويزعم نصر الله أن “حزب الله” لا يرغب في حرب شاملة مع إسرائيل، وألمح إلى أن جماعته لا تزال منخرطة عسكريا نيابة عن إخوانها الفلسطينيين في غزة. ومع ذلك، حتى مع تأكيد الكثير من الأطراف أنهم يريدون تجنب الحرب، يمكن أن تندلع الحرب كما حدث في يوليو/تموز 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، وهي الحرب التي خلفت دمارا هائلا في لبنان وانتهت بما يشبه حالة الجمود. ويمكن القول إنها كانت هزيمة استراتيجية لإسرائيل، لأن “حزب الله” خرج منها أقوى بأضعاف مضاعفة.
بعد ثمانية عشر عاما من ذلك الصراع الذي استمر 34 يوما، تحول “حزب الله” إلى منظمة مختلفة تماما، مزودة بأسلحة أكثر تطورا، وعدد أكبر من المقاتلين المستعدين للحرب، وشرعية سياسية أوسع، ليس فقط في لبنان، ولكن في أجزاء من العالم الإسلامي. كما أشار سيث جي. جونز ودانيال بايمان مؤخرا بشكل صحيح، فإن الحرب مع “حزب الله” قد تكون أكبر تحد تواجهه إسرائيل منذ عقود. ومع ذلك، يبدو أن هذا هو الاتجاه الذي قد تتجه إليه الأمور.
وسيشعر “حزب الله” بالحاجة إلى الرد على هجوم “البيجر”، مدفوعا بالإذلال الذي تعرض له بسبب نجاح العملية ورغبته في الانتقام. كما أن هدف إسرائيل الجديد المتمثل في إعادة سكانها النازحين إلى الشمال، بالقرب من الحدود مع لبنان، والذين يبلغ عددهم نحو 60 ألف شخص، يتطلب إبعاد قوات “حزب الله” عن الحدود وإنشاء منطقة عازلة يمكن التحكم فيها. وحتى إذا ادعى “حزب الله” رغبته في تجنب الحرب، فإن سوء التواصل في بعض المرات قد يدفع الطرفين نحو الصراع، حيث يستمر تبادل الاتهامات ومحاولة كل طرف مركزة قواته للحصول على ميزة التحرك الأول.
تحول “حزب الله” إلى منظمة مختلفة تماما، مزودة بأسلحة أكثر تطورا، وعدد أكبر من المقاتلين المستعدين للحرب
وكما يعرف الإسرائيليون جيدا، فإن “حزب الله” ليس مثل “حماس”. فهو أقرب إلى جيش تقليدي، ويضم في ترسانته ما يصل إلى 150,000 صاروخ وذخائر موجهة بدقة. ولا شك في أن الحزب يعد من بين أقوى الجهات غير الحكومية الفاعلة في السياسة العالمية، من حيث الاكتمال والتدريب والموارد. فمقاتلوه متمرسون في القتال من خلال عمليات الانتشار القتالي في سوريا، حيث عملوا جنبا إلى جنب مع “الحرس الثوري” الإيراني، واختبروا أسلحة جديدة ومتطورة.
ومن المرجح أن يكون لـ”هجوم البيجر” تداعيات خطيرة على لبنان، وعلى الصراع بين إسرائيل ووكلاء إيران، وعلى الشرق الأوسط بأسره. فالمنطقة، التي تفصلها حوالي ثلاثة أسابيع عن الذكرى المؤلمة لـ7 أكتوبر، لا تزال على حافة الانفجار. وقد ترى العناصر المتشددة من جميع الأطراف أن التصعيد يخدم مصالحها، بينما تثبت الجهود الدبلوماسية المستمرة أنها غير كافية ومتأخرة للغاية.