تقديم :-
بأس النظرالى مفردة الهدر, بوصفه النزيف البطيء الذي اصاب الجسد واوهنه عبر مدة من الزمن وفي طريقه الى الجفاف وبالتالي التعطيل والفناء, والهدر الاجتماعي في قطاع التعليم هو استنزاف للجهود البشرية والنتاجات المعرفية, ونزيف اصاب جسد المجتمع وأهم أجزاء هذا الكيان الكبير, أحدث هدراً في العقول وقصوراً في الانتاج البشري, وما ان استمر هذا النزيف في قلب المؤسسة التعليمية حتى تراجع المجتمع وغابت مقومات التغيير الواعي.
على الرغم من القفزة الكبيرة خلال الالفية الثالثة والتغييرات غير المعقولة على مستوى العالم, واجتياح فائق للتقانة, إذ أصبح أسهل انواع الوصول هو الحصول على المعارف والنتاجات الحديثة من اصغر واكبر رقعة جغرافية, لكن لا زال العراق بفعل الازمات التي عصفت به وفشل السياسات, يعاني من القدرة على مواكبة التغيرات وتحديث مؤسساته للاصطفاف بصف آليات المعرفة الحديثة والانتقال نحو مجتمع المعرفة, إذ أن اغلب الوان الهدر يمكن اعادة انتاجها الا الهدر الاجتماعي الذي يصيب الجانب المعرفي؛ فهو يضرب خطوط الابداع والاضفاء ويُسيَّر عجلة التنمية بالاتجاه المعاكس.
تتعرض مؤسسات المجتمع كافة الى هدر اجتماعي يشمل العديد من الممارسات الاجتماعية التي تنذر بالفوضى والتخلف, في العادة يركز قادة المؤسسات الاجتماعية, وانظار الجمهور الى الهدر الذي يطال الجانب المادي فحسب, وعلى الرغم من أهميته, الا ان هناك مؤشرات عديدة للهدر ضمن المجال الاجتماعي, نجد تأثيراتها لا تختلف عن تأثيرات الجانب المادي, و لأسباب ذاتية, داخلية او خارجية, يصيب الهدر البناء الاجتماعي في كل مرحلة حضارية يشهدها المجتمع, وتتباين المؤشرات من حيث النوع والشدة بحسب المتغيرات الاجتماعية وطبيعة التحولات والازمات التي تعصف بالمجتمعات, وحتى في حالات الاستقرار, فلا بد ان يكون للهدر الاجتماعي مكامن حضور وتأثير, لذلك فأن عملية الاصلاح والتنمية تتطلب نظرة شاملة وعميقة؛ لأن فجوى التأثير تتسع مع الاهمال, ضعف الرقابة وانعدام المسؤولية المجتمعية.
من خلال ذلك نبهتنا العديد من الملاحظات العلمية أن المؤسسات الاجتماعية ولا سيما مؤسسة التعليم العالي, تعاني العديد من ظواهر الهدر, وبالعودة لأدبيات المعرفة العلمية وأمم الكتب, وجدنا ان المؤشرات تلك تأخذ الطابع الاجتماعي, لذلك تتطلب المعرفة الاجتماعية إساقة المفهوم من ميدان العلوم الاقتصادية والعلوم النفسية, وتطوير مؤشراته الاجتماعية؛ ليسهم في تفسير الظواهر الاجتماعية التي تكتنف التعليم العالي في العراق, من حيث ربط المفهوم بمرجع نظري, وبناء مؤشرات خاصة بالهدر الاجتماعي في التعليم العالي, وقياسها في الواقع الاجتماعي؛ لتعطيها رؤية شاملة لطبيعة الهدر الاجتماعي ضمن ممارسات التعليم, وتأثيرها في جودة العملية التعليمية, وبذلك استطعنا ان نتوصل لأبرز اشكاليات التعليم في المجتمع العراقي, وان نجيب على العديد من التساؤلات المدهشة, حول اسباب تدني قيمة العلم والشهادة, تدني مهارات مخرجات التعليم, ضعف اسهام القادة المثقفين في المجتمع و اوجه العلاقة بين انهيار المنظومة السياسية والهدر الاجتماعي وغيرها من التساؤلات التي بحثنا في اجاباتها.
يهتم الكتاب بالبحث في مؤشرات الهدر الاجتماعي والمتغيرات المؤثرة فيها في التعليم, من حيث اهمية المخرجات البشرية والمعرفية, التي تعتمد عليها إدارة المؤسسات, وعلى نوعية تلك المخرجات لا كمها, وان النظر اليها مهدرة مرتبط بإشكاليات عديدة راسخة في جذور البناء الاجتماعي للمجتمع العراقي, وتهدف إلى التعرف على اشكالية التعليم في العراق, من خلال سبر أغوار العلاقة بين مؤشرات الهدر الاجتماعي واثرها على جودة العملية التعليمية. و تشخيص مشكلات البحث العلمي ومشكلات إدارة المؤسسات وتدهور القيم الاجتماعية داخل المجتمع. بمحاولة تطوير مفهوم الهدر الاجتماعي من خلال اساقته من ميدان العلوم النفسية والاقتصادية الى ميدان علم الاجتماع؛ليحمل دلالة لبعض الظواهر الاجتماعية.
توصلنا إلى تحليلات واستنتاجات كبيرة حول الموضوع, أبرزها: يقع الهدر الاجتماعي في المجتمع بشكل عام والمؤسسة التعليمية بشكل خاص, لتأثيرات ودوافع داخلية او خارجية او ذاتية او كليهما, فأما ان يكون ممارسة ذاتية لها مكامن سلوكية ثقافية, او لضعف المؤسسة الاجتماعية وتأثير مؤسسات اخرى على العمليات الاجتماعية؛ ان من بين ابرز مؤشرات الهدر الاجتماعي انتشاراً وتأثيراً في التعليم العالي هي: هدر العقول والطاقات البشرية, هدر قيمة العلم والشهادة وهجرة العقول؛ وان من بين أبرز مظاهر هدر القيم الاجتماعية انتشاراً, هي هدر القيم الاخلاقية, هدر قيم المصلحة العامة و هدر قيم الالتزام بالعمل؛ و يؤثر التدخل السياسي في الهدر الاجتماعي للتعليم العالي, من خلال عدة ممارسات اجتماعية ابرزها واكثرها انتشاراً في الآونة الاخيرة, هي منح امتيازات غير مستحقة لفئات حصلت على الشهادة العليا, وتوظيفها بفعل تأثيرات سياسية, وتعارض السياسة مع العلم. وأصبحت الشهادة العراقية بفعل الازمات وانتشار مظاهر الهدر الاجتماعي ذات قيمة متدنية, من حيث الاهتمام الاول للباحثين عن الشهادة العليا وهو الحصول على المكانة والنفع المادي لا عن العلم والمعرفة.