أحمد عليبة
تسمح الهدنة في اليمن بإعادة ترتيب المشهد العسكري بين طرفيها، الحكومة الشرعية والحوثيين، فكل طرف يعيد توفيق أوضاعه العسكرية في إطار معادلة موازين القوى، فمجلس القيادة اليمني بتشكيله الجديد (أبريل 2022) بصدد عملية إعادة هيكلة جديدة للقوات الأمنية لضم المكونات العسكرية (المقاومة الجنوبية، المقاومة في الساحل الغربي) وقوات الجيش اليمني، تحت مظلة واحدة، بالإضافة إلى توقع حدوث متغيرات مرتقبة على مستوى مناصب القيادة العسكرية والأمنية. وفي المقابل، فإن الحركة الحوثية تعيد اصطفاف مليشياتها مجددًا من خلال عملية انتشار جديدة، لا سيما على أطراف مناطق النفوذ، بالإضافة إلى عمليات التدريب النوعي لمليشياتها، مع تنامي عملية التجنيد الإجبارية المنظمة لمعسكرات تستقطب الشباب، وإرسال مجموعات “نخبة” للتدريب على يد عناصر الحرس الثوري والمليشيات في العراق ولبنان وسوريا للتدريب على أنواع الصواريخ والطائرات دون طيار، واستقدام خبراء أيضًا لنقل الخبرات ذاتها.
أما سياسيًا، وعلى غرار ما جرى قبل نحو شهرين، تتسارع تحركات الوسطاء: المبعوث الأممي هانز غروندبيرج، والأمريكي تيموثي ليندركينج، في الساعات الأخيرة قبل انقضاء الهدنة لتجديدها، بل ومساعي توسيعها وفق المبعوثين الأممي والأمريكي، انطلاقًا من أنها ساهمت في تحسين الأوضاع المعيشية للسكان في اليمن. لكن في المقابل لذلك، فإن مواقف طرفي الهدنة تجاه عملية التمديد تبدو مختلفة، فالحركة الحوثية تريد رفع سقف المكاسب من الهدنة، بزيادة خطوط الطيران الخارجي، والإمدادات عبر ميناء الحديدة، أما الحكومة الشرعية فتشدد على ضرورة الالتزام أولًا بمقررات الهدنة، لا سيما ما يتعلق بملف تعز، خاصة مع زيادة مستوى التصعيد الحوثي في المدينة وتعثر ملف فتح الطرق.
دوافع الهدنة
بعيدًا عن الحسابات التكتيكية لعملية تمديد الهدنة من منظور العوائد والمكاسب، فإن الدافع الرئيسي لإقرار الهدنة بشكل عام هو التوصل لعملية وقف إطلاق نار شامل تمهد لعملية انتقال سياسي تنهي الصراع السياسي على السلطة، في حين أن ما يجري في اليمن يعكس واقعًا مختلفًا يقود من وجهة نظر الحوثيين إلى عملية تطبيع سياسي للأمر الواقع، بحيث تبسط سيطرتها على كافة مناطق النفوذ، وهو ما يترجم في تحليل مؤشرات الأداء الحوثي على الأرض، من حيث التمكين للمشروع الحوثي، واستفادت الحركة من الهدنة في زيادة هذه المؤشرات التي لا تقتصر بطبيعة الحال على المؤشرات العسكرية، من حيث طبيعة الانتشار الحوثي، وقدرات المليشيا العسكرية، ولكن بالنظر إلى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وقدرة المليشيا على تطبيع الحياة في مناطق النفوذ بقوة السلاح لصالحها في الوقت الراهن.
على الجانب الآخر، من الأهمية بمكان النظر إلى أن مجلس القيادة الرئاسي تشكل هو الآخر على التوازي مع خط الهدنة الزمني، وبالتالي فإن العودة إلى مستوى التصعيد بالشكل السابق سيضاعف من الأعباء الملقاة على عاتقه، إذ إن توجيه موارد المناطق المحررة للحرب في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة في اليمن، بالإضافة إلى المساعدات الخارجية من التحالف إلى المجهود الحربي سيُفقد الشرعية في شكلها الجديد الرهان على تغيير الواقع اليمني بعد ثماني سنوات على اندلاع الحرب، خاصة وأن الحكومة الشرعية في موقع مختلف، من حيث أعباء المسئولية والتزاماتها تجاه السكان، على عكس الحركة الحوثية التي لا تعنيها هذه الالتزامات بنفس القدر.
وبالتالي فإن خيارات الحكومة الشرعية ربما تكون محدودة، خاصة وأنها ليست عملية مفاضلة بين الخيار العسكري وخيار التسوية، وإنما مفاضلة بين الخيار العسكري وخيار التطبيع مع الأمر الواقع في المعادلة الصعبة التي يفرضها المشهد اليمني. وفي هذا السياق من الأهمية بمكان أيضًا التفريق ما بين مجلس القيادة الرئاسي، الذي استوعب القيادة الفصائلية للمكونات العسكرية، فمن الصعوبة بمكان أن تقدم هذه القيادة خيار التسوية بمنطق التطبيع على الخيار العسكري، وهو ما يفرض على مجلس القيادة تشكيل حكومة تتعامل مع برامج إعادة تأهيل المناطق المحررة كهدف بالأساس، في حين تكون أولوية مجلس القيادة الرئاسي هي أولوية القضية الاسترايتجية، وهي حل المعضلة الرئيسية المتمثلة في المشروع الحوثي.
ومن دون امتلاك الشرعية أدوات قوية تحسم بها موازين القوى، سيكون من الصعوبة في المستقبل استهداف هذا المشروع. قد تكون خطوة توحيد وإدماج أدوات القوة العسكرية خطوة رئيسية، لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن اليمن لا يخضع لبرنامج إصلاح أمني وعسكري بالمعنى المتعارف عليه، أو وفق دليل الأمم المتحدة، في ظل الظروف الحالية، لا يمكن إطلاق هذا البرنامج عمليًا، كما أن عملية إعادة تأهيل القوات المسلحة في ظل إعادة الهيكلة الراهنة لا تزال ضمن ترتيبات داخلية بالإضافة إلى التحالف، في حين أن عملية التأهيل تتطلب رفع الكفاءة والقدرات مع نقل خبرات نوعية لمواجهة التحديات الميدانية، والخبرات غير التقليدية التي تنقل للمليشيات الحوثية من الخارج، بالإضافة إلى التحدي الأساسي في خبرة إعادة البناء والتمثل في الثقافة العسكرية والأمنية، كجزء هام من برنامج الاحتراف العسكري، في حين أن الثقافة العسكرية تتأثر بالطابع الأيديولوجي إلى حد كبير، وبالتالي فإن متغير القيادة من الأهمية بمكان أن يخضع في الوقت ذاته لعملية تأسيس جديدة للعقيدة العسكرية في إطار عملية إعادة بناء الدولة الوطنية.
مخاطر قائمة
من زاوية أخرى، تبدو خطورة التطبيع الحوثي أو عملية توظيف الهدنة في التداعيات التي ستظهر على المدى المتوسط والطويل، فمن الواضح أن مفاصل الإدارة في مناطق النفوذ تتحكم فيها الحركة وتديرها بقدرة عالية من القيادة والسيطرة، وتربي جيلًا من الموالين لها بغض النظر عن انتماء هذا الجيل للسلالة، حيث يلقن هذا الجيل العداء للجمهورية وللشرعية ولا يتلقى التعليم الطبيعي، بقدر ما تتم تغذيته بثقافة الكراهية والعنف والتشدد. وفي هذا السياق أيضًا يمكن النظر إلى سياسات التعليم الجامعي على سبيل المثال في مناطق النفوذ الحوثي ولا سيما صنعاء، فقد تحولت في الأخير إلى عملية تمييز سياسي ومناطقي، لا يمكن مقارنة وضع التعليم في اليمن في السابق رغم تدهور مستوى الكفاءة بحالة السوء الراهنة في الجامعات وفق المؤشرات الدولية.
وفي التعليم ما قبل الجامعي، قد تكون الكارثة أسوأ، حيث إن ما يقرب من 4 ملايين طفل خارج المنظومة، وتحولت نسبة من المدراس الحكومية إلى معسكرات، وما تبقى يوظف كمصدر للتجنيد في مرحلة ما قبل التعليم الجامعي. فضلًا عن أن فرص المستقبل ما بعد التعليم في اليمن في حد ذاتها تساهم في عملية العزوف عن التعليم بشكل أساسي، وهو ما يجعل الكثير من المراقبين يقارنون بين السياسات الحوثية الحالية وسياسات ما قبل الجمهورية في العهد الإمامي الممتد تاريخيًا لقرون، وكيف كان اليمن دولة خارج مسار العصر، وأن السياسات الحوثية الراهنة تعيد جزءًا من البلاد إلى التاريخ ذاته. ومن هنا تبدو محورية المعركة الثقافية، وكفاءة إدارة المنظومة الثقافية الحكومية في زمن الحرب. صحيح أن هناك انشغالًا بالقضايا الكلية، من حيث التصدي للمشروع الحوثي ثقافيًا، لكن هذا الانشغال لم يترجم كرؤية استراتيجية بعيدًا عن المعركة الإعلامية وفضاء مواقع التواصل الاجتماعي.
كما لا توجد حركة مقاومة أو تمرد قوية في العمق الحوثي، لكن قدرة المليشيا على احتواء أي حركة تمرد، من خلال العسكرة أو القبضة الحديدية في المركز، والسيطرة على الأطراف، قادرة على إحباط أي نموذج للمقاومة، مع الوضع في الاعتبار -وفقًا لدراسة التجربة اليمنية- أن مستوى الغضب تجاه الحركة الحوثية يتزايد مع تنامي الجباية وارتفاع الأسعار، أو ما يمس بشكل مباشر متطلبات الحد الأدنى من الأمن الغذائي، في حين أن الهدنة خففت هذا العبء من على عاتق الحوثيين، بالإضافة إلى أن الحركة لديها حكومة أمر واقع في صنعاء تصدرها في تلك الأزمات، ومن السهولة بمكان تغير هذه الحكومة في حالة الغضب، بحيث لا تتضرر سلطة المليشيا الفعلية المتمثلة في النخبة السلالية. وبالتالي هناك حالة من التعايش الاجتماعي مع الواقع الراهن، حيث إن تطلعات الناس لا تتجاوز الحد الأدنى المطلوب للأمن الإنساني، أو الأمن الشخصي بتعبير أدق. مع الوضع في الاعتبار تنامي طبقة المستفيدين من الوضع الراهن، وهي واحدة من السياسات الحوثية. صحيح أن هناك عنصرية سلالية يستفيد منها 10% من السكان في مناطق النفوذ الحوثي على أقصى تقدير، لكن هناك شبكات مصالح تسهم في مضاعفة حجم هذه القاعدة السكانية، وغالبًا ما تنتصر النخبة وشبكات المصالح أو تتغلب على القاعدة العريضة في معادلة فرض الأمر الواقع.
ويمكن التطرق كذلك للجوانب الفنية للهدنة كآلية لخفص التصعيد، والتي تطرح بدورها تساؤلات عديدة، فما هي الجهة المسئولة عن الرقابة الميدانية للهدنة؟ مع الوضع في الاعتبار أن دور هذه الجهة ليس العملية الإحصائية، كذلك فإن الهدنة لم تتحول بعد إلى عملية وقف لإطلاق النار التي تتطلب آلية مراقبة ميدانية بشكل آخر على خطوط التماس، لكن الافتقار لهذه الآلية حتى في عملية الهدنة يعني أنها لن تكون متاحة في حالة الانتقال لخطوة أخرى إذا ما تم التوصل إليها في المستقبل. وبطبيعة الحال، هناك تقارير أممية حول عامل التحسن في بيئة الصراع، لكن بدون مؤشرات كافية أو كاشفة لخريطة هذا التحسن، وكيف توجه عملية الإغاثة والمساعدات إلى المناطق المختلفة، خاصة وأن لدى الحركة الحوثية خبرة في توجيه عمل هذه المنظمات بشكل إجباري لمناطق ومواقع معينة تصب لصالحها في الأخير، مع أنها تتذرع دائمًا بالعكس.
إن التطرق إلى كافة هذه التفاصيل، يهدف إلى المقاربة بين العملية السياسية التي تقوم على أساس إنهاء الصراع، والسياسات التي تتعاطى مع جذور الصراع ومسبباته، وهي السياسات التي يشكلها قوام المشروع الذي يمتلكه كل طرف من الأطراف في معادلة الصراع، فالصراع اليمني ليس صراعًا طارئًا يحتاج إلى دراسة من نوع مختلف على التجربة اليمنية تاريخيًا، بقدر ما يمكن اعتباره انفجارًا متوقعًا في مسار هذا التاريخ ذاته وجد أرض خصبة في ظل الوضع الإقليمي الراهن بأبعاده المعقدة، بما فيها عملية تغذية مثل هذه المشروعات. وهنا تكفي الإشارة إلى تصريحات زعيم حزب الله اللبناني هذا الأسبوع الخاصة بدعم المشروع الحوثي، أو بمعنى آخر رعاية مشروع الحرب في اليمن كأحد مراكز الحرب بالوكالة الإقليمية.
وإجمالًا، فإن منظور العملية السياسية في اليمن ليس هو ذاته منظور العملية السياسية التقليدية التي تخضع لمقاربات التسوية الفنية وفق منظور المبعوثين الدوليين والأمميين، ولا يفترض في الوقت ذاته أن يخضع لصفقات سياسية تضاعف من المكاسب الحوثية على طول الخط، وهو ما يفرض الحاجة إلى إعادة تقييم أي عملية سياسية مطلوبة. صحيح أن هناك ثوابت مقررة يتم العمل بها كمرجعية، لكنها مستحقة من جانب طرف واحد هو الشرعية، بينما لا يلقي الطرف الآخر لها بالًا، كما أنه لا يمكن التقليل من أهمية الهدنة أيضًا كآلية لخفض التصعيد وتداعياتها على عملية الإغاثة والدعم الإنساني رغم الإخفاقات الهائلة في وضع حد للانتهاكات الحوثية حتى في صلب ملفات الهدنة ذاتها في تعز على غرار ما حدث في اتفاق استكهولم بشأن الحديدة، لكن في الوقت ذاته هناك منظور لما هي العملية السياسية المطلوبة، وما هي أدواتها وآلياتها للخروج من حالة “تسكين” أو “إدارة الأزمة” بالشكل الحالي.
.
رابط المصدر: