محمد صلاح الدين
أزمة اقتصادية خانقة تدفع الشعب السريلانكي إلى الخروج إلى الشوارع واقتحام مقر الحكم، ليغادر بعدها الرئيس غوتابايا راجاباكسا البلاد ويقدم استقالته للبرلمان، ليُنتخب بعدها رئيس الوزراء رانيل ويكرمسينغ رئيسًا للبلاد، ربما هذا هو الملخص للأحداث التي شهدتها الجزيرة الواقعة جنوب شبه القارة الهندية منذ أبريل وحتى يوليو الجاري.
فالدولة التي يصل عدد سكانها إلى قرابة 22 مليون نسمة لم تكد تلتقط أنفاسها من الحرب الأهلية التي امتدت قرابة 30 عامًا “1983-2009 بين الحكومة وحركة نمور التاميل” حتى وجدت نفسها تغرق نتيجة سوء الإدارة الاقتصادية في عجز مزدوج “مصطلح يعني أن الإنفاق القومي أكبر من الدخل القومي، مع عدم كفاية ما تنتجه الدولة من السلع والخدمات” فاقمته تبعات الإغلاق الذي فرضته جائحة كورونا في العالم، والحرب الروسية الأوكرانية، لتصل إلى مرحلة التخلف عن سداد الديون البالغة أكثر من 50 مليار دولار، إضافة إلى شح الاحتياجات الرئيسة للحياة اليومية من غذاء ووقود وأدوية، علاوة على تراكمات سياسية تتعلق بأسلوب حكم عائلة راجاباكسا أدت إلى اندلاع التظاهرات في أبريل بالعاصمة كولمبو وتنتشر في جميع أنحاء البلاد لتصل إلى اللحظة الراهنة.
هذه الأزمة وما سبقها من أحداث في سريلانكا يظهر فيها لاعبان أساسيان يتنافسان من أجل الوجود في هذه الجزيرة، هما: الهند التي تتشارك حدودها البحرية، والصين التي أصبح لها تأثير اقتصادي متزايد في الدولة الجزرية في السنوات الأخيرة؛ إذ تبحث عن موطئ قدم لها في المحيط الهندي في إطار التنافس الإقليمي بين بكين ونيودلهي التي أصبحت –إضافة إلى نفوذها الإقليمي العسكري وقوتها النووية- واحدة من دول الحوار الأمني الرباعي “الولايات المتحدة، الهند، اليابان، أسترااليا” لمواجهة الصين.
الوجود الهندي في سريلانكا
إلى جانب القرب الجغرافي بين البلدين اللذين يفصل بينهما مضيق بالك Palk وخليج منار Manaar، يلعب وجود عرقية التاميل دورًا في الوجود الهندي في البلاد، فهذه العرقية التي تمثل 12% من إجمالي سكان سريلانكا –التي يمثل السنهاليون غالبيتها- تتشارك لغويًا وثقافيًا مع سكان ولاية تاميل نادو الواقعة جنوبي الهند.
وبحسب الدكتور أميت رانجان الباحث في معهد دراسات جنوب آسيا التابع لجامعة سنغافورة فإنه يمكن تقسيم تاريخ العلاقات بين نيودلهي وكولمبو إلى 4 مراحل: الأولى قبل الحرب الأهلية، والثانية التدخل لحل أزمة الحرب الأهلية، وهي المرحلة التي تضمنت تدخلًا هنديًا انتهى بتوقيع اتفاق سلام بين البلدين عام 1987 كان من بين بنوده إحلال قوات حفظ سلام هندية في الجزيرة للمشاركة نزع سلاح متمردي التاميل، وهو الأمر الذي رفضته جماعة نمور التاميل التي اغتالت عام 1991 رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي صاحب الاتفاق، لتبدأ المرحلة الثالثة بعدم التدخل وسحب قوات حفظ السلام الهندية من سريلانكا.
يضيف رانجان في كتابه India in South Asia ..Challenges and management أنه مع صعود ماهيندا راجاباكسا “الشقيق الأكبر للرئيس المستقيل غوتابايا ورئيس وزرائه حتى قيام الاحتجاجات الأخيرة” عام 2005 واندلاع الحرب ضد نمور التاميل في العام التالي فإن نيودلهي قدمت دعمًا عسكريًا “غير مميت” لسريلانكا، إضافة إلى المعلومات الاستخبارية، مع الموازنة بين الحفاظ على علاقات جيدة مع كولمبو ومراعاة مشاعر سكان ولاية تاميل نادو وحقوق تاميل سريلانكا، وكذلك الحفاظ على الأمن عبر منع خطوط الإمداد البحرية إلى حركة نمور التاميل بالتعاون مع البحرية السريلانكية. أما مرحلة ما بعد هذه الحرب فقد كانت القضية العرقية والتنافس من أجل الصيد وزيادة النفوذ الصيني أمور لافتة في العلاقات بين البلدين خلالها بحسب الكتاب نفسه.
راجاباكسا والورقة الصينية
وضعت الصين اهتمامها بسريلانكا لعدة عوامل سياسية واقتصادية؛ فمن جانب كان ذلك في إطار اهتمامها بمنطقة جنوب آسيا ومساعي اكتساب النفوذ في مواجهة الاهتمام الهندي في شرق وجنوب شرق آسيا، ومن الناحية الاقتصادية والأمنية فإن موقع سريلانكا المتوسط على الطريق البحري بين الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا يؤمن لها طريقًا تجاريًا آمنًا بديلًا عبر دخولها بشكل مباشر في المياه الدولية للمحيط الهندي الذي يوفر فرص للصين لكن في نفس الوقت مصدر خطر مثل القرصنة والإرهاب والمخدرات والاتجار بالأسلحة والمواد وأسلحة الدمار الشامل لذلك يمكن أن تكون سريلانكا حائط صد لمثل هذه المخاطر.
يضاف إلى ذلك الموارد الطبيعية التي تتمتع بها سريلانكا من فحم وحديد لم يتم استغلاله بشكل كامل، إضافة إلى كونها سوقًا محتملة للمنتجات الصينية بحسب الأستاذ بجامعة بنجالور الهندية سوريندرا كومار في بحثه حول تداعيات التقارب الصيني السريلانكي على الهند عام 2017.
ورغم أن العلاقات بين البلدين تمتد إلى مئات السنين بسبب الرهبان البوذيين الصينيين الذين وصلوا إلى سريلانكا “البوذية يعتنقها 70% من السكان”، وأن العلاقات الدبلوماسية تمتد إلى خمسينيات القرن الماضي حيث كانت كولمبو من أوائل العواصم التي تعترف بالصين الشعبية؛ إلا أن العلاقات بين الدولتين اتخذت طابعًا خاصًا في حقبة عائلة راجاباكسا.
يمتد تاريخ عائلة راجاباكسا في السياسة السيريلانكية إلى فترة الاستعمار البريطاني؛ فالجد كان ذا منصب خلالها، أما الوالد فكان نائبًا لرئيس برلمان البلاد عقب الاستقلال، فيما احتل الجيل الثالث “ماهيندا وغوتابايا راجاباكسا” موقع الرئاسة، فامتدت فترة الأول من 2005 حتى 2015 وهو العقد الأكثر سخونة في أحداثه في سريلانكا، أما الثاني امتدت ولايته من 2019 وحتى استقالته من منفاه الاختياري عقب الاحتجاجات.
تولى ماهيندا الحكم عام 2005 لتتصاعد أحداث الحرب الأهلية في البلاد، ويخوض بجيشه “الذي قاده غوتابايا” حربًا تنتهي بالقضاء على حركة نمور التاميل. وخلال الفصل الأخير من هذه الحرب، بدأ راجاباكسا التقارب مع الصين التي وفرت له دعمًا عسكريًا وغطاء دبلوماسيًا في الأمم المتحدة وسط دعاوى انتهاكات حقوق الإنسان ضد حكومته في ذلك الوقت لحمايته من أي عقوبات محتملة بحسب نيويورك تايمز.
ويعزي كل أسيت كي سيواس وسيسيليا تورتاجادا الأستاذان بكلية السياسات العامة التابعة لجامعة لي كوان يو بسنغافورة اعتماد ماهيندا راجاباسكا بشكل متزايد على الصين خاصة في ولايته الثانية “2010- 2015” إلى 3 أسباب: أولها أن التحالف الحاكم في الهند وقتها كان يضم ويدين بالفضل في بقائه لأحزاب إقليمية من ولاية تاميل نادو، وثانيها إذعان رئيس الوزراء الهندي السابق مانموهان سينغ للضغوط الداخلية بعدم حضور مؤتمر رؤساء حكومات الكومنولث في سريلانكا عام 2013، والسبب الأكثر الأهمية هو اختلاف المانحين الغربيين بشدة مع موقف ماهيندا الرافض لإجراء أي تحقيق مستقل وموضوعي حول حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان من طرف الحكومة أو جماعة نمور التاميل خلال الحرب.
ومع هذه التطورات، وجدت بكين مساحة تستطيع من خلالها إثبات وجودها في سريلانكا، وذلك بأن حلت في المرتبة الأولى محل اليابان كمتبرع رئيس للبلاد عام 2009، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن بكين قدمت مساعدات تتخطى 5 مليارات دولار بين عامي 1971 و2012 لكولمبو قُدم معظمها “94%” بداية من وصول ماهيندا راجاباكسا للحكم عام 2005 وذلك بحسب مقالة الأستاذين نفسيهما عام 2015. اللافت هنا بحسب المصدر نفسه أن 2% فقط من التمويلات التي قدمتها الحكومة الصينية في هذه الفترة كانت منحًا في حين أن البقية كانت “قروضًا ميسرة”.
كل هذا يعني أن الصين استطاعت أن تستغل المساحات الفارغة التي تركتها الهند لتعظيم وجودها على الجزيرة عبر عائلة راجاباكسا، إلا أن الوضع بدأ يعود إلى حالة التوازن مع صعود مايتريبالا سيريسينا إلى لرئاسة بعد عام 2015 قبل عودة الأخ الأصغر غوتابايا راجاباسكا وعائلته للحكم في البلاد.
عودة التنافس الهندي الصيني
يعد ميناء هامبانتوتا خير مثال على حالة الجدل الدائرة حول النفوذ الاقتصادي للصين، فالمشروع افتتحت المرحلة الأولى منه عام 2010 بقروض من مؤسسات صينية بلغ مجموعها 1.2 مليار دولار وانتهى أمره إلى تأجيره لشركة China Merchants Port التابعة لحكومة بكين لمدة 99 عامًا وذلك عام 2017 بحسب فاينانشيال تايمز.
لكن في الحقيقة لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها الشركة الصينية على ساحة الموانئ السريلانكية، فقد ظهرت في عام 2011 في اتفاق امتياز مدته 35 عامًا وقعته مع التكتل السريلانكي Aitken Spence وهيئة الموانئ السريلانكية لتشغيل المحطة الجنوبية المعروفة باسم محطة الحاويات الدولية في كولمبو (CICT).
في المقابل، كان لنيودلهي موقف عززت به وجودها في مواجهة الصين بعد عقد من الزمان بحصول مجموعة أداني Adani Group “أكبر مشغل للموانئ في الهند” على اتفاق امتياز مدته 35 عامًا لتطوير محطة حاويات غرب كولمبو الدولية (CWICT) مع أكبر شركة محلية في صفقة بلغ مجموعها 700 مليون دولار وذلك حسب موقع the interpreter التابع لمعهد lowy المستقل في أستراليا.
ورغم عودة عائلة راجاباكسا إلى الحكم مرة أخرى بصعود غوتابايا عام 2019، إلا أن الأزمة الاقتصادية قد فرضت نفسها، واستغلتها نيودلهي لصالحها عبر توفير أكثر من 4 مليارات دولار لأساسيات الحياة لسريلانكا وفقًا لما أعلنه رئيس الوزراء السريلانكي حينها رانيل ويكرمسينغ في يونيو الماضي. في المقابل، وبحسب ذا ديبلومات فإن الصين التي تمتلك 7 مليارات دولار من أصل ديون تبلغ 26 مليار دولار تخلفت سريلانكا عن دفعها هذا العام لم تقدم سوى حزمة مساعدات بلغت 76 مليون دولار.
الخلاصة، مع الأزمة الاقتصادية التي تواجهها سريلانكا سيتعين على الرئيس الجديد رانيل ويكرميسنغ العمل على استعادة التوازن في العلاقات بين الهند التي أصبحت أكبر داعم لبلاده خلال الأزمة، وبين الصين التي سيسعى إلى إقناعها بالموافقة على جدولة ديون بلاده حيث تملك بكين 10% منها، هذا التوازن لن يكون جديدًا على الرئيس الذي يتمتع بخبرة سياسية طويلة عبر التنقل وزيرًا ورئيسًا للوزراء في حقب زمنية مختلفة منذ التسعينيات وحتى الآن.
.
رابط المصدر: