بسنت جمال
أعلنت الصين بداية العام الجاري عن نيتها تشييد شركة لمعادن الأرض النادرة عبر دمج بعض الشركات المنتجة الرئيسية، بما في ذلك ” تشاينا مينميتالز كورب” و “ألمنيوم كورب أوف تشاينا” و”جانتشو رير إيرث غروب”، لتعزيز سيطرتها على الصناعة العالمية التي هيمنت عليها لعدة عقود.
وتأتي تلك الخطوة في ظل مرور الساحة الدولية بما يُعرف بـ “حرب الموارد” حيث احتدم الصراع بين الدول للهيمنة على المعادن النادرة التي تُعد العمود الفقري للصناعات التكنولوجية والعسكرية والسيارات الكهربائية فضلًا عن أهميتها القصوى في عملية التحول للطاقة النظيفة في خضم مواجهة التغيرات المناخية؛ إذ توقعت وكالة الطاقة الدولية زيادة الطلب على المعادن النادرة بمقدار يبلغ ستة أضعاف في حالة حقق العالم الأهداف المنصوص عليها في اتفاقية باريس.
مظاهر وحدود الهيمنة الصينية
استطاعت الصين خلال السنوات الماضية أن تتحكم في المعادن الأرضية النادرة سواء على مستوى الإنتاج أو التصنيع أو معالجة المواد الخام وتكريرها وتصديرها. وجاء ذلك مدفوعًا بالسياسات الحكومية التي اتخذتها منذ حوالي ثلاثين عامًا باعتبار المعادن مادة استراتيجية بهدف إزاحة الولايات المتحدة من الطريق باعتبارها المنتج الرائد في العالم حينذاك.
احتكار طويل الأمد:
لا تتمثل هيمنة الصين على المعادن النادرة فيما يُعرف بـ “جغرافية الاحتياطات” فحسب، رغم استحواذها على حوالي 38% من احتياطيات العناصر النادرة، واحتلالها المركز الأول في قائمة أكبر منتجي الأتربة النادرة حول العالم، حيث ترجع هيمنتها إلى استغلالها لقوتها العاملة منخفضة التكلفة نسبيًا والقوانين البيئية غير المشددة للحصول على ميزة تنافسية في السوق العالمية، فضلًا عن ضخها استثمارات ضخمة في هذا القطاع، مع تطوير شبكة لتكرير المواد الخام، وتأميم صناعة الرواسب المعدنية الأرضية النادرة، بالإضافة إلى قيامها بتوقيع عقود التنقيب عن هذه المعادن في الدول الغنية بها لاستخراجها ومعالجتها، ثم تصديرها إلى بقية العالم.
ولم يُكن الدعم الحكومي لتلك المعادن حديث النشأة؛ إذ يعود إلى منتصف الثمانينيات حينما أصدرت السلطات الصينية خصومات ضريبية على صادرات المعادن الأرضية مما خفض من تكاليف شركات التعدين الصينية، بالتزامن مع منع الشركات الأجنبية من أنشطة التعدين داخل الصين وفرض قيود على مشاركتها في مشروعات معالجة التربة النادرة، إلا في حالة التعاون مع المؤسسات المحلية مما مكّن الأخيرة من اكتساب المعرفة الأجنبية من خلال تلك الشراكات.
وبالنظر إلى البيانات والإحصائيات، يتضح أن ثاني أكبر اقتصاد في العالم يستحوذ على نحو 38% من احتياطي المعادن النادرة عالميًا بإجمالي يبلغ 44 مليون طن، يليها فيتنام بنسبة 19%، والبرازيل بحوالي 18.1%، ومن ثم روسيا والهند بحوالي 10.4% و6% على الترتيب، كما يتبين من الرسم الآتي:
الشكل 1- احتياطي المعادن النادرة حول العالم (مليون طن)
وعطفًا على ذلك، تُعد الصين أكبر منتج للأتربة النادرة في العالم، لتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية، حيث استخرجت الأولى 140 ألف طن في عام 2020، مقارنة بحوالي 38 ألف طن في الولايات المتحدة، وهو ما يوضحه الشكل الآتي:
الشكل 2- إنتاج المعادن النادرة حول العالم خلال 2020 (مليون طن)
وقد ساعد كل ما سبق الصين على أن تصبح المورد الرئيسي لهذه المعادن حيث اضطرت معظم الشركات إلى إرسال إنتاجها من التربة النادرة ليتم تكريره في مصانعها، وخلال الفترة التي تتراوح بين 2008 حتى 2018، استحوذت بكين على حوالي 42.3% من إجمالي صادرات المعادن النادرة حول العالم يليها الولايات المتحدة بنحو 9.3%.
التحكم في النطاق السعري:
انطلاقًا من هيمنة الصين على احتياطات المعادن النادرة وإنتاجها، فقد استطاعت أن تسيطر على الأسعار بشكل كبير، حيث تهدف الحكومة إلى ضمان ارتفاع أسعار المعادن الأرضية النادرة. وقد حدث ذلك حينما فرضت قيود على صادراتها من المعادن في أواخر عام 2010، مما أدى إلى ارتفاع متوسط سعر واردات معادن الأرض النادرة العالمية من 9.461 ألف دولار للطن المتري في عام 2009 إلى ما يقرب من 66.957 ألف دولار في عام 2011، وهو ما يوضحه الشكل الآتي:
الشكل 3- متوسط سعر واردات معادن الأرض النادرة العالمية
سلاح جيوسياسي ضاغط:
لطالما لوحت الصين بإمكانية استخدام سلاح المعادن النادرة لمواجهة أيّ ضغوط سياسية واقتصادية قد تتعرّض لها من القوى الغربية وأظهرت استعدادها للاستفادة من ثقلها في صناعة معادن الأرض النادرة العالمية في السعي لتحقيق أهدافها الخاصة، مما أدى إلى دق ناقوس الخطر في العديد من البلدان الكبرى، كما إنها هددت في الكثير من المناسبات بإيقاف الصادرات من هذه المعادن إلى باقي الدول مما قد يؤثر سلبًا على اقتصاداتها القائمة على الصناعات التكنولوجية الحديثة. وعلى الرغم من توافر المعادن في تلك البلدان، إلا إنها تواجه العديد من التحديات خلال عملية إنتاجها كالتكاليف المرتفعة والمخاوف البيئية من إنشاء ذلك النوع من الصناعات المحلية.
وقد رأينا هذا حينما هددت بكين بقطع الإمدادات عن الولايات المتحدة خلال حربهما التجارية خلال عام 2019، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تستغل فيها هيمنتها على المعادن الأرضية النادرة لأغراضٍ سياسية، حيث حظرت صادراتها إلى اليابان في عام 2010 عقب تصاعد التوترات بين بكين وطوكيو.
قلق دولي متصاعد
تسعى غالبية دول العالم في الوقت الراهن إلى تحجيم الاعتماد على الصين في توريد المعادن النادرة والبحث عن طرق لخفض اعتمادهما على مُورّد واحد للمواد الخام من تلك العناصر، حيث دفعت التهديدات الصينية بإمكانية قطع الإمدادات عن القوى الغربية تلك الحكومات للشعور بالقلق تجاه تأثير أي تعطيل بسيط لسلاسل التوريد الخاصة بهم لمثل هذه المنتجات على الصناعات الرئيسية.
ففي الولايات المتحدة، أطلق باحثون في البنتاجون مشروعًا يستهدف استخراج المعادن الأرضية النادرة ذات الأهمية الحيوية للتقنيات العسكرية من مصادر محلية باستخدام مُعدات متناهية الصغر، كما ساعد البنتاجون في تمويل سلسلة من المشروعات الهادفة لتطوير عمليات المعالجة في الولايات المتحدة، كما وقع الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” قرارًا تنفيذيًا يهدف إلى زيادة الإنتاج المحلي من المعادن النادرة. وخلال عام 2018، أضافت الحكومة التربة النادرة إلى قائمة المعادن التي تعتبر ضرورية للاقتصاد الأمريكي والأمن القومي.
وبالتزامن مع ذلك، أضاف الاتحاد الأوروبي العناصر الأرضية النادرة إلى قائمة المواد الحيوية مما يستوجب عليه تقليص الاعتماد على الواردات عن طريق تعزيز الإنتاج المحلي، كما أطلق استراتيجية خاصة لضمان الوصول إلى المواد الخام، لترتكز الاستراتيجية على ثلاثة نقاط؛ ضمان استيراد المواد الخام من الأسواق العالمية، وضمان الانتاج المستدام للمواد الخام من داخل الاتحاد الأوروبي، وإعادة التدوير والاستخدام.
ومن أجل تحقيق تلك الأهداف، أطلق الاتحاد الأوروبي مشروع ” EURARE” بهدف تطوير صناعة تنقيب وتنقية العناصر الأرضية النادرة في القارة العجوز بطريقة مستدامة ومجدية اقتصاديًا وصديقة للبيئة، كما أسس شبكة الخبرة الأوروبية للعناصر الأرضية النادرة “ERECON” بهدف وضع خطط لتجاوز التحديات التي تواجه صناعة المعادن النادرة، وتحديد أهم المناطق الأوروبية الصالحة لاستغلالها في تلك الصناعة.
كما تجري شركات صناعة السيارات الأوروبية مناقشات مع شركة “أرافورا ريسورسز ليميتد” الأسترالية لاستكشاف المعادن الأرضية النادرة، حول تأمين العناصر التي ستساعدها على تشغيل المركبات الكهربائية بعيدًا عن الصين التي تهيمن على الإمداد العالمي.
ومن ناحية أخرى، تخطط كوريا الجنوبية لتنويع مصادر إمداداتها من العناصر الأرضية النادرة وتقليل الواردات من الصين، بالتوازي مع زيادة وارداتها من اليابان، فضلًا عن ابتكار طرق جديدة لتقليل استهلاك العناصر الأرضية النادرة.
وفي خطوة تعاون مشتركة، شنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان سلسلة من النزاعات التجارية ضد الصين في منظمة التجارة العالمية خلال عام 2012، بدعوى أن سياسات الحكومة الصينية تفيد صناعتها المحلية بشكل غير عادل على حساب الدول الأخرى، لتحكم المنظمة بوجوب إنهاء الصين نظام الحصص التصديرية للمعادن النادرة بحلول عام 2015. وإلى جانب ذلك، قامت البلدان المذكورة بتعزيز الاتفاقيات ومشاريع الاستكشاف المشتركة مع الدول التي قد تعتبر بديلًا للصين. كما أطلقت الولايات المتحدة وأستراليا عدد من المبادرات المشتركة بشأن معالجة المعادن الأرضية النادرة في ولاية تكساس الأمريكية.
وفي ضوء تلك المحاولات الجاهدة لموازنة الهيمنة الصينية القائمة على سوق المعادن الأرضية، تساءلت الأوساط الاقتصادية عن مدى فعالية هذه الخطوات، وللإجابة على هذا التساؤل يُمكن الاستعانة بالرسم البياني الآتي:
الشكل 4- نسبة الاعتماد على الصين في تأمين المعادن النادرة
يتضح من الرسم السابق أن الولايات المتحدة استغرقت عقدٍ زمني لتقليل نسبة اعتمادها على الصين في تأمين إمدادات المعادن النادرة من 91.3% في عام 2008 إلى 80.5% بحلول عام 2018، فيما نجحت اليابان في خفض تلك النسبة من 90.6% لتصل إلى 58% فقط، واستطاعت كوريا الجنوبية أن تصل بتلك النسبة إلى 57.1% مقارنة بنحو 77% خلال عام 2008، في حين قلص الاتحاد الأوروبي اعتماده على بكين إلى 55.5% مقابل 68.2% في 2008. ومع استمرار وتيرة الانخفاض البطيئة، فمن المرجح أن يتآكل دور الصين المهيمن على المدى البعيد حيث تعمل ديناميكيات السوق المتغيرة على تمكين الجهات الفاعلة الجديدة من المنافسة.
ختاما يمكن القول بإمكانية احتدام المنافسة في سوق المعادن الأرضية النادرة خلال السنوات القادمة، في ظل قلق دولي متزايد بشأن توظيف الصين لتلك السلعة الاستراتيجية ضد خصومها، وفي ظل تزايد أهمية تلك المعادن في العديد من الصناعات الحيوية.
.
رابط المصدر: