- يستثمر الأوروبيون الأزمة الصحية الناشئة عن تفشي مرض “جدري القردة” لتشكيل دبلوماسيتهم الخاصة باللقاحات في أفريقيا ضمن نهج استباقي، من طريق التبرع المباشر باللقاحات للدول الأفريقية، وعبر إنشاء مسرّع إنتاج اللقاحات في أفريقيا.
- تدور السياسات الأوروبية الجديدة لدبلوماسية اللقاحات حول هدف طارئ هو منع تسرُّب “جدري القردة” إلى أوروبا، وهدف استراتيجي يتمثَّل في تصحيح أخطاء سياسات الأزمة الوبائية السابقة، وترميم النفوذ الأوروبي المتراجع في أفريقيا.
- تواجه أوروبا تحدي القدرة على صياغة دبلوماسية لقاحات موحدة تحقق أهدافها الصحية والجيوسياسية، كما تواجه تحدي المنافسة الجيوسياسية في القارة الأفريقية مع الصين وروسيا بالدرجة الأولى، إلى جانب أن دبلوماسية اللقاحات تبدو قاصرةً وحدها عن ترميم النفوذ الأوروبي المتراجع في القارة.
أعلنت منظمة الصحة العالمية، في 14 أغسطس 2024، أن مرض جدري القردة (إمبوكس)، الذي انتشر في جمهورية الكونغو الديمقراطية وعدد متزايد من البلدان في أفريقيا، أصبح يشكل طارئةً صحيةً عامةً تُثير قلقاً دولياً. وفضلاً عن حالة القلق التي اجتاحت العالم، بعد تسجيل حالاتٍ خارج القارة الأفريقية، وتوقعات بتسجيل حالات إضافية في المنطقة الأوروبية خلال الأسابيع المقبلة، فإن الأزمة الصحية المحتملة أعادت مرةً أخرى دبلوماسية اللقاحات إلى الواجهة، وذلك بهدف استعادة دول أوروبا، وفرنسا خصوصاً، نفوذها المتآكل في القارة السمراء.
السياق والمؤشرات
في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ الصحية الدولية بشأن جدري القردة (إمبوكس)، أعلنت هيئة الاستعداد والاستجابة للطوارئ الصحية، التابعة للمفوضية الأوروبية، شراء 215,000 جرعة لقاح من مؤسسة “بافاريان نورديك” الأوروبية، المنتجة للقاح MVA-BN، وهو لقاح الجدري الوحيد المعتمد من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية ووكالة الأدوية الأوروبية، والتبرع بها لدعم مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في أفريقيا، لمجابهة تفشي المرض في البلدان المتضررة في القارة.
وقبل ذلك بأسابيع، نظّم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وبالاشتراك مع الاتحاد الأفريقي والتحالف العالمي للقاحات والتحصين (GAVI)، “المنتدى العالمي للسيادة اللقاحية وابتكار اللقاحات”، الذي شارك فيه رؤساء دول ووزراء من جميع القارات، بالإضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني ومختبرات الأدوية ومعاهد البحوث. ومن أجل تعزيز السيادة الصحية للقارة الأفريقية، التي لا تنتج سوى 0.2% من الإمدادات العالمية من اللقاحات، أعلن الرئيس الفرنسي إطلاق مسرّع إنتاج اللقاحات في أفريقيا (AVMA)، وهو صندوق قيمته نحو مليار دولار لإنشاء سوق لقاحات أفريقية. في حين أعلن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه عن مساهمة تزيد عن 800 مليون دولار، بما في ذلك نحو 233 مليون دولار من ميزانية الاتحاد الأوروبي، لصالح برنامج تسريع إنتاج اللقاحات الأفريقي. ومن المتوقع أن يحقق برنامج التسريع، المدعوم أوروبياً، هدف إنتاج 60% من اللقاحات محلياً في القارة. كما يخطط البرنامج لشراء أكثر من 800 مليون جرعة يتم إنتاجها في أفريقيا خلال العقد المقبل.
ويتسق هذا النهج مع مبادرة فريق أوروبا بشأن التصنيع والوصول إلى اللقاحات والأدوية وتقنيات الصحة في أفريقيا، التي أطلقها الاتحاد الأوروبي قبل ثلاث سنوات، والتي تهدف إلى تيسير الوصول إلى منتجات صحية عالية الجودة وآمنة وفعالة وبأسعار معقولة، وهي جزء من أهداف التنمية والأولويات الجيوسياسية المشتركة بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي. وتقوم المبادرة حول ستة مجالات عمل، هي التنمية الصناعية وسلاسل التوريد والقطاع الخاص وتشكيل السوق والطلب وتسهيل التجارة والتعزيز التنظيمي ونقل التكنولوجيا وإدارة الملكية الفكرية والوصول إلى التمويل والبحث والتطوير والتعليم العالي والمهارات. واعتباراً من مارس 2023، بلغ إجمالي المخصصات المخطط للمبادرة نحو 1.1 مليار يورو، مع نحو 980 مليون يورو تمت الموافقة عليها بالفعل، وتشمل نحو 663 مليون يورو في شكل قروض وأدوات مالية أخرى من مؤسسات التمويل الإنمائي الأوروبية، و316 مليون يورو في شكل منح ودعم للميزانية وتمويل مختلط.
اقرأ أيضاً: |
الدوافع والأهداف
يحاول الأوروبيون استثمار الأزمة الصحية الناشئة لتشكيل دبلوماسيتهم الخاصة باللقاحات، ضمن نهج استباقي يحاول ألا يكرر أخطاء أزمة جائحة “كوفيد-19″، عندما سلك الاتحاد الأوروبي طريقة العمل في إطار متعدد الأطراف، من طريق دعم آلية “كوفاكس” التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية لشراء اللقاحات بشكل مشترك وتوريدها إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وفي الواقع كان الاتحاد أكبر مُصدّر للقاحات ضد “كوفيد-19” في العالم، إذ سَلَّمَ 2.2 مليار جرعة إلى 167 دولة، وبهذا فإنه صدّر نحو ضعف عدد اللقاحات التي تُصدّرها الصين، وثلاثة أضعاف صادرات الولايات المتحدة، و20 مرة أكثر من روسيا. لكنّ الطريق التي سلكتها كل من بيجين وموسكو وواشنطن كانت أكثر تأثيراً من الناحية الجيوسياسية. فقد عززت الصين وروسيا علاقاتهما الثنائية مع العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم بفضل التصدير المباشر دون المرور بالمنظمات الدولية، وبالتالي سلّمت الجرعات بشكل سريع ومبكر، ما أعطى انطباعاً لدى الدول النامية، لاسيما في أفريقيا، بوجود تضامن صيني وروسي، في مقابل تَخلٍ أوروبي وغربي بشكل عامٍ. بل شكّل الوباء الفرصة التاريخية لروسيا للعودة بقوة إلى أفريقيا، حيث قدمت 300 مليون جرعة من لقاح سبوتنيك إلى 15 دولة أفريقية. وعززت صورتها كقوة دولية تضامنية.
وقد شكّلت السياسات الأوروبية الصحية تجاه أفريقيا، في زمن جائحة “كوفيد-19″، جزءاً أساسياً من حالة تفكك النفوذ الأوروبي المتسارع في القارة خلال السنوات الثلاث الماضية، وهو تراجع كسبت ريعه بيجين وموسكو بشكل واضح. فالدرس الأساسي الذي خلّفته الجائحة، هو عدم التقليل من شأن التداعيات الجيوسياسية طويلة المدى لدبلوماسية اللقاحات، وكيف أنها أصبحت تشكل أداة قوية تستخدمها الدول لتوسيع قوتها الناعمة في جميع أنحاء العالم.
لذلك تدور السياسات الأوروبية الجديدة لدبلوماسية اللقاحات في أفريقيا حول هدفين: الأول، طارئ، وهو منع تسرب مرض “جدري القردة” إلى أوروبا، لجهة تشابك مسارات السفر والتبادل بين القارتين، وبالتالي ستكون جهود منح اللقاح أساسية للمجابهة المبكرة. والهدف الثاني استراتيجي، وهو تصحيح أخطاء سياسات الأزمة الوبائية السابقة، واستعادة المبادرة بشكل ثنائي أوروبي-أفريقي لمنع تفشي المرض، ومن وراء ذلك ترميم النفوذ الأوروبي –الفرنسي خاصةً– المتراجع في القارة، وإعادة بناء جسور الثقة المفككة، وبخاصة أن أوروبا تتمتع اليوم بإمتياز إنتاج اللقاح الأكثر اعتماداً من الهيئات التنظيمية الدولية لمجابهة مرض جدري القردة.
التحديات
تواجه السياسات الأوروبية الجديدة لدبلوماسية اللقاحات في أفريقيا تحديين أساسيين:
يتمثَّل التحدي الأول في قدرة الكتلة الأوروبية على صياغة دبلوماسية لقاحات موحدة، يمكن أن تحقق أهدافها الصحية والجيوسياسية على المدى الطويل، سيما في ظل حالة الانقسام التي تسود الاتحاد حول مختلف القضايا، وبخاصة العلاقة مع بقية القوى الدولية الأساسية، الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وربما يشكل هذا التحدي تحدياً مضاعفاً في حال توسُّع الحالة الوبائية، والتي يمكن أن توقظ النزعة الانعزالية لدى دول الاتحاد، وبالتالي التراجع عن السياسات التضامنية في إنتاج اللقاحات وتوزيعها حول العالم، سيما مع أفريقيا، وهو سيناريو حالة الصدمة الوبائية الذي ظهر بوضوح في العام الأول من انتشار “كوفيد-19”.
أما التحدي الثاني فيتعلق بشراسة المنافسة الجيوسياسية في القارة الأفريقية. فالاتحاد الأوروبي، حتى وإن فرضنا جدلاً قدرته على صياغة دبلوماسية لقاحات موحدة، لن يكون اللاعب الوحيد في القارة، في ظل منافسة قوية مع الصين وروسيا بالدرجة الأولى، وقدرة البلدين العلمية والتقنية والمالية على المنافسة كبيرة، فضلاً عن مركزية السلطة المفقودة في أوروبا، والتي تعطي بيجين وموسكو أفضلية في السرعة والنجاعة. إلى جانب محدودية دبلوماسية اللقاحات، مهما كانت قوتها، في ترميم النفوذ الأوروبي المتراجع في القارة، حيث يحتاج ذلك إلى أدوات أخرى من القوة الناعمة تتعلق بتغيرات جذرية في السياسات الاقتصادية والثقافية والسرديات الرمزية المتعلقة بالتاريخ الاستعماري والعنصرية وغيرها من رواسب الماضي. فضلاً عن المنافسة من الحليف الأمريكي الذي يحتفظ بمواقع أساسية في غرب أفريقيا، وبقدرة تقنية ومالية تجعله قادراً على إدارة دبلوماسية لقاحات ناجعة، من ناحية التأثير الجيوسياسي.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/jiusiasiat-aladwa-alwajh-aljadid-lidiblumasiat-alliqahat-aluwrubiya-fi-afriqia