أن تتوحدوا وتجمعوا قواكم مع بعضها خير لكم من البقاء فرادى ضائعين مشتَّتين في دائرة التبعثر والتشرذم، وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن وحدة الناس في الكلمة والمبادئ والأهداف تجعلهم أقوى وأشدّ من غيرهم.
يُحكى في هذا السياق أن شيخا طاعنا في السنّ شارف على الموت، فأرسل إلى أولاده وهم كثر، فاجتمعوا حوله وهو مسجّى على فراش الموت، في هذه الأثناء أعطى الأب لكل واحد من أولاده عصا وطلب منهم أن يكسروها على انفراد، فقام كل ولد بكسر عصاه بسهولة، ثم طلب الأب من ولده الكبير أن يجمع العصيّ كلها ويجعلها رزمة واحدة، وطلب من كل واحد منهم أن يكسروا الحزمة، فحاولوا جميعا لكنهم فشلوا في كسر حزمة العصيّ الموَّحدة.
هذا المثال يؤكد أن دعوة الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، إلى الوحدة الإسلامية تأتي في مكانها، لاسيما في ظل الأوضاع العالمية الراهنة، وفي ظل النظام الدولي القائم على الاحتكار والقوة والمصالح مع استضعاف الأمم والشعوب وحلّبها وسرقة خيراتها، حتى يبقى من أنشأ النظام العالمي الحالي يتسيّد العالم بلا منازع!
وحدة الأمة الإسلامية دعا إليها الإمام الشيرازي في أكثر من مؤلَّف، ونظَّر لها بعمق، وطرح الخطوات العملية الممكنة التي تقود المسلمين إلى وحدتهم وتعميد أخوّتهم بالمشتركات الكثيرة الكبيرة التي تجمع بينهم، وهي مشتركات تجعل من هدف الوحدة فيما بينهم أمرا قابلا للتحقّق فيما لو قرّروا ذلك وسعوا إليه عبر قنوات كثيرة يمكنهم عبرها الوصول إلى الوحدة الإسلامية.
الإمام الشيرازي يقول في كتابه القيّم (الصياغة الجديدة):
(هناك مشتركات تؤكد على أن يكون المسلمون بكل طوائفهم أمة واحدة ذات بلد واحد، وحكومة واحدة، وهذه المشتركات هي توحيدهم للخالق تبارك وتعالى، وقبولهم نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتقادهم بالإسلام والقرآن، والقيامة والمعاد).
مما لوحظ على قادة المسلمين السياسيين أنهم كثيرو الكلام عن أهمية الوحدة بين المسلمين، وأنها السبيل إلى تقدمهم وعودتهم إلى صدارة الأمم، بيد أن هذه الأقوال معظمها يصب في وعاء الاستهلاك الإعلامي لا أكثر، لأنها تخلو من الخطوات الفعلية الجادة نحو توحيد المسلمين، فتبقى هذه الدعوات تدور في دائرة الشعارات لا أكثر، مما يعني أن الجدية في التطبيق ضعيفة أو مفقودة تماما.
الوحدة الإسلامية فوق الشعارات
يقول الإمام الشيرازي: الأمة الواحدة (ليس مجرد الاسم والشعار، بل هو التطبيق العملي المتحقق خارجاً برفع الحدود والحواجز الجغرافية بين البلاد الإسلامية، وتأسيس الدولة الإسلامية الموحدة والعظيمة).
كذلك من خطوات الوحدة، التمهيد لها عبر إجراءات كثيرة ممكنة التنفيذ، منها أو في المقدمة منها صنع التقارب النفسي بين عموم المسلمين، وردم الفجوة الفكرية أو العقائدية فيما بينهم، إذ لا يُعقَل أن يتوحد المسلمون في ظل تباعد نفسي يفصل بعضهم عن الآخر، فالتمهيد النفسي يكلف إزاحة الحواجز فيما بين المسلمين إذ لابد من (رفع الحواجز النفسية بين المسلمين، بأن يرى كل مسلم المسلم الآخر: أخاه في الدين والعقيدة، ونظيره في الخلق والإنسانية) كما يؤكد الإمام الشيرازي.
وهناك خطوات إجرائية على القادة السياسيين الاستعداد لها، واتخاذها بعد التشاور ووضع آليات التنفيذ فيما بينهم عبر مؤتمرات أو لقاءات تجمعهم، وهذه الخطوات وإن بدتْ صعبة التنفيذ، إلا أن الإرادة الموّحدة والإيمان المشترك وإزاحة الفجوات النفسية الفاصلة بين المسلمين، تجعل منها ممكنة التنفيذ.
منها كما يؤكد الإمام الشيرازي (إلغاء الحدود الجغرافية التي أحدثها الغرب في بلاد المسلمين، ورفض الجواز والجنسية فيما بين المسلمين).
وقبل هذا وذاك، توجد خطوة أساسية تجعل من الوحدة الإسلامية حقيقة لا تقبل الاستحالة، هذه الخطوة تعالج أخطر المشاكل والعوارض التي تعيق وحدة المسلمين، ونعني بها الأنظمة السياسية التي تحكم الدول الإسلامية، فهذه الأنظمة تمتلك الإرادة الفعلية لتوحيد المسلمين، ولكن هناك شرط ينبغي أن يتوافر في هذه الأنظمة، وهو شرط (الشورى).
النظام السياسي الجيد من مخرجات الشورى
أي أن هذه الأنظمة التي تقود الدول الإسلامية يجب أن تكون من مخرجات منهج الشورى الذي دعا إليه الإسلام في إقامة النظام السياسي الحاكم، ولا توجد شرعية لحكومة تتجاوز مبدأ الشورى ولا تكون من مخرجاته، فلا فائدة من حكومة أو نظام سياسي يسيطر على الحكم بالقوة أو الانقلاب العسكري أو عبر نظام التوارث.
هذه الأنواع القسرية من الحكومات لا شرعية، لأنها ابتعدت كل البعد عن (الشورى)، واتخذت من الطرق اللامشروعة سبيلا لها في الوصول إلى السلطة، وكل ما يقوم على الباطل باطل، فكيف بأنظمة سياسية باطلة يمكنها توحيد المسلمين؟؟ هذا أمر مستبعَد إنْ لم يكن مستحيلا.
لذا من القوانين الإسلامية المهمة التي نادى الإمام الشيرازي إلى تطبيقها في الأمة الإسلامية الواحدة هي (قانون الشورى): إذ لا بديل عن تطبيق (الشورى في الحكم، بينما نلاحظ أن الحكام في بلاد الإسلام يأتون إلى سدة الحكم بالانقلابات العسكرية أو بالوراثة و..).
في حين أن جوهر الفكر الإسلامي يدعو إلى وحدة المسلمين، كأنهم أسرة واحدة، فهل تحقّق هذا في واقعنا، وهل كنّا مخلصين لدروس المؤاخاة والقيم التي قدّمها لنا نبينا محمد (ص)؟ لقد (أراد لنا الإسلام أن نكون كأفراد أسرة واحدة، وقد آخى رسول الله (ص) عملياً – بعد أن جاء القرآن بآية الأخوة- بين المسلمين أكثر من مرة؛ ليطبق أمر الله، ويعلّم المسلمين على التآخي بينهم).
في واقع المسلمين اليوم، لم نجد تطبيقا لما أراده الإسلام على الرغم من توفيره للتعاليم والمبادئ الواضحة التي تقود المسلمين إلى وحدتهم وعزّتهم، وعلى الرغم من الظروف الدولية الراهنة وصراع الإرادات القائم على القوة والغبن والاحتكار، إلا أن قادة المسلمين لم يجدوا في ذلك سببا كافيا للتحرك الفعلي الجاد نحو توحيد الدول الإسلامية، وهذا مدعاة للأسف والخيبة والشكوك!
فمن لا يتحرك نحو إنجاز هذا الهدف من قادة المسلمين وهو يمتلك القدرة والأدوات والوسائل، فإنه سوف يكون محط شك، لأن تحقيق الوحدة الإسلامية سوف ينقذ المسلمين من حالة التدهور والتبعثر التي تعصف بهم اليوم، لهذا لابد من التحرك الفعلي والمحسوب في هذا الاتجاه.
مع أهمية أن يتوافر الوعي الجماهيري الداعم لمثل هذا الخطوات المصيرية التي ينبغي أن يشارك فيها الجميع، الساسة والنخب كافة والجماهير أيضا، كونها خطوة تقود في المحصلة إلى إنعاش المسلمين، الفرد والجماعة، وتمنحهم أجواء الحرية التي تجعل من حياتهم أفضل بكثير في ظل الوحدة الإسلامية.
لذلك يقول الإمام الشيرازي (على الجميع السعي لتحقيق الأخوة الإسلامية، وإذا تحققت الأخوة الإسلامية بين كل فصائل المجتمع الإسلامي، فإنه يمكن حينها لكل فرد، في أي بلد كان من البلاد الإسلامية، أن يحصل على جميع المزايا الإسلامية والحريات الفردية والاجتماعية التي أقرّها الدين الإسلامي).
قد يفكّر بعضهم أو كثيرون بأن هدف الوحدة الإسلامية يبتعد عن واقع الظرف العالمي الراهن، ومنهم من يراه هدفا فوق الخيال!، إلا أننا نرى في وحدة أمم أخرى أكثر عددا من المسلمين، سببا مهمّا لإمكانية توحيد المسلمين، وهذا يجعل منّا جميعا، قادة نخب وعامة المسلمين، مطالَبين بالمشاركة في تحقيق الوحدة الإسلامية كلٌ وفق قدرته ودوره، على أن ننظّم أنفسنا بطريقة مدروسة وجيدة.
رابط المصدر: