أمينة حلال
تتناول الدراسة استعراض الوضع العام للهيمنة الأمريكية والارتباط الأمريكي بمنطقة جنوب شرق آسيا وأهم القوى المنافسة لتلك المكانة المهيمنة و على رأسها الصعود الصيني و الإستراتيجيات الأمريكية منتهجة بهدف تأمين المكانة المهيمنة بالمنطقة.
المطلب الأول: الهيمنة الأمريكية: دراسة في الواقع والقوى المنافسة
كانت و لا تزال الهيمنة أهم محددات صياغة إستراتيجيات القوى الدولية وتنوعها وبالأخص الولايات الأمريكية؛ فهي تسعى من خلال مختلف الإستراتيجيات المنتهجة لحد الآن إلى تأمين مكانتها باعتبارها القوة المهيمنة على النظام الدولي وقواعده. وسنقوم فيما يلي باستعراض موجز لمفهوم الهيمنة في العلاقات الدولية، وهذا قبل التطرق إلى الواقع الحالي للولايات المتحدة كقوة باسيفيكية والقوى المنافسة لهذه المكانة وعلى رأسها الصين.
الفرع الأول: مدلولات الهيمنة وتطوراتها
أولا-مفهوم الهيمنة: تعنى لفظ الهيمنة Hegemony بالمعنى اليوناني “القيادة”، وكانت تستخدم للإشارة إلى مكانة التفوق والغلبة التي تمتعت بها أثينا مقارنة ببقية المدن في اليونان القديمة.[1] وتشير الهيمنة في الدراسات الدولية والإستراتيجية إلى الدولة القائدة لمجموعة من الدول، ومن ثم فإنها تفترض العلاقات بين الدول عنصر القيادة ووجود السلطة البنيوية التي تمكن الدولة المهيمنة من احتلال موقع مركزي داخل نظامها الخاص. [2]
وعرف “روبرت كوهين” و”جوزيف ناي” الهيمنة بأنها هيكل بنيوي لنظام دولي تكون فيه دولة واحدة قوية بما يكفي للحفاظ على القواعد الرئيسية التي تحكم العلاقات ما بين الدول، وتكون لديها الرغبة في فعل ذلك. [3] ويركز “Rox” كوكس في تعريفه لمفهوم الهيمنة على عنصر الرضا، على اعتبار أن النظام الذي تكون فيه قوة قادرة على تحقيق الهيمنة تتطلب الركن الرضائي في المقام الأول. [4] من جانبه عرف جوزيف ناي (الابن) الهيمنة بأنها: “وجود قوة دولية مسيطرة تكون هي المتفوقة في المصادر المادية وتتوافر لديها القدرة والإدارة اللازمة في صياغة قواعد التفاعل في النظام الدولي” [5].
ووفقا للتعريفات السابقة، فإنها تقوم على وجود دولة واحدة تملك من الإمكانيات والقدرة والرغبة وكذا الإقناع في وضع وصياغة قواعد تحكم علاقات الدول، هو ما أصبحت تفتقد إليه الولايات المتحدة اليوم.
إلى جانب ذلك، يمكن فهم الهيمنة من خلال مفهومي التمكين الجيوسياسي والدولة الحاملة للميزان. ويقصد بالتمكين الجيوسياسي، القدرة على ضبط التفاعلات الدولية بما يمكن الدولة المهيمنة من الاستمرار في حفظ مصالحها أو توجيهها ضمن نطاق التفاعلات المقصودة، فضلا عن التأثير على سلوك القوى الكبرى.[6] فالقوة الجيوسياسية هي التي يمكن من خلالها تحقيق الهيمنة، ويشير كريستوفر لين Layne، في هذا الشأن إلى أن الهيمنة هي إستراتيجية واقعية تسعى إلى إدامة السيطرة الجيوسياسية.[7] في ذات السياق، يذهب بعض المختصين إلى أن طبيعة الهيمنة تستدعي منع ظهور قوة جديدة تستطيع أن تنافس الدولة المهيمنة وبالشكل الذي يمكنها من تحقيق التوازن معها. وذلك لان الهيمنة تفترض السيطرة من دون منافس في القيادة. [8] ينطبق هذا التوجه على الواقع الذي تشهده الهيمنة الأمريكية اليوم، إذ أصبحت سيطرتها على قواعد النظام الدولي مهددة بظهور قوى جديدة على رأسها الصين، التي تزاحمها على القيادة العالمية.
وفيما يتعلق بمفهوم “الدولة الحاملة للميزان أو الموازن”، يفسره البعض بأنه مرادف للهيمنة ومنهم جون ميرشايمر، الذي يصف دور القوة المهيمنة بأن تكون قادرة على ضبط أدوار القوى الإقليمية والدولية، بحيث تتمكن من ترجيح كفة أحد الأدوار على الأخرى في حال تفوق واحدة من القوى إقليميا.[9] يعد دور الطرف الموازن امتدادا لحالة الهيمنة، التي تفترض طرف قادر على ضبط السلوكيات التوازنية في البيئة الإقليمية والدولية وإدارتها في نفس الوقت، مع ضمان وجود أدوار الشراكة والتوظيف لمساعدته على تحقيق هذا النمط من التفاعلات. [10]
نخلص مما سبق، إلى أن مفهوم الهيمنة، يختص بوجود قوة واحدة تملك من الإمكانيات؛ القدرة؛ الرغبة؛ الرضا وكذا الإقناع في وضع وصياغة قواعد النظام الدولي التي تحكم علاقات الدول، التحكم فيه وتعمل على الحفاظ على هذا الوضع ضمانا لأمنها الوجودي ومكانتها.
ثانيا- المشاهد الثلاث للهيمنة الأمريكية: بدأت القوة الأمريكية في البروز كقوة عظمى مع بداية القرن العشرين ولخص “أيون كلارك” أهم وجهات النظر والتشخيصات التي قدمها باحثون متخصصون حول تطور الهيمنة الأمريكية منذ سنة 1945، وصنفها على شكل ثلاث مشاهد شائعة: [11]
المشهد الأول: استمرارية الهيمنة الأمريكية وفقا لأصحاب هذا المشهد، بدأت الهيمنة الأمريكية فعلياً سنة 1945، ومازالت مستمرة ليومنا هذا دون انقطاع، إلى درجة أن النخب السياسية الأمريكية أصبحت تعتبر الهيمنة وسيلة للحياة، لهذا ستستمر الهيمنة الأمريكية في المستقبل المنظور.
المشهد الثاني: الانقطاع الهيكلي للهيمنة الأمريكية حسبه، تعرف الهيمنة الأمريكية تراجعاً منذ سنوات السبعينات، لان بنية النظام الدولي كانت ثنائية وتقاسمت الولايات الأمريكية النفوذ العالمي مع الاتحاد السوفياتي ومع نهاية الحرب الباردة برزت أقطاب مزاحمة لها.
المشهد الثالث: الانقطاع العاملي: يستبعد أصحاب هذا المشهد، النظر إلى الهيمنة باعتبارها نتيجة لهيكل أو بنية النظام الدولي. بدل من ذلك، يرون أن الهيمنة الأمريكية بدأت في التراجع بعد توجهها الأحادي عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 وحربها العالمية على الإرهاب والتي فقدت من خلالها الإجماع والتوافق الدولي حول سياستها. إلى جانب ذلك، اعتبرت الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، عاملاً حاسماً أخر في إحداث وتسريع الانحسار والتراجع الأمريكي.
الفرع الثاني: نظرة عامة حول الهيمنة الأمريكية بجنوب شرق آسيا
بعد فترة الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة هي القوة الخارقة الوحيدة في العالم، حيث عرف الاقتصاد الأمريكي نموا نسبته 27% بين عامي1990 و 1998 وعلى أساس قوتها الاقتصادية سيطرت الولايات المتحدة على أكثر المؤسسات نفوذا في العالم على غرار منظمة الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. [12]
أسهم هذا النفوذ الاقتصادي والسياسي بتعزيز مركزية القوة السياسية والمالية الأمريكية في النظام ككل، إلى جانب امتلاكها لأكبر ميزانية دفاعية في العالم، فوفقا لإحصائيات سنة 2013، مثلت الولايات المتحدة 37 % من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.
وتميزت السياسة الدفاعية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين بالحفاظ على ميزة التفوق على المنافسين المحتملين، فخلال إدارة بوش أكد المحافظين الجدد بأنه يتوجب على الولايات المتحدة التمتع بالقوة لإعادة تشكيل العالم و أنه ينبغي اغتنام الفرصة من أجل منع ظهور المنافسين .و مع كل تلك القوة ،تواجه الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة عددا من المشكلات الداخلية و الخارجية تقف على رأسها تنامي القوة الصينية ،حيث عرفت هذه الأخيرة تزايد لحجم اقتصادها بأربعة أضعاف منذ 1978 و من المتوقع أن تتفوق الصين على أمريكا فهي أكبر مصدر و منتج في العالم و تسيطر على 2.5 تريليون دولار من الاحتياطات الأجنبية.[13]
كما تواجه الولايات المتحدة تحديات متزايدة لقدراتها الدفاعية خاصة من روسيا التي من الممكن أن تنافس أمريكا في الأسلحة النووية الإستراتيجية، إلى جانب امتلاك كل من المملكة المتحدة، فرنسا، الصين، باكستان، الهند وكوريا الشمالية القدرة على إنتاج الأسلحة النووية.
وفيما يتعلق بالأمن الداخلي، أظهرت هجمات 11 سبتمبر 2001 ضعف أمريكا أمام أشكال الحرب غير التقليدية. ففي 2008، أوضح فرنسيس فوكوياما أنه على الرغم من بقاء الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في العالم إلا أن المشكل يكمن في التراجع الأمريكي وكيفية لاحق بقية الدول بركبها. فالاقتصاد الأمريكي أخذ في الانخفاض، فمن المحتمل أن تنخفض نسبته في الاقتصاد العالمي من 28% سنة 2004 إلى 27% سنة 2025 و26% سنة 2050[14]. فضلا عن تصاعد المنافسة ضدها من قبل الاقتصادات الناشئة كاليابان، الصين، روسيا، الهند والبرازيل. فمنذ الحرب العالمية الثانية، لم تواجه القوة المالية الأمريكية أي منازع وذلك بسب قوة الدولار الأمريكي، إلا أن الأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2008 تسببت في سقوط الولايات المتحدة والعالم بأسوأ تدهور منذ الكساد العظيم، كما فسحت المجال للتكهنات حول تراجع الهيمنة الأمريكية. عموما، من المحتمل أن تتراجع القوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية إلى جانب لحاق بعض الدول الناشئة بالولايات المتحدة وتحول بنية النظام العالمي إلى التعددية القطبية.
رحبت معظم دول الآسيان بارتباط القوى الكبرى في منطقة جنوب شرق آسيا وعلى رأسهم الولايات المتحدة واعتبرت الأمر إيجابيا. ففي 2011 أوضحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “هيلاري كلينتون” أن آسيا حريصة على الترحيب بالقيادة الأمريكية الآن أكثر من أي وقت مضى في التاريخ.[15]مضيفة أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي تتمتع بشبكة قوية من التحالفات الوثيقة في المنطقة.
و في مقالة بعنوان” العلاقة بين جنوب شرق آسيا و الولايات المتحدة: تحليل معاصر” أوضح الكاتب موزافر Muzaffar أن الفلبين و إندونيسيا ليستا الدولتين الوحيدتين اللتان أبدتا ولائهما لواشنطن خلال الفترة ما بين 1975 -1997 .ففي بداية سبعينات القرن الماضي ، بدأت سنغافورة في البحث عن علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة من خلال التعاون الاقتصادي و الأمني ، كما تعتبر بروناي شريك إستراتيجي غير رسمي لأمريكا .في حين كانت تايلاند حليفة للولايات المتحدة منذ منتصف الخمسينات ،و ارتبطت ماليزيا بعلاقة تجارية نشطة و صديقة مع الولايات المتحدة إلى جانب التعاون الأمني بين الطرفين من خلال المناورات العسكرية المشتركة ،و كذا تقديم ماليزيا تسهيلات لدخول السفن الحربية الأمريكية.[16]
وبانضمام فيتنام، لاوس، كمبوديا وميانمار إلى اتحاد الآسيان سنة 1995 تبنوا موقفا أكثر حذرا اتجاه الارتباط الأمريكي بالمنطقة نظرا لعوامل تاريخية والتوجهات السياسية لحكوماتهم في تلك الفترة. وكان لاتحاد الآسيان سياسة تقضي بالارتباط بأي قوة تدعم التنمية في المنطقة.[17]
في حين تعتبر سنغافورة أنه لا يمكن الاستغناء عن الولايات المتحدة بالنسبة لأمن منطقة آسيا-الباسيفيك وهو الشيء الذي أكد عليه رئيس وزرائها سنة 2010 بضرورة أن تكون الولايات المتحدة جزءا من “البنية المستقرة ” في المنطقة. من جانبه، رحب وزير الخارجية الفلبيني بتأكيدات هيلاري كلينتون بشأن الالتزام الأمريكي اتجاه المنطقة لضمان حرية الملاحة، سهولة الولوج إلى الممرات البحرية الآسيوية واحترام القانون الدولي في بحر الصين الجنوبي، كما أعلن رئيس فيتنام السابق أن الولايات المتحدة “شريك إستراتيجي رئيسي” ورحب بتعاون أمريكي أقوى في منطقة آسيا-الباسيفيك من أجل السلام، الاستقرار والتنمية في المنطقة. في ذات السياق، أوضح الكاتب تاو Tao أن سكان جنوب شرق آسيا عانوا خلال فترة ما بعد الحرب الباردة مشاعر مختلطة اتجاه التواجد الأمريكي بالمنطقة:[18]
” فمن جهة، تخوف الناس من أن الانسحاب التام للقوات الأمريكية في المنطقة سيغير ميزان القوى ويتسبب في انعدام الاستقرار والأمن في المنطقة. من جهة أخرى، يرغب القوميون في الدول الآسيوية في سحب القوات الأمريكية وهو ما يفسر رفض مجلس الشيوخ الفلبيني التصديق على تمديد اتفاقية القواعد العسكرية الأمريكية الفلبينية مما أدى إلى انسحاب القوات الأمريكية سنة 1992. كما رفضت الحكومة التايلاندية المقترح الأمريكي بإنشاء قاعدة لوجستية في خليج تايلاند. لهذا، هناك شكوك في أن تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على قواتها بمنطقة جنوب شرق آسيا لفترة طويلة، كما يلاحظ أنه منذ الأزمة المالية الآسيوية لسنة 1997 والتأثير الأمريكي على المنطقة في تراجع مستمر خاصة بعد الاستجابة البطيئة اتجاه المشاكل الاقتصادية بالمنطقة.”
لحد اليوم، لاتزال القيادة الأمريكية تعتبر ضرورية لتشكيل مسار المنطقة بعيد المدى في المجالات الثلاث الحساسة في العلاقات الدولية: تعزيز الاستقرار والأمن، تسهيل التجارة والتبادلات التجارية عبر نظام مفتوح وشفاف وضمان احترام الحقوق والحريات العالمية.[19]إلا أن واقع الهيمنة الأمريكية بمنطقة آسيا-الباسيفيك عموماً وجنوب شرق آسيا خصوصاً شهد في الآونة الأخيرة تراجعاً حاداً، وللوقوف على ذلك، نستند إلى تميز “جوزيف ناي” بين ثلاث مجالات لتحولات القوة: [20]
في المجال العسكري يعتبر أن الولايات المتحدة لا تزال القوة المهيمنة بلا منازع؛ وفي المجال الاقتصادي: أصبحت الولايات المتحدة فاعلا من بين عدة فواعل رئيسية أخرى، وفقدت هيمنتها المطلقة على القضايا الاقتصادية العالمية التي يتم التعامل معها وفقا لأليات متعددة الأطراف؛ وفي المجال الثالث الذي يتضمن قضايا تتراوح من المشاكل البيئية العالمية إلى الاسباب الاجتماعية للإرهاب وانتشار الأوبئة … الولايات المتحدة هي مجرد فاعل من بين العديدين ولا تملك دوراً مميزاً وخاصاً بالقوة المهيمنة.
من جانب أخر، أشار فريد زكريا في دراسته “عالم ما بعد أمريكا”، إلى أن الولايات المتحدة لا تزال قوة عظمى وحيدة على المستويين السياسي والعسكري، إلا أن المجالات الأخرى الصناعية، المالية، التعليمية، الاجتماعية والثقافية على السواء كلها، تتحول بعيداً عن وضع الهيمنة الأمريكية وأنه إذا كانت قوة الولايات المتحدة ليست إلى زوال فإنها تنتظر من يزحمها. [21]
تراجعت الهيمنة الأمريكية وبالأخص في منطقة آسيا-الباسيفيك، نتيجة التحديات التي أفرزتها بيئة القرن الحادي والعشرين، كان أبرزها الصعود الصيني المفاجئ والسريع، والذي خلق ارتباك إستراتيجي لدى صانعي القرار الأمريكيين حول كيفية استجابة الملائمة لهذا الصعود. عملت الولايات المتحدة على تنويع سياستها وإستراتيجيتها لاستعادة هيمنتها في المنطقة، فكانت إستراتيجية إعادة التوازن أبرز الاستجابات لهذا الصعود. تظهر أهمية هذه الإستراتيجية في أنها عبارة عن نهج مختلط نتاج الخطاب الأمني القومي الهادف للحفاظ على المكانة الأمريكية المهيمنة، كما أعطت مثلا لتفسير أوباما للاستثنائية التي تصبغ نهجه للقيادة والقوة الأمريكية.[22]
فلم تهدف الولايات المتحدة من خلال هذه الإستراتيجية إلى تعزيز نفوذها وتأثيرها الجيوبوليتيكي في آسيا-الباسيفيك فقط، ولكن أيضا إلى إعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية كقوة آسيو-باسيفيكية وإنكار هذا الدور للصين.[23] إذ بعد الحرب الباردة، أصبح تصور الولايات كقوة باسيفيكية أكثر علانية، وهذا لمنح التبرير لاستمرارية هيمنتها، وفي اعتقاد الولايات المتحدة أن إعادة التركيز على آسيا- الباسفيك وتصوير نفسها أنها قوة باسيفيكية دائمة، يساعدها في الحفاظ على تواجدها العسكري في المنطقة.[24]
ورغم تجذرها العميق في العلاقات الدولية لمنطقة آسيا -الباسيفيك والديناميكية الاقتصادية في المنطقة، فإن الولايات المتحدة لم تستطع فرض هوية “آسيوية”. وبالرغم من الخلفية الآسيوية لشخصية أوباما، إلا أن إدارته لم تنجح في إقناع الأمريكيين بهويتها الاسيو-باسيفيكية، فلطالما اعتبر صناع القرار الأمريكيين منطقة جنوب شرق آسيا تتكون من فواعل أجنبية وأخرى أقل شأناً، ويتعاملون مع الدول الآسيوية كتابعين بدلا من دول متساوية معهم. [25]
أثار هذا الفشل الشكوك لدى العديد من الدول الآسيوية بخصوص قدرة واشنطن على الوفاء بالتزاماتها اتجاه المنطقة. كما أن، الحكومات الآسيوية ليست متفائلة بشأن القيادة الأمريكية المستقبلية في المنطقة، خاصة بعد تشكيك ترامب في أهمية التحالفات الأمريكية في آسيا واستيائه من عدم دعم حلفاء الولايات المتحدة (اليابان، كوريا الجنوبية) لنظام الدفاع الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة، وتبنيه للرؤية الانعزالية من خلال شعار “أمريكا أولا”، كل هذا يدفع للتساؤل حول استمرارية وجدية الالتزامات الأمريكية اتجاه شركائها بآسيا-الباسيفيك.
ضف إلى ذلك، أصبحت تكاليف استضافت حلفاء الولايات المتحدة للقواعد العسكرية الأمريكية على أراضيهم عالية جدا. ففي اليابان مثلا، أصبح الوجود العسكري الأمريكي في جزيرة أوكيناوا بؤرة توتر بين السكان والحكومة اليابانية. فمن جهة، ترغب طوكيو في ضمان التزام أمني أمريكي دون انقطاع، ومن جهة أخرى، تريد تخفيف العبء على السكان المحليين بسبب استضافتها لتلك القواعد.
من جهة أخرى، فإن افتقار واشنطن إلى الوضوح بشأن التزاماتها الأمنية اتجاه آسيا، جعل قادة المنطقة يفكرون في فك ارتباطاتهم معها، على غرار الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيري R. Duterte الذي هدد بتعزيز علاقاته مع بكين والتخلي عن الولايات المتحدة. كما أن عجز الأسطول البحري الأمريكي في ردع تنامي القوة الصينية في بحر الصين الجنوبي والشرقي، جعل واشنطن تفشل في التوضيح لشركائها وكذا الصين، بأنها تملك من الموارد اللازمة لتبقى قوة دائمة في آسيا.
الفرع الثالث: تنامي تهديد الصعود الصيني للهيمنة الأمريكية
إن الصعود الصيني أصبح بمثابة اختبار للبراعة العسكرية الأمريكية والتزاماتها الأمنية اتجاه حلفائها الآسيويين، إلى جانب تهديده للمكانة الأمريكية في آسيا. فالصين أصبحت أكبر شريك تجاري لاتحاد الاسيان، متجاوزة بذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويتجلى ذلك في الصفقات الاستثمارية المربحة التي تربط الصين بكل من الفلبين وماليزيا على وجه التحديد.
من الناحية العسكرية، وتماشيا مع المكانة الإقليمية والعالمية التي تطمح الصين لبلوغها، استغلت هذه الأخيرة النمو المتسارع لاقتصادها لدعم ميزانية مختلف قواتها العسكرية خلال العقدين الماضيين، وتزويدها بأحدث التجهيزات العسكرية بما يضمن فاعلية أدائها على كافة الأصعدة.
أولا- القوات البحرية لجيش التحرير الشعبي : على مدى العقد الماضي، تم منح القوات البحرية لجيش التحرير الشعبي (PLAN) أهمية قصوى مقارنة بالأقسام العسكرية الأخرى الصين، تعد هذه القوات المسؤولة بشكل أساسي على دعم الامن البحري والحفاظ على السيادة الذاتية على البحار الإقليمية المطالب بها. [26] منذ سنة 2000، عرفت هذه القوات توسيعات كبيرة تضمنت: 79 مقاتلات برية، 55 غواصة، 55 سفينة برمائية و85 صاروخ مجهزة بمقاتلات صغيرة.[27]
كما زودت البحرية الصينية بالطرادات الحربية من نوع (FFL)؛ وهي نوع من السفن الجديدة صممت لتنفيذ العمليات البحرية في المياه الساحلية، وتمتاز بأنها عبارة عن زوارق مراقبة للصواريخ سريعة المناورة والمتواجدة في جميع أنحاء بحر الصين الشرقي والجنوبي.[28]إلى جانب إعطاء أهمية كبرى لتحسين الممتلكات تحت البحار، فلطالما اعتبرت الصين الغواصات جزء إستراتيجي رئيسي للردع الإقليمي.[29] فمنذ التسعينات، اشترت الصين 12 غواصة هجومية روسية تعمل بالوقود غير النووي، كما قامت بضم 40 غواصة إلى أسطولها.
إضافة إلى تنامي القدرات والقوات البحرية لجيش التحرير الشعبي، حققت البحرية الصينية تقدم كبير في مجال التحسين التكنولوجي لأسطولها، فعلى سبيل المثال، زودت مدمرات الصواريخ الموجهة بأنظمة إطلاق رأسية وأنظمة رعاية صينية التي تجعل دفاعها الجوي أكثر فعالية. [30]
ثانيا- سلاح المدفعية الثاني لجيش التحرير الشعبي: يعتبر سلاح المدفعية الثاني لجيش التحرير الشعبي (PLASAF) ثاني أهم تنظيم فرعي للقوات المسلحة الصينية، حقق تحسينات كبيرة في قدراته الدفاعية ويعد القوة المركزية للردع الإستراتيجي الصيني.[31] يعتبر هذا التنظيم المسؤول الأول عن القوى الصاروخية النووية والتقليدية، وكذا المسؤول عن ردع الفواعل الدولاتية الأخرى من استخدام السلاح النووي ضد الصين. [32]
خلال الحقبة الماضية، طوّر هذا التنظيم نظام الصواريخ العتيق لفائدة توسيع أسطوله، في 2007، طورت من 1990 إلى 1070 صاروخ باليستي قصيرة المدى؛ في 2008، قامت بحيازة مجموعة صغيرة من الصواريخ الجديدة التي تعمل بالوقود الصلب، الطرق البرية والعابرة للقارات؛ في 2009: قامت بإنتاج من 1050 الى 1150 صاروخ باليستي قصيرة المدى ؛ في2010: نشرت من 200 الى 500 صاروخ كروز للهجوم البري؛ وفي جانفي 2010، أجرت الصين أول اختبار ناجح لنظام الدفاع الصاروخي؛ و في2011، كان بحيازة الصين عدد كبير من الصواريخ بعيدة المدى ،وبدأت في تطوير الصواريخ الباليستية المضادة للسفن والتي دعمت القوات الصينية للقيام بهجمات على السفن الكبيرة بغرب المحيط الهادئ.[33]
ثالثا- القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي (PLAAF): تعتبر هذه القوات ثالث أهم تنظيم فرعي للقوات المسلحة الصينية، يعد العنصر الأساسي للصين للقيام بعمليات الجوية، فضلا عن أنه المسؤول الرئيسي للحفاظ على الامن الجوي الإقليمي للصين والحفاظ على وضع دفاع جوي إقليمي متين[34] .عرف هذا التنظيم سلسلة من التحولات والتحديات لأسطوله كان من أهمها:
- في 2000، تم حيازة ألف قاذفة قنابل وطائرات الدعم الجوي وبتبني الولايات المتحدة لسياسة إعادة التوازن، قامت الصين بامتلاك ترسانة جوية أكثر قوة.
- في 2007، نشرت العديد من الطائرات الجديدة ذات التكنولوجيا الحديثة، كطائرة F10 وهي طائرة عملية متعددة الأدوار. كما بدأت في تطوير ونشر طائرة مقاتلة مساعدة من أجل التزود بالوقود، جمع المعلومات أو القيام بأدوار أخرى.[35]
- في 2011، تم تحديث أسطول قاذفة القنابل من طراز B-6، كما طورت أنواع عدة من طائرات نظام الإنذار المبكر ونظام التحكم AWACS. وفي جانفي من نفس السنة، كانت الصين قد اختبرت طائرات مقاتلة أحدث، تمتلك تكنولوجيا حديثة وخصائص التخفي. [36]
رابعا-تعزيز القدرات الفضائية: إلى جانب عصرنة قواتها البحرية والجوية، والبرنامج الصاروخي، قامت الصين بتحسين قدراتها الفضائية. في جانفي 2007، نجحت الصين في اختيار السلاح المضاد للقمر الصناعي (ASAT).[37] والوظيفة الجوهرية لهذا السلاح هي التدمير الإستراتيجي للأقمار الفضائية، الشيء الذي أثار مخاوف الدول المجاورة للصين وكذا الولايات المتحدة.
إلى جانب ذلك، تضمن تطوير القدرات العسكرية الفضائية إنشاء نظام الملاحة الموضعي العالمي والذي يطلق عليه اسم Beidou. خلال الحقبة الماضية، نجحت الصين في التأسيس لنظام إبحار إقليمي بعد نشرها لثلاثة أقمار صناعية من نوع Beidou ما بين أكتوبر 2000 وماي 2003 [38]. وبحلول 2012، كانت الصين قد نشرت ستة أقمار صناعية للملاحة من نوع Beidou و11تطبيق جديد مدني وعسكري لجهاز التحسس؛ والتي ساعدت الصين للتأسيس لشبكة ملاحية وموضعية داخل منطقة آسيا-الباسفيك.
للإشارة فإن، نظام Beidou هو نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية الصينية؛ يتكون من مجموعتين منفصلتين من الأقمار الصناعية. يعرف النظام الأول رسميا بالنظام التجريبي للملاحة الفضائية أو Beidou-1؛ يتكون من ثلاثة أقمار صناعية دخلت الخدمة منذ سنة 2000، تقدم خدمات محدودة لتغطية الأحداث أو الملاحة بشكل أساسي للمستخدمين الصينيين والمناطق المجاورة. ويعرف النظام الثاني بنظام Beidou لملاحة الأقمار الصناعية (BDS) ويعرف أيضا بـ Beidou-2 أو Compass، ودخل حيز الخدمة في ديسمبر 2011، ومنذ ديسمبر 2012 أصبح يقدم خدمات للعملاء بمنطقة آسيا-الباسفيك. [39]. في 30 مارس 2015، أطلقت الصين القمر الثالث لنظام Beidou وسمي بـ Beidou-3، وبحلول جانفي 2018، تم إطلاق تسعة أقمار صناعية من هذا الطراز، ومن المتوقع أن يتألف هذا النظام من 35 قمراً صناعياً في النهاية ويقدم خدمات عالمية عند اكتماله سنة 2020. من المنتظر عند الانتهاء منه بصفة نهائية، أن يقدم Beidou نظاما عالميا لملاحة الأقمار الصناعية بديلا عن نظام التموضع العالمي (GPS)، الذي تستحوذ عليه الولايات المتحدة وأكثر دقة منه.
هذه الأقمار الصناعية الستة هي جزء من خطة كبيرة، ستسمح للصين بامتلاك نظام التموضع العالمي GPS خاص بها، وبذلك تصبح مستقلة في نظام التموضع العالمي للولايات المتحدة. إلى جانب ذلك، تخطط الصين لان يصبح نظامها عمليا بحلول سنة 2020.[40]وحسب صحيفة الصين اليومية China Daily، فإنه وبعد مرور 15 سنة على إطلاق نظام الأقمار الصناعية، حققت الصين مبيعات بقيمة 31.5 مليار دولار سنويا لكبرى الشركات كالشركة الصينية للصناعة وعلوم الفضاء.
وفي إطار تراجع المكانة الأمريكية في منطقة آسيا-الباسيفيك، حذر تقرير جديد بعنوان «تجنب الأزمة: الإستراتيجية الأمريكية والإنفاق العسكري والدفاع الجماعي في المحيط الهندي والهادئ”، أصدره مركز دراسات الولايات المتحدة لجامعة سيدني الأسترالية، من أن إستراتيجية الدفاع الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ والهندي تشهد أزمة غير مسبوقة، ويمكن أن تفشل في الدفاع عن حلفائها في مواجهة الصين. وتوصل التقرير إلى أربع نقاط رئيسية:[41]
أولا- لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالأولوية العسكرية في منطقة المحيط الهادئ والهندي وتراجع قدرتها في الحفاظ على توازن قوى ملائم غير مؤكدة على نحو متزايد، هذا الواقع الصارخ الذي تواجهه إستراتيجية الدفاع الأمريكية راجع إلى:
- التأثير المشترك للحروب المستمرة في الشرق الأوسط؛ تقشف الميزانية؛ قلة الاستثمارات في القدرات العسكرية المتطورة ونطاق أجندة بناء النظام الليبرالي الأمريكي وعدم تهيأت القوات المسلحة الأمريكية لمنافسة القوى العظمى في المحيط الهادئ والهندي.
- تقويض أنظمة التدخل المضادة الصينية قدرة أمريكا على استعراض القوة في المحيط الهادئ-الهندي، وهو ما يوضحه المنحنى البياني رقم 06.
- من المحتمل أن تحد الذهنية القديمة لمؤسسة السياسة الخارجية من قدرة واشنطن على تقليص الالتزامات العالمية الأخرى، أو إجراء المقايضات الإستراتيجية اللازمة للنجاح في منطقة المحيط الهندي-الهادئ.
لهذا، تهدف إستراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي لسنة 2018، معالجة أزمة الإفلاس الإستراتيجية Strategic In Solvency بتكليف القوات المشتركة للإعداد لحرب عظمى واحدة بدلا من الصراعات الصغيرة المتعددة، إلى جاني دفع الجيش إلى إعطاء الأولوية لمتطلبات الردع اتجاه الصين.
المنحنى البياني رقم06: العناصر الرئيسية لتحديث المؤسسة العسكرية الصينية
Source[42]: Brendan Thomas-Noome and Matilda Steward
ثانيا- خلال العقد المقبل، من غير المحتمل أن تفي ميزانية الدفاع الأمريكية باحتياجات الدفاع الوطني بسبب مجموع الضغوط السياسية، المالية والداخلية، وهذا بسبب:
- تعرض ميزانية الدفاع الأمريكية لما يقارب من عقد إلى التمويل المتأخر وغير المتوقع.
- إخفاقات الكونغرس المتكررة في تمرير ميزانيات منتظمة ومستدامة، أعاقت من قدرة البنتاغون على تخصيص الموارد والتخطيط بشكل فعال على المدى الطويل.
- تزايد الحزبية والاستقطاب الأيديولوجي داخل وبين الحزبين الرئيسيين في الكونغرس، سيجعل من الصعب التوصل إلى توافق الآراء بشأن أولويات الإنفاق الفيدرالي.
- مواجهة الولايات المتحدة عجزاً متزايد ومستويات مرتفعة من الدين العام، والعمل السياسي لتصحيح هذه التحديات لا يزال بطيئاً حتى الآن.
ثالثا: الولايات المتحدة ليست جاهزة بشكل كاف أو مجهزة لمنافسة القوى العظمى في المحيط الهادئ والهندي، وهذا بسبب:
- عشرون سنة من القتال شبه المستمر وعدم استقرار الموازنة أدى إلى تأكل استعدادية القوات الرئيسية في سلاح الجو الأمريكي، البحرية، الجيش ومشاة البحرية.
- ارتفاع الحوادث العسكرية واستخدام المعدات القديمة، وقدم المنصات العسكرية وارتفاع تكاليف صيانتها.
- تعرض العديد من القواعد الأمريكية وقوات التحالف في منطقة المحيط الهادئ-الهندي إلى الهجمات الصاروخية الصينية إلى جانب الافتقار للبنية التحتية الصلبة.
- يجري اختبار مفاهيم عملياتية وقدرات جديدة في منطقة المحيط الهادئ-الهندي.
رابعا: أصبحت إستراتيجية الدفاع الجماعي ضرورية بشكل مستعجل كوسيلة لتعويض النقص في القوة العسكرية الإقليمية الأمريكية ومواجهة القوة الصينية المتصاعدة، وهذا من خلال:
- متابعة تجميع القدرات والردع الجماعي في المحيط الهادئ والهندي مع الحلفاء والشركاء الإقليميين.
- إصلاح أليات التنسيق بين الولايات المتحدة وأستراليا للتركيز على تعزيز أهداف الردع الإقليمي.
- إنشاء مناورات عسكرية جديدة وتوسيع نطاق المناورات العسكرية الحالية مع الحلفاء والشركاء، لتطوير وإظهار مفاهيم عملياتية جديدة لحالات غير المتوقعة في منطقة المحيط الهادئ والهندي.
- تحسين الموقف الإقليمي والبنية التحتية والشبكات اللوجيستي. [43]
إلى جانب ذلك، سلط التقرير الضوء على المجالات التي يتقدم فيها الجيش الصيني خطوات كبيرة مقارنة بالولايات المتحدة وحلفاءها وشركائها الآسيويين وأهمها القوة الصاروخية، والخريطة رقم11 توضح التهديد الصاروخي الصيني للقواعد الأمريكية ومواقع التواجد الإقليمية.
المنحنى البياني رقم 07: مخزون الصواريخ الصينية 2004-2019
Source[44]: Brendan Thomas-Noome and Matilda Steward
إلى جانب ذلك، نشرت الصين مجموعة هائلة من الصواريخ الدقيقة وغيرها من أنظمة مكافحة التدخل لتقويض التفوق العسكري الأمريكي وهو ما توضحه الخريطة الموالية:
الخريطة رقم11: تنامي تهديد الصواريخ الصينية للقواعد الأمريكية والمواقع الإقليمية
Source[45]: Brendan Thomas-Noome and Matilda Steward
المطلب الثاني: إستراتيجيات تأمين الهيمنة الأمريكية اتجاه الصعود الصيني
يظهر التاريخ مدى صعوبة محافظة القوة المهيمنة على موقعها، فبعد عقد كامل من الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة، تآكلت تلك المكانة واهتزت نتيجة عدة أزمات وتزامنا مع بروز العديد من القوى الصاعدة (الصين، عودة روسيا القيصرية، الهند، اليابان). في إستراتيجيتها للأمن القومي لسنة 2010، أشارت الولايات المتحدة إلى تعاظم قوة ودور بعض القوى الصاعدة، وأكدت على ضرورة تعميق الشراكة معها من أجل بلوغ نظام عادل ومستدام وترقية الامن المشترك والرفاهية، وكذا تشجيع تلك القوى على لعب دور أكبر من أجل تقوية المعايير الدولية والمصالح المشتركة.[46]
وبغية حفاظ القوة المهيمنة على هيمنتها والتحكم في سلوك القوى الصاعدة وضبط مسار صعودها وأثاره، برزت عدة محاولات لوضع إستراتيجيات من طرف القوة المهيمنة المتراجعة التي تواجه دولة صاعدة، نذكر منها أبرزها محاولتين: [47]
الفرع الأول: محاولة “راندل شاولر”
تندرج هذه المحاولة ضمن المنظور الواقعي، حيث يشير “شاولر” إلى أنه أمام القوة المهيمنة ست إستراتيجيات، تختار منها ما يتناسب وهدفها للتعامل مع صعود قوى دولية منافسة، ويوضح الجدول الموالي أهم تلك الإستراتيجيات ويصنفها حسب هدف القوة المهيمنة:
الجدول رقم13: إستراتيجيات تعامل القوة المهيمنة مع القوة الصاعدة حسب “راندل شاولر”
هدف القوة المهيمنة | الإستراتيجية المناسبة |
القضاء على القوة الصاعدة | الحرب الوقائية |
احتواء القوة الصاعدة | الموازنة (خلق توازن قوة) |
الاستفادة من صعودها | الاتباع Bandwagoning |
تقييدها وربطها | الربط أو التقييدbinding |
تحويلها من قوة مراجعة إلى قوة محافظة | الانخراطengagement |
تجاهلها | الابتعاد distancing /buckpassing |
Source[48]: Managing the Rise of Great Powers: History and Theory
سنكتفي في هذه الدراسة، باستعراض مضمون إستراتيجية الاحتواء، الإتباعية والانخراط باعتبارهم أكثر الإستراتيجيات استخداما من طرف الولايات المتحدة اتجاه الصعود الصيني.
1- إستراتيجية الاحتواء
لا تسعى هذه الإستراتيجية إلى القضاء على القوة الصاعدة، ولكن إلى الحيلولة دون توسعها أكثر، وهي إستراتيجية موجهة للحفاظ على التوازن وليس إعادة تشكيله.[49]وتمثل هذه الإستراتيجية أولى أساليب الأداء الإستراتيجي الأمريكي للسياسة الخارجية الأمريكية التي سادت مرحلة ما بعد الحرب الثانية، وبلورها الدبلوماسي الأمريكي جورج كنان. ترتكز على مفهوم محاصرة العدو لكبح جماحه عن المقاومة وكسر إرادته في ذلك، وهي تمثل الحصار الشامل بمختلف ألياته. [50]
وعلى الرغم من ارتباط إستراتيجية الاحتواء بتحقيق هدف القضاء على المد الشيوعي وحصر نطاقه وتحديده لأبعد ما يمكن، إلا أنها هدفت أيضا إلى الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في بقاع العالم المختلفة، والتي اصطلحت على تسميتها “مناطق الديون القومية” وهي البقاع التي التزمت تجاهها واشنطن دفاعاً عن مصالحها. [51]
ومع ذلك، أخفقت هذه الإستراتيجية في تحقيق معظم الأهداف الأمريكية، لهذا انتقد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون فوستر دالاس هذه الإستراتيجية، بأنها غير ذات تأثير في الخصم كونها تجعله قد يفلت من العقاب، نظراً إلى سهولة تمصله إذا لم يتمكن من توسيع نطاق نفوذه استعدادا لجولة قادمة.[52] ومع هذا، فالولايات المتحدة لا تزال تستخدم إستراتيجية الاحتواء إلى يومنا هذا ولكن بصيغة وأساليب جديدة اتجاه تعاملها مع الصعود الصيني (تركز الأطروحة على الصعود الصيني باعتباره المتغير الوسيط لهذه الدراسة) نظرا لاختلاف بنية صعود الاتحاد السوفياتي عن بنية الصعود الصيني.
عزز تنامي سيطرة خطاب الصعود الصيني، فكرة أن تزايد التأثير الصيني الإقليمي يجب التصدي له من خلال الانخراط في أحد صور الاحتواء، والهدف المشترك لهذه التدابير هو تثبيط أو ردع الصين من توسيع قوتها خارج حدود معينة من خلال ممارسة درجات مختلفة من الضغط أو القسر.[53]وتمثل إستراتيجية إعادة التوازن (محور الدراسة) الشكل الجديد لإستراتيجية الاحتواء الجديدة المعبر عنها بـ containnment 2.0.
وتقوم إستراتيجية الاحتواء الجديدة containnment 2.0 على تشكيل بيئة دولية ضاغطة على الصين، بحيث تتعرض للاحتواء الأمريكي المستعين بقوى ودول آسيوية عدوة أو منافسة للصين. فسياسة الاحتواء العسكرية مثلا، تتضمن دمج الدول المجاورة للصين في نظام تحالف موحد ضد بكين؛ تطوير إستراتيجيات دفاعية جماعية ضد الصين؛ ومتابعة حملة إيديولوجية بهدف إضعاف شرعية الدولة الصينية ونظامها الحاكم. [54]
2-إستراتيجية الارتباط أو الانخراط[55]: لا تسعى هذه الإستراتيجية إلى الحد من، أو تقييد أو تأجيل زيادة قوة الدولة الصاعدة بل تسعى لإدماجها عن طريق تشجيع رضاها عن النظام الدولي أو الإقليمي الاخذ في التشكيل مع استبعاد استخدام السياسات الإكراهية. [56] لأنها سياسة دقيقة وأحيانا خطيرة، ومن أجل أن تنجح هذه الإستراتيجية مجموعة من الشروط: [57]
- ينبغي أن تكون للقوة الصاعدة نوايا مراجعة محدودة، وألا يكون هناك تعارض نزاعي في المصالح الحيوية لتلك القوى.
- يجب أن تكون القوة القائمة قوية بما يكفي لمزج التنازلات والتهديدات الجادة، لاستخدام العصا وأيضا الجزرة، في محاولتها لإرضاء القوة الصاعدة.
ولكن التنازلات قد تكون مؤشراً على الضعف ما يدفع المعتدي ليطلب أكثر، لهذا لا يجب أن يعتبر الارتباط بديلا عن الموازنة ولكن كمكمل لها. [58] إلى جانب هذا، تسعى إستراتيجية الارتباط إلى خدمة ثلاثة أهداف مهمة: [59]
- تمكين قوى النظام القائم من الحصول على صورة واضحة للنوايا والطموحات الحقيقية للقوة الصاعدة غير الراضية؛
- سياسة مفيدة لربح الوقت وإعادة التسلح والحصول على حلفاء في حالة الفشل في إرضاء القوة الصاعدة وأصبحت الحرب ضرورية؛
- المساعدة على كسر تكتلات وأحلاف القوى الصاعدة والوقاية من تشكلها المستقبلي، وبهذا الشكل تعتبر هذه السياسة بديلا لتشكيل أحلاف موازنة مضادة والتي قد تدخل القوة الصاعدة في تنافس على التحالفات. وهو الشيء الملاحظ في السياسة الأمريكية المنتهجة ضد الصعود الصيني بمنطقة جنوب شرق آسيا، أين تحاول الولايات المتحدة كسر التحالفات القائمة بين دول المنطقة والصين وكسبها لصالحها.
وفيما يتعلق باستخدام الولايات المتحدة لهذه الإستراتيجية اتجاه الصعود الصيني والتي اتضح استخدامها في جميع الإدارات الأمريكية، فهي تعني في شقها الاقتصادي والتجاري، ثلاثة عناصر سياسية وفقا لزلمي خليل زاد:
- السعي لتوسيع العلاقات وفتح الأسواق الصينية أمام المنتجات الأمريكية؛
- منح الصين المكانة التجارية “الدولة الأكثر رعاية”، إلى جانب تقليص عدد المنتجات الحساسة والتكنولوجيات التي يشملها مراقبة الصادرات؛
- السماح للشركات الصينية بالعمل بحرية نسبيا في الولايات المتحدة. [60]
ومن الناحية السياسية، يعني الارتباط، السعي إلى تعظيم الروابط الثنائية والإبقاء على أي نزاع في مستوياته الدنيا بما أمكن. ووفقا لهذه المقاربة، حاولت واشنطن جلب الصين إلى مختلف الأنظمة متعددة الأطراف لمراقبة الأسلحة خاصة أسلحة الدمار الشامل، الانتشار النووي وتجارة الأسلحة إلى جانب ضمها إلى الأنظمة الدولية المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، تم ضم الصين إلى حل القضايا الإقليمية مثل كوريا وانتشار الأسلحة النووية في جنوب آسيا. [61]
ومن الناحية العسكرية، سعت الولايات المتحدة لتعزيز العلاقات العسكرية لزيادة الثقة المتبادلة والتوصل الى اتفاقات حول قواعد اللعبة لتسهيل التهاون وتجنب سوء التفاهم.
ومع ذلك، فالنتائج المنتظرة من هذه الإستراتيجية لم تكن وفق التوقعات، فالمشكل مع هذه الإستراتيجية، أن توقعات الطرفين غالبا ما تكون متباعدة بناء على دوافع التفاوض لدى كل منهما: قوة الوضع القائم ترغب في تغيير القوة المراجعة، في حين هذه الأخيرة ترغب في تغيير النظام القائم. [62] وفي حالة الصين، لم تستطع هذه الإستراتيجية إعطاء أي مقترحات إيجابية بخصوص كيفية التعامل في حالة تعارض التصرفات الصينية مع المصالح الأمريكية أو عندما تتصرف الصين بشكل سيء. [63]
إلى جانب ذلك، تكمن نقطة الضعف الرئيسية لهذه الإستراتيجية في أنها لم تحدد ما يجب عمله لحماية المصالح الأمريكية في حال أصبحت الصين أكثر قوة وأكثر عدوانية، فضلا عن استبعادها للإجراءات النموذجية منخفضة المستوى التي تتخذها الولايات المتحدة للتعبير عن استيائها من تصرف دولة أجنبية. [64]
نتيجة لذلك، على سبيل المثال، ألغت إدارة بوش أغلب التبادلات الدبلوماسية مع بكين بعد أحداث تينانمين، حيث أثبتت استحالة إتباع قواعد الارتباط. وبشكل مماثل، لم ترغب إدارة كلينتون بالسماح بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية وفقا للشروط التي وضعتها الصين، وتوعدت الولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية حول بعض القضايا على غرار فشل الحكومة الصينية في حماية حقوق الملكية الفكرية للشركات الأمريكية. من جهتها، عجزت إدارة ترامب عن كيفية الرد على السلوكيات الصينية الإصرارية ببحر الصين الجنوبي.
2- إستراتيجية الانقياد
ما يتعلق بمضمون ومفهوم هذه الإستراتيجية، فقد تم التفصيل فيها في العنصر المتعلق باستجابة دول جنوب شرق آسيا اتجاه الصعود الصيني بالمنطقة. ومع أن هذه الإستراتيجية هي من بين الإستراتيجيات “المستبعدة” في عصر الهيمنة الأمريكية الحالية، إلا أنها غير مستحيلة.
مما سبق، وبسبب القصور الذي تعاني منه الإستراتيجيات الموضحة سابقاً، فإن القوة المهيمنة تلجأ عادة لاستخدام إستراتيجيات مختلطة وفقا للسلوك الذي تبديه القوة الصاعدة. في هذا الإطار، اقترح زلمي خليل زاد، المزج بين إستراتيجيتي الاحتواء والارتباط وأطلق على المفهوم الجديد “Congagement”. ووفقا له، يجب أن يضطلع الخيار الإستراتيجي الأمثل بثلاثة أمور: [65]
- الحفاظ على الأمل الملازم لسياسة الارتباط؛
- ردع الصين من أن تصبح عدائية؛
- التحوط ضد احتمال أن تتحدى الصين القوية المصالح الأمريكية.
دعم مجمع السياسة الخارجية في واشنطن، سياسة ” Congagement ” التي تعني الاحتواء العسكري المقترن بالمشاركة الاقتصادية[66]. وانتهجت أمريكا هذه السياسة، رغم كل النوايا والمقاصد، تجاه الصين منذ نهاية الحرب الباردة. إلا هذا المفهوم تعرض للنقد الواسع، المشكلة الأولى هي أن مقاربة “Congagement ” مبنية على سياسات متناقضة؛ وغالبًا ما يتم الدفاع عن هذه المقاربة بصيغ غامضة، نذكر منها على سبيل المثال: “يتوجب على واشنطن إشراك الصين من أجل موازنتها، والتوازن ضدها من أجل إشراكها “[67]. كما أن مفهومي الاحتواء والارتباط، المشكلان لمفهوم Congagement، لا يكملان بعضهما البعض، بل يعملان لأهداف متعارضة. فضلا عن عدم وجود صيغة محددة لكيفية تنفيذ هذا المفهوم المعقد، إذ يتطلب الأمر حنكة دولة متطورة، هي غائبة في السياسة الخارجية الأمريكية منذ عقود. كما، يرى بعض الباحثين، أنه إذا أصرت الولايات المتحدة على سياسة Congagement، فمن المرجح أن ترى حلفاءها عاجزين عن الاضطلاع بدور أكبر، إذ تخصص حصة أكبر من الدخل الوطني الأميركي لاحتواء الصين بالنيابة عنهم. لهذا، حان الوقت للعودة إلى إستراتيجية “إحداث التوازن عن بعد ” offshore balancing، وهو ما قامت به إدارة دونالد ترامب في الواقع.
من جانبه، أكد الباحثLogan أن المحللين السياسيين والنقاد في واشنطن، يحبذون أن يسوّقوا لإستراتيجية Congagement على أنها إستراتيجية التحوط، في حين أن التحوط يشير إلى القرار بإجراء استثمار محافظ ذي عوائد منخفضة ولكن محتملة، للمساعدة في تغطية الخسائر المحتملة من استثمار محفوف بالمخاطر ذي عوائد مرتفعة ولكن أقل احتمالا. وقياسًا على سياسة الصين، سيتم التعامل مع الصين برهان محفوف بالمخاطر، لتضيق الفجوة النسبية في القوة بين البلدين، على أمل أن تتحول الصين ولن تتنافس عسكرياً مع الولايات المتحدة. [68] لهذا، يسعى الجيش الأمريكي لاحتواء الصين، كما ظهر بوضوح من خلال المفهوم العملياتي “الحرب الجوية-البحرية”Air/Sea Battle والذي برز كاستجابة للإستراتيجية الصينية anti-Access anti-denial A2/AD، التي تتحدى استعراض قدرات القوة الأمريكية المتزامن مع تنامي وجودها العسكري في المحيط الهادئ، خلال العقود القادمة. [69] كما يستدل من هذا المفهوم، أن تتبع واشنطن إستراتيجية الارتباط الاقتصادي والتي يؤمل أن تجعل الصين سهلة الانقياد لأهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
مما سبق، فإن إستراتيجية الولايات المتحدة للتعامل مع القوى الصاعدة أكثر تعقيدا من الاحتواء أو الارتباط أو الإستراتيجية المختلطة Congagement التي تجمع ما بين المفهومين السابقين.
الفرع الثاني: نموذج “الند المنافس” لمؤسسة راند Rand
تم تطوير هذا النموذج من طرف مجموعة من الباحثين بمؤسسة “راند Rand” الأمريكية، ويقوم هذا الإطار التحليلي على وضع مجموعة من الإستراتيجيات أمام صانع القرار الأمريكي من أجل بقاء القوة المهيمنة (الولايات المتحدة الأمريكية) لأطول فترة ممكنة وبأقل التكاليف أمام القوة الصاعدة. ويتضمن هذا النموذج أربع إستراتيجيات يتم توضيحها في الشكل الموالي:
الشكل رقم 05: إستراتيجيات القوة المهيمنة في مواجهة “الند المنافس” الصاعد
ونستعرض مضمون هذه الإستراتيجيات فيما يلي:[71]
- إستراتيجية الاستمالة أو الاسترضاء: وتعنى السماح بصعود سريع لقوى أخرى، ولكن مع خلق مصالح مشتركة وخلق الانطباع العام باحترام القواعد التي وضعتها القوة المهيمنة، من أجل الحيلولة دون تحدي القوة الصاعدة لقواعد نظام الهيمنة وتقليل الخلافات معها. وتستخدم هذه الإستراتيجية مع القوى الصاعدة غير المراجعة والتي تمثل تهديداً منخفضا للقوة المهيمنة ومصالحها، وهي الإستراتيجية التي استخدمتها بريطانيا مع القوة الأمريكية الصاعدة في منتصف 1890، وتستخدمها الآن القوة الأمريكية المهيمنة مع الاتحاد الأوروبي، واليابان أيضا.[72]
- إستراتيجية الضم أو الدمج: وهي إستراتيجية تحوط مؤقتة تتبعها القوة المهيمنة من أجل ضمان ألاّ تتحول القوة الصاعدة الى متحد لهيمنتها، ولا تتوانى القوة المهيمنة في الدخول في خلافات ونزاعات مع القوة الصاعدة. واستخدمت الولايات المتحدة هذه الإستراتيجية مع الصين، حيث عملت على زيادة منافع الصين من النظام الدولي وقواعده، وفي الوقت نفسه تضع قيوداً وخطوطاً حمراء على أي استخدام للقوة من قبل الصين.
والملاحظ أن الولايات المتحدة استخدمت هذه الإستراتيجية مع الصين عندما كان تصورها للتهديد الصيني متوسط، لكن اليوم مع ارتفاع هذا التصور، فالولايات المتحدة تستخدم إستراتيجية التنافس والتي سنأتي على تفصيلها. نظرا لان الصين اليوم أصبحت تزاحم الولايات المتحدة في مناطق مهمة وتملك فيها مصالح كبرى مثل آسيا-الباسفيك.
- إستراتيجية الكبح أو التقييد: تلجأ إليها القوة المهيمنة لمعاقبة القوة الصاعدة في حالة خرقها لقواعد النظام الدولي، مما يؤدي إلى مستوى عال من الخلافات مع هذه الأخيرة، بسبب عمل القوة المهيمنة على إبطاء مسار صعودها والتأثير على تطلعاتها وتوجهاتها، وقد استخدمت بريطانيا هذه الإستراتيجية اتجاه روسيا سنة [73]
- إستراتيجية المنافسة: تستهدف تخفيض قوة الند الصاعد صاحب التوجهات المراجعة والتهديد العالي للمكانة الدولية للقوة المهيمنة؛ عن طريق فرض بعض النزاعات وذلك بهدف منع زيادة قوة الند الصاعد. تستخدم القوة المهيمنة هذه الإستراتيجية مع القوى التي تعتبرها منافسة وترغب في الحيلولة دون تحولها إلى ند فعلي. وقد استخدمتها الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي في أربعينيات وثمانينيات القرن الماضي وتستخدمها اليوم ضد الصين.
انطلاقا من ذلك، ظلت دوائر صنع القرار الأمريكي تتعاطى مع الصين بوصفها التهديد الأول والمباشر للهيمنة الأمريكية خلال الحقبة المقبلة، الأمر الذي أفضى إلى الإضرار بالمصالح الأمريكية في العالم ككل والقارة الآسيوية بالأخص. لهذا ،حذر مسؤولون وخبراء أمريكيون من خطورة هذا النهج الاستعدائي للصين ومن تداعياته السلبية على السياسة الخارجية والمصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة، وطالبوا الإدارة الأمريكية بضرورة العمل على مد جسور التفاهم ؛التنسيق مع الصين ؛ترويضها بغية ترشيد توجهاتها العالمية والإقليمية وتقنين تطلعاتها الإستراتيجية على النحو الذي يعظم مكاسب الولايات المتحدة ويحمي مصالحها ومشارعها في القارة الآسيوية وغيرها من المناطق الأخرى، بدلا من تصعيد التوتر مع الصين والدخول في مواجهات مباشرة وغير مباشرة معها، والتي ربما تستنزف الولايات المتحدة وتعرقل خطاها الرامية إلى تعزيز الإمكانات الأمريكية التي تؤهل واشنطن للهيمنة على العالم وريادته. [74]
في هذا السياق، ينصح الخبير الإستراتيجي الأمريكي لورانس ج براهام Laurence J. Brahm في كتابه المعنون “الصين كرقم واحد”، الإدارة الأمريكية ببلورة صيغة أفضل للعلاقات مع الصين، تقوم على الوفاق والتفاهم، بدلا من استعدائها وتصويرها على أنها المنافس المقبل للولايات المتحدة والذي يستوجب حشد الطاقات لمواجهته، ويرى سونغ في التفاهم والوفاق مع الصين مصلحة حقيقية للولايات المتحدة في القارة الآسيوية والعالم أجمع.[75]
يظهر مما سبق، أنه رغم التراجع الملحوظ للهيمنة الأمريكية، تسعى الولايات المتحدة جاهدة من خلال استخدامها لمختلف الإستراتيجيات، إلى خلق بيئة دولية تعج بالعوائق والمثبطات والإستراتيجيات المختلطة التي تعقد على القوى الصاعدة خصوصا الصين وضع إستراتيجية صعود رصينة، وتتطلب منها حذرا ومراجعة دائمة لتحركاتها الدولية إلى اعتماد إستراتيجيات وسياسات محكمة لضمان صعود أمن ومستدام.
خلاصات
- الأهمية الجيوستراتيجية والأمنية لمنطقة جنوب شرق آسيا تنبع من موقعها الجغرافي الذي يربط أهم محيطين في مستقبل واستمرارية تواجد القوى العظمى (المحيط الهندي والمحيط الهادئ)؛ وموقعها الإستراتيجي الذي يتوسط أهم الممرات البحرية (مضيق ملقا وبحر الصين الجنوبي) ونقاط الاختناق جعل منها مسرحاً للتنافس الإقليمي والدولي.
- تعتمد اقتصاديات الدول الكبرى على استقرار منطقة جنوب شرق آسيا، وعلى وجه التحديد أمن الممرات البحرية التي تعتمد عليها بشكل كبير في تجارتها وأمنها الطاقوي.
- يتمتع كل من مضيق ملقا وبحر الصين الجنوبي بمكانة مركزية في المعادلة الإستراتيجية المستقبلية لمنطقة جنوب شرق آسيا وآسيا- الباسيفيك وكذا المكانة العالمية للولايات المتحدة والصين.
- عملت دول جنوب شرق آسيا على تنويع الأطر الأمنية الرسمية وشبه الرسمية، والارتباط بتحالفات قوية مع الولايات المتحدة، وهذا بهدف حلّ النزاعات بالطرق السلمية وحفاظا على السلم والاستقرار الإقليميين.
الهامش
[1] OED (Oxford English Dictionary), the shorter Oxford English Dictionary (Oxford: Oxford University Press, 1983). P 412.
[2] مارتن غريفيتس وتيري اوكالاهان، المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية (دبي: مركز الخليج للأبحاث، 2008)، ص 449.
[3] Robert Keohane and Josef Nye, Power and Interdependence (New York, NY: Jr. Pearson Scott, foresman, 1989), P 44.
[4] جوزيف ناي (الابن)، مترجما، المنازعات الدولية … مقدمة للنظرية والتاريخ (القاهرة: الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة الدولية، 2000)، ص 32.
[5] نفس المرجع، ص 31.
[6] علي فارس حميد، صانعو الاستراتيجيات: مدخل لدراسة الفكر الاستراتيجية العالمي (بيروت: دار الرافدين، 2018)، ص 114.
[7] كريستوفر لين، مترجما، إعادة صياغة الاستراتيجية الأمريكية الكبرى: زعامة في القرن الحادي والعشرين أم توازن القوى (دمشق: المؤسسة العربية السورية لتوزيع المطبوعات، 1999)، ص 29.
[8] علي فارس حميد، مرجع سابق، ص 114-115.
[9] نفس المرجع.
[10] علي فارس حميد، مرجع سابق، ص 117.
[11] Ian Clark, Hegemony in International Society (Oxford: Oxford University Press, 2011), PP 24-25.
[12] Thi Hai Yen Ngu Yen, Sino -American Interactions in Southeast Asia :1991-2015 Implications for Vietnam, PhD Thesis, University of Wollongong, Faculty of Law, Australia, October 2015, p95.
[13] Rachman.G, Think Again: American Decline, Foreign Policy ,184 ,2011, p 59.
[14] Op. Cit.
[15] Ibid, p 99.
[16] Muzaffar G, The Relationship Between Southeast Asia and The United States: A Contemporary Analysis, Social Research, vol 72, No 4, 2005, p 907.
[17] Thi Hai Yen Ngu Yen, op.cit., p100.
[18] Tao.W. Z, U.S Interests in The Asia -Pacific Region, Peace Review ,11(3) ,1999, p 425.
[19] The white House, National Security Strategy, February 2015, P 24.
https://bit.ly/2TXo0HH (accessed on 02/08/2019).
[20] منير مباركية، مرجع سابق، ص154.
[21] Fareed Zakaria, The Post American World (New York, NY, Norton, 2008), PP 04-05.
[22] Anisa Heritage, Op. Cit., P 143.
[23] Yuen Foong K Hong, Foreign Policy Analysis and the International Relations to China, in Oxford Handbook of the International Relations of Asia, eds, Saadia M, pekkanen, John ravenhill and Kesemary foot (Oxford: Oxford University Press, 2014).
[24] Yuen Foong Khong, Op. Cit., P 87-88.
[25] Peter Katzenstein, A World of Regions: Asia and Europe in the American Imprerium (Ithaca, NY: Cornell University Press, 2005), P 52.
[26] Peng Fu, The Diversified Employment of China’s Armed forces, Xinhua, 16 April 2013
https://bit.ly/2V7oP1b (accessed on 07/07/2018)
[27] Office of The Secretary of Defence, Annual Report to Congress, Military and Security Developments Involving the People’s republic of China, Department of Defence, Washington D.C, 2013, P 07.
https://bit.ly/2P8NPRK (accessed on 07/07/2018)
[28] Ibid, P 6-7.
[29] Ibid.
[30] Youji, A New Era for Chinese Naval Expansion, The Jamestown Foundation https://bit.ly/38Lkl4f (accessed on 07/07/2018)
[31] The People’s Republic of China, Information office of the state council, Building and development of China’s Armed Forces, The diversified Employment of China’s Armed forces, 16 April 2013
https://bit.ly/2wyTtGA (accessed on 07/07/2018)
[32] Ibid.
[33] Office of the Security of Defence, Op. Cit., P 03.
[34] Peng Fu, The Diversified Employment, Op. Cit..
[35] Phillip.C. Saunders and Erik R, Quam, China’s Air Force Modernization, Joint Force Quarterly, vol47 ,2007, P 29.
[36] Gerry Doyle, Stealth Changes for China’s Stealth Fighter, New York Times, 5 March 2014,
https://bit.ly/3bShmsM (accessed on 08/07/2018)
[37] T.S. Kelso, Analysis of the 2007 Chinese ASAT and the impact of its Debris on the Space Environment, Advanced Maui Optical and Space Surveillance Technologies Conference, 2007, P 32
https://bit.ly/32chgI0 (accessed on 08/07/2018)
[38] Cruz Cruz Angel, The Strategic Shift to the Asia Pacific, Op. Cit., P20.
[39] China’s Beidou GPS-Substitute opens to Public in Asia, BBC, 27 December 2012,
https://bit.ly/2V59ka5 (accessed on 08/07/2018)
[40] Office of the Security of Defence, Op. Cit., p09.
[41] Ashely Towshend, Brendan Thomas-Noome and Matilda Steward, Averting Crisis: American Strategy, Military Spending and Collective Defence in The Indo-Pacific, The United State Studies center, University of Sydney, August 2019, PP
[42] Ashely Towshend, Brendan Thomas-Noome and Matilda Steward, Op. Cit. P 16
[43] Ashely Towshend, Brendan Thomas-Noome and Matilda Steward, Op. Cit., PP 2-3.
[44] Ashely Towshend, Brendan Thomas-Noome and Matilda Steward, Op. Cit. P 17
[45] Ashely Towshend, Brendan Thomas-Noome and Matilda Steward, Op. Cit. P 19
[46] The white House, National Security Strategy, May 2010
[47] منير مباركية، مرجع سابق، ص 162.
[48] Randall L. Schweller, Managing the Rise of Great Powers: History and Theory, in: Alastair Iain Johnston and Robert S. Ross (eds), Engaging China: The Management of An Emerging Power (UK, Routledge, 1999), P 07.
[49] Randall L. SchWeller, Op. Cit., P 09.
[50] محمد وائل القيسي، الأداء الاستراتيجي الأمريكي بعد العام 2008: إدارة باراك أوباما أنموذجا (الرياض: العبيكان للنشر والتوزيع،2017)، ص 54.
[51] حسين شريف، السياسة الخارجية الأمريكية (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994)، ص 398.
[52] سليم حسني، مبادئ الرؤساء الأمريكيين (لندن: دار السلام للدراسات والنشر، 1993)، ص 71.
[53] Anisa Heritage, P140.
[54] Ashley J. Tellis, Balancing without Containment: A U.S Strategy for Confronting China’s Rise, the Washington quarterly ,36, No 4 ,2013, PP 111-112.
[56] Alastair Iain Johnston and Robert S. Ross (eds), Engaging China: The Management of an Emerging Power (U.K, Routledge, 1999), P XV.
[57] Randall L. Scheller, Op. Cit., P 15.
[58] منير مباركية، مرجع سابق، ص 170.
[59] Randall L. Scheller, Op. Cit., P 14.
[60] Zalmay Khalilzad, Congage China, Rand Corporation ,1999.
https://bit.ly/2Ugamjh (accessed on 07/08/2018)
[61] Ibid, P 5.
[62] Randall L. Schweller, Op. Cit., P 15.
[63] Zalmay Khalilzad, Op. Cit., P 05.
[64] Ibid.
[65]Zalmay Khalilzad, Op. Cit., P 06.
[66] Zalmay M. Khalilzad et al., “The United States and a Rising China: Strategic and Military Implications,” RAND Corporation Monograph MR-1082 (1999)
https://bit.ly/2RCvUoh (accessed on 08/08/2019).
[67] Dan Blumenthal et al, Asian Alliances in the 21st Century, Project 2049 Institute, August 2011, P 05. https://bit.ly/2RyCMDg (accessed on 08/08/2019).
[68] Justin Logan, China, America and the Pivot to Asia, Policy Analysis, No 717, Cato Institute, 8 January 2013.
[69] Anisa Heritage, Op. Cit., P 142.
[70] Szayna T. et all, The Emergence of Peer Competitors: Framework for Analysis (Santa Monica, California: RAND Corporation ,2001), P54.
[71] منير مباركية، مرجع سابق، ص ص161-162.
[72] Szayna T. et all, Op. Cit., PP 54-57.
[73] Ibid, P 63.
[74] زهير عزيز، تعاظم الدور الصيني ومستقبل الهيمنة الامريكية في القارة الآسيوية، مرجع سابق، ص 92.
[75] بشير عبد الفتاح، أزمة الهيمنة الامريكية (القاهرة: شركة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2010)، ص 293.
.
رابط المصدر: