باعتبار المرجعية الدينية هي وريثة الأنبياء وامتداد للنبوة الخاتمة فإن مواقفها لا بد أن تستند الى أسس قرآنية وحديثية واستقراء لحياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى تحافظ على هذه الوراثة وذلك الامتداد ، وعند مطالعة الآيات الكريمة في القرآن الكريم ونقرأ الآية الشريفة (( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون )) نجد أن هذه الآية تميز من المؤمن والفاسق وأنهم لا يستوون عند الله وبالتالي فاستواؤهم عند المرجعية أمر مستحيل إلا بخروجها عن مبادئها وتنازلها عن وراثة الأنبياء ، فإذا وجد أحدنا ميل المرجعية الى جهة أو شخص أكثر من الآخر فلا يستغرب لأن هذا النهج نهج قرآني – كما تبين – لا غبار عليه .
وهذا الوقوف لا يخرج المرجعية من أبويتها للجميع فالأب لا يساوي بين أبنائه إذا كانوا مختلفين في مستوى الأخلاق مثلاً فيكافئ من كانت أخلاقه حسنة كي يحافظ عليها ويزيد منها وكي يتعظ صاحب الأخلاق السيئة فيقوم بالاتصاف بها حتى ينال رضا الأب ، أما إذا وقف الأب من جميع أبنائه المختلفين في مستوى الأخلاق فإن هذا سيشجع صاحب الخلق السيء على بقائه على هذا المستوى المتدني من الأخلاق بل والتسافل والتمادي في سوء خلقه ، وسيفقد صاحب الخلق الحسن بعضاً من أخلاقه إن لم تكن جميعها لأنه لا يجد من يشجعه ولا يرى فرقاً وثمرةً في اتصافه بالأخلاق الحميدة أو السيئة وبالتالي سينتقل الجميع الى مستوى أخلاقي متدني ، طبعاً هذا لا يمانع من أن يقوم الأب بتربية أبنائه وتوجيههم ووضع خطط تربوية لرفع صاحب الأخلاق السيئة الى مستوى إخوانه أصحاب الأخلاق الحسنة ، وهذا أيضاً ما تقوم به المرجعية الدينية العاملة بحكمتها وخبرتها .
وقد أكد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا النهج وطبقه عملياً وسار عليه فهو القرآن الناطق ولنا فيه أسوة حسنة ، فلما وجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمة غير واعية وعياً كاملاً يؤهلها لانتخاب القيادة الصالحة قام برسم خارطة طريق لهم كي يصلوا من خلالها الى القيادة الحقيقية وكذلك كي يبتعدوا عن القيادة المزيفة ، فقام بتوجيه أنظار الأمة الى أمير المؤمنين علي عليه السلام من خلال عدة مواقف يبين فيها فضله ومنزلته حتى تكون – هذه المواقف – نبراساً للإنسان المؤمن الباحث عن الحقيقة .
وهذه المواقف كثيرة لا يمكن حصرها وجمعها في هذه الأسطر ولكن ندرجها على عجالة : (( علي مع الحق والحق مع علي ، يدور معه حيثما دار )) ، (( يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا )) ، (( يا أبا ذر لو سار القوم في وادٍ وسار علي في وادٍ فسر مع علي )) ، (( أنا مدينة العلم وعلي بابها )) ، (( يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى )) ، ولما شعر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الأمة ما زالت لم تستوعب ولم تدرك خطورة القيادة الصالحة رغم مرور عشر سنوات على تأسيس الدول الإسلامية وهجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ال المدينة ، فقام في حجة الوداع ( أو حجة البلاغ ) بالبلاغ الذي أمره الله به : (( من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ نت عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله )) .
هذا فضلاً عن المواقف التي تبين مكانة أمير المؤمنين علي عليه السلام عند الله مثل يوم المباهلة ويوم التصدق بالخاتم ويوم الإنذار وحادثة إطعام المسكين واليتيم والأسير ، بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتفِ بتحديد القيادة الصالحة بل أشار الى مجموعة من رموز الأمة كي تدعم موقف أمير المؤمنين علي عليه السلام مثل : (( سلمان منا أهل البيت )) ، (( يا عمار تقتلك الفئة الباغية )) ، (( ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر )) ، وفي المقابل بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض رموز الفتنة التي ممكن أن تغيّر وتحرّف وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه ، فأشار الى بيت إحدى زوجاته وقال : (( هنا تكمن الفتنة – وكررها ثلاث مرات )) ، وقال لبني أمية عند فتح مكة : (( إذهبوا فأنتم الطلقاء )) ، وأهدر دم مجموعة من المشركين واتخذ موقفاً حازماً تجاه بعض المنافقين .
كل هذا حتى يوضح الطريق أمام المؤمنين في المستقبل في تحديد القيادة الصالحة ، فلم يقف على مسافة وواحدة لا بين الصالح والطالح ولا حتى بين الصالحين أنفسهم ، فما صدر منه صلى الله عليه وآله وسلم بحق علي عليه السلام لم يتناسب مع ما قاله بحق سلمان أو عمار أو أبي ذر وإنما يتناسب مع موقعه ومكانته ومسؤوليته ، فمسؤولية أمير المؤمنين علي عليه السلام ليست كمسؤولية سلمان أو عمار أو أبي ذر رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
وعلى هذا الأساس لم يكن الوقوف على مسافة واحدة من أبجديات المرجعية الدينية – الشيعية – بل إن مما يؤاخذ عادة على العلماء أنهم غير دبلوماسيين لأنهم يتخذون مواقف حازمة إزاء المنعطفات التي تمر بها فالأبيض تقول عنه أبيض والأسود تقول عنه أسود إذ لا مجال للون الرمادي في ساحة المرجعية ، وما صدر مؤخراً من السيد محمد رضا السيستاني نجل المرجع الديني السيد علي السيستاني ومدير مكتبه وألقاه معتمده في كربلاء السيد أحمد الصافي في خطبة الجمعة يوم 25/4/2014 إلا امتداداً واستناداً لما تقدم ، حيث أكّد أن مرجعية السيد السيستاني لا تدعم أي قائمة من القوائم المرشحة للانتخابات وأنها حينما تقف على مسافة واحدة لا يعني أنها تقف على مسافة واحدة بين الصالح وغيره ، وإلا لما اضطر الى بيان موقف المكتب من ذلك ، وإن كان موقف المكتب لم يبين هل أن صلاح المرشحين الذين يقف بينهم على مسافة واحدة هل هو من وجهة نظر مكتب السيد السيستاني أم من وجهة نظر الناخب ، لأننا نعلم أن وجهات النظر محتلفة بين البشر فضلاً عن الاختلاف بين وجهة نظر العالم عن غير العالم من عوام الناس .
كما أوضح بيان مكتب السيد السيستاني أنه يريد من المواطن أن يتحمل مسؤوليته في تحديد الأفضل من بين المرشحين ، ولكن هل هذا يعني أن مرجعية السيد السيستاني ومكتبه سوف لن تقوم بانتقاد المسؤولين البرلمانيين والحكوميين في الدولة للمرحلة القادمة ، لأننا نعلم من – ذوق المرجعية – عدم التدخل في شؤون المواطنين وفي أمور اختاروها بأنفسهم ، فالمسؤولون – البرلمانيون خصوصاً – هم من اختيار المواطنين من دون تدخل أطراف وجهات خارجية مؤثرة بضمنها المرجعية ، وبالتالي فإن انتقاد مكتب السيد السيستاني للبرلمانيين هو انتقاد لرأي الناخب وعدم احترام له وتدخل في شأنه واعتراض على حريته ، لأن المرجعية – تحديداً مرجعية السيد السيستاني – بعد هذه المرحلة سوف لن تتكلم بلسان الجماهير لأنها لم توجههم لانتخاب جهة أو شخص معين ، فإذا انتقدت البرلمانيين والحكومة فإن هذا رأيها وهو مختلف عن رأي الجماهير التي ارتأت الى أن يكون هؤلاء البرلمانيون هم ممثلوهم .
ويرى البعض أن وقوف مكتب مرجعية السيد السيستاني على مسافة واحدة من دون توضيح – ولو بالتلميح – الى مرشح أو كتلة معينة يراها المكتب هي الأفضل للشعب العراقي راجع لأسباب فنية مثل غياب المشروع السياسي للمرجع السيستاني باعتباره معروف بعدم تدخله في السياسة وتفاصيلها لأن مبانيه الفقهية تعتمد على أصول ترى أن ليس من صلاحية الفقيه أن يتدخل في شؤون السياسة ويقحم نفسه فيها وإن ما عليه هو تقديم النصح والإرشاد وطرح فتاواه على مستوى العبادات والمعاملات من خلال الرسالة العملية أو وكلائه ومعتمديه أو باقي القنوات لإيصالها الى المكلفين .
ولو تصورنا رؤية مكتب السيد السيستاني للمستقبل بعد الموقف الذي بينه معتمده السيد أحمد الصافي خطيب جمعة كربلاء في أن يقوم المواطنون بتحمل مسؤليتهم في انتخاب المرشح الأصلح لتمثيله في مجلس النواب فهل ستكون موافقة لما تصوره مكتب المرجعية للمستقبل ؟ بمعنى : هل أن المستقبل العراقي بعد 30 نيسان 2014 هو موافق لتصورات مكتب المرجعية التي أُبتنيت على أساس الموقف المتخذ من قبلها بالوقوف على مسافة واحدة وأن ينتخب المواطن للمرشح الأصلح من دون دعم مكتب المرجعية لكتلة أو مرشح دون آخر ؟ نأمل أن يكون مطابق لما تصوره مكتب المرجعية مستقبلاً زاهراً مليئاً بالازدهار والتقدم .