- أدى تأجيج مخاوف طهران من العلاقات العراقية-الأمريكية، إلى تعزيز الحملة التي تطالب بانسحاب القوات الأمريكية، رغم عدم استعداد العراق اقتصادياً أو عسكرياً للانسحاب الأمريكي الفوري.
- مع أن إيران ترغب في رؤية مغادرة القوات الأمريكية العراق بالكامل، لكنها لا تريد أن يصل العراق والولايات المتحدة إلى مستوى فك الارتباط، لأن ذلك سيؤثّر في تدفّق الدولار الأمريكي إلى العراق، وهذا سيُضر بالاقتصاد الإيراني.
- تسعى الولايات المتحدة للبقاء في العراق من خلال إجراء تعديلات على الاتفاق الاستراتيجي الموقع بينهما، لكنَّ واشنطن تفقد سمعتها وهيبتها في العراق بسرعة، الأمر الذي ينطوي على أثر سلبي في قوتها الناعمة.
- من أجل استرضاء قوتين مُتعاديتين في وضع محفوف بالمخاطر، تضطر الحكومة العراقية، باعتبارها الحلقة الأضعف بين الولايات المتحدة وإيران، إلى تبنّي استراتيجية من الغموض الاستراتيجي، تتأرجح بين الانسحاب وعدم الانسحاب، ما يضعها في موقف مُحيّر ومُحرج.
يُحيط الكثير من الغموض بمستقبل العلاقة الأمريكية-العراقية، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بكيفية إنهاء الوجود الأمريكي في العراق. ويعود هذا الغموض إلى وجود الكثير من الفاعلين في هذه العلاقة، وبخاصة الحكومة الأمريكية والحكومة العراقية والمليشيات العراقية الموالية لإيران والحكومة الإيرانية وبدرجة أقل مكونات عراقية أخرى، مثل الأكراد والسُنّة. وإلى جانب ذلك تحاول الحكومة العراقية الحالية مشاركة الشعب العراقي في العملية، وذلك من خلال توجيه سؤال إلى 20 مليون عراقي على هواتفهم المحمولة لمعرفة إذا ما كانوا يوافقون على رحيل قوات التحالف الدولي من العراق. ويُعَدُّ توجيه هذا السؤال محاولة لإضفاء صبغة ديمقراطية، وجعل العلاقة الأمريكية-العراقية أكثر ضبابية. لذلك يتعين إزالة هذه الضبابية التي تحيط بهذه العلاقة وسلوك الفاعلين المختلفين، لمعرفة الطبيعة الحالية للعلاقات الأمريكية-العراقية ومستقبلها المحتمل.
طبيعة العلاقات بين العراق والولايات المتحدة
في 17 نوفمبر 2008 توصل السفير الأمريكي في العراق آنذاك ريان كروكر إلى اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة وتعاون مع جمهورية العراق. ويُطلق الجانب الأمريكي على الاتفاقية اسم “الإطار الاستراتيجي”، في حين أن العراقيين يطلقون عليها اسم “اتفاقية الانسحاب”؛ فارق لغوي لكنه يَشي بالكثير.
وتستند الاتفاقية إلى عدد من المبادئ من بينها احترام السيادة والتعاون الدفاعي، كما تنص الاتفاقية على أن الوجود المؤقت للقوات الأمريكية في العراق يأتي بناءً على طلب ودعوة الحكومة العراقية السيادية مع الاحترام الكامل لسيادة العراق.
وتلقت هذه الاتفاقية حياةً إضافية عندما تعرَّض العراق للتهديد من جانب تنظيم “داعش” عام 2014، فقد طلب العراق دعماً جوياً بعد سقوط الموصل في يد التنظيم الإرهابي، ما أدى إلى تأسيس التحالف الدولي لمحاربة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة. لكنَّ الاتفاقية الاستراتيجية تظل الأساس للعلاقات والمفاوضات الأمريكية-العراقية. وحاول الجانبان التركيز على جوانب مختلفة في أوقات مختلفة بحسب الحاجة والإلحاح كطريقة لتنفيذ الاتفاقية، وتنويع العلاقات إلى مجالات أخرى بدلاً من المجالين الأمني والعسكري، مثل التعاون الاقتصادي.
لكنْ منذ البداية كان هناك طرف ثالث في العلاقة الأمريكية-العراقية، وهو إيران. فقد أدى وجود إيران إلى تحويل العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق إلى أمر يصعب التكهن به أو ميدانَ معركة أحياناً على ضوء التضارب بين طهران وواشنطن ليس حول طبيعة العلاقة بل حول طبيعة الدولة العراقية نفسها أيضاً. ونتيجة لذلك أضاف الطرف الثالث جوانب جيوسياسية وطائفية وعاطفية إلى هذه العلاقة.
وجاء المنعطف الحرج عندما تسبب هجوم نفذته مسيرة أمريكية في يناير 2020 في مقتل قائد قوة القدس الإيرانية الجنرال قاسم سليماني ونائب قائد قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، ما أدى إلى وضع النخب الشيعية العراقية فوراً تحت الضغط، ودفع أعضاء مجلس النواب العراقي إلى المصادقة على مشروع قرار يدعو إلى انسحاب القوات الأمريكية من العراق. كان المناخ متوتراً، بحسب أحد النواب العراقيين، وتعيَّن على الحكومة العراقية فعل شيء ما، وعليه فإن مشروع القرار في مجلس النواب العراقي جاء مدفوعاً بالعواطف وليس بمصلحة العراق بعيدة الأمد.
ونتيجة للدور الإيراني، شهدت العلاقات الأمريكية-العراقية التغييرات الجذرية الآتية:
أولاً، أدى تأجيج المخاوف الإيرانية من العلاقات العراقية-الأمريكية، إلى تعزيز الحملة التي تطالب بالانسحاب الأمريكي، بالرغم من عدم استعداد العراق اقتصادياً أو عسكرياً للانسحاب الأمريكي الفوري.
ثانياً، أضاف النفوذ الإيراني في العراق قضايا إقليمية إلى العلاقة الأمريكية-العراقية الثنائية، الأمر الذي أدى إلى تعقيد هذه العلاقات أكثر، وجعل بغداد أقل قدرة في الدفاع عن المصالح العراقية.
ثالثاً، أضاف الدور الإيراني في العلاقة الأمريكية-العراقية حالةً من الطوارئ، حيث تَعين على وكلاء إيران في العراق الرد فوراً حال حدوث أي تصعيد بين طهران وواشنطن في مكان آخر.
رابعاً، أصبح المجتمع والسياسة في العراق مُستقطبين بشكل متزايد نتيجة النفوذ الإيراني.
وجهة النظر العراقية: غموض استراتيجي
كان تصويت مجلس النواب العراقي في عام 2020 على طرد القوات الأمريكية من العراق مدفوعاً بالمشاعر الوطنية والضغط الإيراني، بحسب باربرا ليف وبلال وهاب، لكنَّ الوطنية العراقية غائبة بشكل واضح هذه المرة، وبخاصة على ضوء تراجع نفوذ مقتدى الصدر في العملية السياسية، ونتيجة لذلك فإن المسار الراهن للعلاقات الأمريكية-العراقية ينطلق من مراعاة الدواعي الإيرانية أكثر من التركيز على المخاوف العراقية. كان الصدر العقل المدبر خلال المحاولة السابقة لإخراج القوات الأمريكية، غير أن الصدر ومجموعات أخرى سيتأثرون كثيراً في حال حدوث الانسحاب الأمريكي، ويَشي صمت الصدر بهذا الصدد بالكثير.
لذلك يُعتَقَدُ في حال انسحاب الولايات المتحدة من العراق بأن إيران ستواصل هيمنتها على البلاد. وقد لا يشعر الكثيرون بالسعادة إزاء هذه النتيجة، وخاصة في المناطق السُنيَّة التي تفضل وجوداً عسكرياً أمريكياً محدوداً، أكثر من حصول المليشيات الموالية لإيران على مزيد من السلطة. وينطبق هذا الأمر أيضاً على الأكراد. وقال فلاح مصطفى، مستشار رئيس إقليم كردستان العراق، إن أعضاء في مجلس النواب الأمريكي طمأنوهم بوجود قرار أمريكي بعدم الانسحاب من العراق. كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عدم وجود خطط حالياً لترحيل نحو 2,500 جندي من العراق.
ويدل هذا على عدم وجود حماس لدى الولايات المتحدة والأطراف العراقية بخصوص الانسحاب من البلاد. وعلاوة على الجانب الأمني، فإن الانسحاب السريع من جانب الولايات المتحدة سيعرّض العراق لمخاطر مواجهة عواقب دبلوماسية واقتصادية، ويتضح هذا الأمر من خلال وضع الدولار الحالي في العراق. لكنْ يتعين على العراق تقديم تنازلات وتحمل العبء نتيجة التشابك الذي يعاني منه بين إيران والولايات المتحدة.
والعراق الآن في وضع يسمح له بتصعيد مُعارضته الخطابية للوجود الأمريكي، وبخاصةٍ في وسائل الإعلام؛ ففي مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال“، صرّح رئيس الوزراء السوداني: لم نعد نخشى الآن من أن يؤدي رحيل قوات التحالف إلى تقويض القدرات العسكرية العراقية، وأضاف “لا يوجد سبب للقلق لأن لدينا قوات أمنية قويّة يُمكنها السيطرة على جميع مناطق العراق”. وهذا يدل على أن العراق يرغب في مُغادرة القوات العسكرية الأجنبية البلاد. وفي الوقت نفسه، ومن أجل إرضاء الخطاب الرسمي العراقي، وفقاً لمسؤولين أمريكيين، قد تجري حالياً بعض التعديلات على التحالف الدولي الذي يضم 900 جندي من اثنتي عشرة دولة أجنبية إلى جانب القوات الأمريكية التي يبلغ عددها 2500 جندي. ولكي يتم ذلك، دعا رئيس الوزراء العراقي إلى تشكيل لجنة ثنائية تُمثّل الجانبين العراقي والأمريكي.
ومن خلال فهم إطار العقيدة السياسية العراقية، يُمثّل قرار تشكيل اللجنة اتخاذ أطول طريق للقيام بذلك أو عدم القيام بذلك على الإطلاق. ومن أجل استرضاء قوتين مُتعاديتين في وضع محفوف بالمخاطر، تضطر الحكومة العراقية، وهي الحلقة الأضعف بين الولايات المتحدة وإيران، إلى تبنّي استراتيجية من الغموض الاستراتيجي، تتأرجح بين الانسحاب وعدم الانسحاب، ما يضعها فيموقف مُحيّر ومُحرج.
وجهة نظر الولايات المتحدة
وفقاً لمُساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، فإن الولايات المتحدة لا تريد مغادرة العراق تحت التهديد، ولا تعتقد بأن اللحظة مناسبة لذلك. ومع ذلك، تؤثّر مجموعة مُتنوّعة من العوامل بشكل مُباشر وغير مُباشر على الوضع الحالي للعلاقات بين الولايات المتحدة والعراق.
فالسياسة الأمريكية تجاه إيران قبل الهجوم على غزة تظل في خلفية المشهد. كان للولايات المتحدة آنذاك أولويات أخرى، مثل الغزو الروسي لأوكرانيا وصعود الصين، فضلاً عن أثر الجدل السياسي الداخلي في الولايات المتحدة بشأن التكاليف المادية والبشرية للحروب في أفغانستان والعراق.
وبناءً على ذلك، حاولت واشنطن الخلاص من أعباء تلك الحروب من خلال اتفاقيات تلزم الإيرانيين على الأقل بالتراجع عن حافة الهاوية بشأن البرنامج النووي، وإطلاق سراح بعض الأمريكيين المحتجزين، والامتناع عن بعض الأنشطة الأكثر عدوانية في الخليج العربي ضد حركة ناقلات النفط ومصالح وحلفاء الولايات المتحدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والتي هي، بالطبع، واحدة من الطرق العديدة التي تسعى إيران إلى امتلاك النفوذ وبشكل أساسي عن طريق الاستفزاز.
وقد تُرجمت تلك السياسة في العراق إلى استقرار وهدنة، ما ساهم في تحويل الأنظار الأمريكية نحو السلطة في بغداد على حساب الآخرين، وبخاصةٍ الأكراد. وبحسب وينثروب رودجرز، الصحفي المُقيم في كردستان، فإن هذا الدعم الأمريكي غير المُباشر للإطار التنسيقي وإضعاف القوى السياسية الأخرى في العراق قد عزّز مركزية السلطة وأضعف النظام الفيدرالي في البلاد. وهذا الواقع هو أيضاً وراء الدعوة العراقية الحالية إلى الانسحاب الأمريكي من البلاد، حيث تعتقد إيران ووكلاؤها في العراق أنهم تمكّنوا من تهميش القوى العراقية الأخرى.
من جانبها، تحاول الولايات المتحدة أن تنظر إلى الأزمة على أنها مؤقّتة وستقوم قريباً بنزع فتيلها، تماماً كما حدث في عام 2019. ولكن، في أحسن الأحوال قد لا يكون هذا التحليل دقيقاً. فقد تضطر الولايات المتحدة الآن إلى العودة إلى استخدام القوة الخشنة واحتمال التصعيد، على الرغم من أنها كانت تأمل في تحويل الانتباه إلى جوانب أخرى من العلاقة، مثل الجوانب الاقتصادية والمالية والثقافية. ستعاني الولايات المتحدة جرّاء أي تصعيد، وستفقد نفوذها داخل البلاد. وتعمل الميليشيات العراقية الموالية لإيران على إنهاء العلاقة العسكرية بين العراق والولايات المتحدة، ومن بين ذلك طرد المستشارين العسكريين الأمريكيين، على الرغم من أنهم قد يرغبون في الاحتفاظ بالعلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن شركاء الولايات المتحدة في العراق يفقدون الثقة بأنفسهم، وبخاصة الآن بعد أن تمكنت الجماعات العراقية الموالية لإيران من إضعاف الأطراف الكردية التي تعتبرها الولايات المتحدة تقليدياً أكثر ولاءً لها.
وبينما تحاول إيران حالياً اختبار مدى صبر الولايات المتحدة، تضطر الأخيرة أكثر فأكثر إلى اتخاذ إجراءات غير مرغوب فيها.
وجهة النظر الإيرانية
بالنسبة لإيران، لا يُعدّ العراق مثل أي بلد آخر في العالم. فالعراق هو البلد الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية لها، إذ يُشكّل العراق تهديداً ورصيداً استراتيجياً. وتُدير إيرانُ العراق من خلال الحرس الثوري الإيراني. ومع ذلك، وعلى الرغم من علاقتها القوية والوثيقة بالنُخب العراقية، فإن إيران لا تحظى بشعبية كبيرة بين سكان العراق، ومن بينهم الشيعة العراقيين.
ترى إيران أن انخراط الولايات المتحدة في العراق يُشكّل تهديداً سياسياً وثقافياً لها، عدا عن كونه تهديداً عسكرياً وأمنياً؛ وبالتالي، فإن إيران تُعارض قيام دولة ديمقراطية في العراق مؤيدة للولايات المتحدة وتكون بمنزلة نموذج يحتذى به للشباب الساخطين على النظام في إيران، حيث تتعرّض تقاليد “الجمهورية الإسلامية” وقيمها للتحدي، لا سيما من قبل النساء والشباب، كما يتضح من المظاهرات الأخيرة في إيران. لذلك، فإن مُحاولات خلق ثقافة سياسية عراقية مُعارضة للثقافة الغربية هي جزء من الاستراتيجية الإيرانية في العراق.
ولغاية الآن، يُظهر العقدان الأخيران من القرن الحالي أن الولايات المتحدة وإيران لديهما اتفاق غير مكتوب لتقاسم الغنائم في العراق، كما يعتقد مُمثّل كردستان العراق في طهران؛ لذلك، يرى آخرون بأن “العلاقة الثنائية بين إيران والعراق حاسمة لكلا البلدين؛ فهي راسخة بعمق في التاريخ وستستمر على الرغم من التهديد بالمقاطعة والعقوبات والحرب”.
بعد كل ما قيل، ثمة اختلاف في الحملة الإيرانية الحالية لطرد الأمريكيين من العراق؛ فإيران ترغب في أن ترى القوات الأمريكية تغادر العراق بالكامل، لكنها لا تريد أن يصل العراق والولايات المتحدة إلى مستوى فك الارتباط لأن ذلك سيؤثّر في تدفّق الدولار الأمريكي إلى العراق، وهذا سيُضر بالاقتصاد الإيراني، أو قد يحوّل العراق من مصدر اقتصادي مُهم إلى عبء.
إلى أين تتجه الأوضاع في العراق؟
في أعقاب التصعيد المتأخر، اجتمع ممثلون عن العراق والولايات المتحدة، في 25 يناير، لإطلاق “اجتماعات مجموعة العمل التابعة للجنة العسكرية العليا بين الولايات المتحدة والعراق”، لمناقشة كيفية تحول مهمة التحالف الدولي لمحاربة “داعش” بناء على جدول زمني يأخذ ثلاثة عوامل في الاعتبار: التهديد الذي يشكله التنظيم، ومتطلبات العمليات والبيئة، ومستويات قدرة قوات الأمن العراقية، وللانتقال في نهاية المطاف إلى “شراكة أمنية ثنائية دائمة بين الولايات المتحدة والعراق”. وقد رحب القادة والمسؤولون العراقيون بالمفاوضات، واعتبر العراقيون الاجتماع وسيلة للتحضير للانسحاب الأمريكي، إلا أنه جرى إزالة كلمة “انسحاب” من البيان الرسمي الصادر من الجانبين.
لكن كل ذلك حصل قبل الهجوم بالمسيرات الذي وقع في 28 يناير على قاعدة “برج 22” في شمال شرقي الأردن، والذي أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة أكثر من 25 آخرين. ومن المتوقع أن يؤدي هذا الهجوم إلى تعطُّل تلك الجهود، وإلى تغيير شروط الاشتباك بين القوات الأمريكية وفصائل “المقاومة الإسلامية في العراق”.
وسيضع الهجوم إدارة بايدن تحت ضغط هائل في الداخل، وبخاصة بعد أن أظهر الهجوم عدم جدوى استراتيجية الردع التي تنتهجها بايدن تجاه إيران ووكلائها. تعتقد واشنطن أن الهجوم يحمل بصمات إيران، وهي تعهدت بالرد. وبينما برزت دعوات من سياسيين جمهوريين إلى شن هجمات مُباشرة على إيران، فإن توجيه ضربة أمريكية مباشرة على الأراضي الإيرانية يبدو أمراً غير مرجح في هذا الوقت، وبخاصة بعد تأكيد مسؤولين أمريكيين أن واشنطن لا ترغب في إشعال حرب مع إيران. وفي الوقت الذي سلّط فيه آخرون الضوء على إمكانية قيام واشنطن بعمل سري ضد طهران، إلّا أن العمل السري لن يخدم الحكومة الأمريكية الحالية وإدارة بايدن التي تهدف إلى إبراز القوة الأمريكية وردع إيران عن الانخراط في عدوان عسكري. لذا من المتوقع أن تتخذ الولايات المتحدة تدابير عسكرية ودبلوماسية واقتصادية تجاه أصول إيران ووكلائها في العراق، ما يعني أن التصعيد بين الجانبين سيزداد على الساحة العراقية.
الاستنتاجات
تُعَدُّ المحاولة الحالية لطرد الأمريكيين من العراق مختلفة عن أي محاولات سابقة، إذ تتخذ المحاولة الراهنة في كثير من الجوانب طابعاً إيرانياً، فطهران بحاجة ماسة إلى استخدام انخراطها مع وكلائها في العراق لدعم سردية المقاومة في ضوء الحرب الإسرائيلية على “حماس” وغزة منذ السابع من أكتوبر 2023. وفي الوقت الذي قد يجمع فيه الخطاب الإيراني بين العراق وغزة، فإن هدف طهران الحقيقي يقع داخل العراق الذي يُعد المكان الوحيد الذي يمتلك فيه وكلاء إيران القدرة والإرادة على ضرب المصالح الأمريكية مباشرة.
وبهذا، يبدو من غير الدقيق تحميل الحرب الإسرائيلية على غزة وحدها مسؤولية التصعيد الأمريكي-الإيراني في العراق، إذ يُمثل العراق ساحة للاستعراض وتوجيه الرسائل بين الولايات المتحدة وإيران، وتأخذ إيران مسألة الوجود الأمريكي في العراق على محمل الجد أكثر من أي شيء آخر. وستستمر دورة التصعيد هذه ليس للضغط على الأمريكيين فحسب، بل لتشكيل المشهد السياسي العراقي أيضاً. إذ تسعى إيران إلى تعزيز سيطرة “الإطار التنسيقي” على السلطة في العراق، والضغط على الولايات المتحدة للرحيل عن البلاد دون الانفكاك عنها تماماً، وبالتالي جعل “الإطار التنسيقي” الكيان القوي الوحيد في العراق وتهميش الفاعلين الآخرين.
وقد لا تنجح إيران في تحقيق هدفها بالكامل، لأن واشنطن لن تبدأ المباحثات طالما استمرت هجمات الميلشيات الموالية لإيران على القواعد والأصول الأمريكية، إضافة إلى أنها لن تغادر العراق تحت الضغط. ومع ذلك تمكنت طهران من إضعاف الأحزاب والمجموعات التي لم تتمكن من إخضاعها بالكامل، مثل “الحزب الديمقراطي الكردستاني” والتيار الصدري، وتقييد الدبلوماسيين الأمريكيين ووضع القوات الأمريكية في العراق في حالة تأهب، الأمر الذي يؤدي إلى تقليص عملياتهم. وفي المقابل، قد تسعى الولايات المتحدة للبقاء في العراق من خلال إجراء تعديلات على الاتفاق الاستراتيجي الموقع بين الدولتين، لكنَّ واشنطن تفقد سمعتها وهيبتها في العراق بسرعة، الأمر الذي ينطوي على تأثير سلبي على قوتها الناعمة.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/alwilayat-almutahida-fi-aliraq-ainsihab-min-dun-fak-airtibat