حسين أحمد آل درويش
خـرج –الشعب الياباني– من الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، منهزمـًا محطّم القوى.. بـعد إصابته بالقنبلة الذريـّة في مدينتي هيروشيما وناكازاكي.. وكانت خسائرهم البشرية.. تقدر بمليونين وثمانين ألف إنسان وخسائرهم الاقتصاديـة تزيد على 562 مليار دولار.
وحينما قرر الإمبراطور الياباني وحكومته الاستسلام، انتحر آلاف الضباط.. تألمـًا واحتجاجًا وفرضت عليهم شروط وجود قواعد أمريكية، وعدم عسكرة اليابان، وأن يكون جيشهم بحجم حـاجتهم الداخـلية.
لـقد كان هذا الظرف قاهرًا ومفروضًا عليهم، ولا يستطيعون مواجهته بالقوة، لكنّهم لم يستسلموا لليأس والقنوط، ولم تسيطر عليهم حالة الإحباط، ولم ينشغلوا باجترار الغبن، والبكاء الدائم على مصائبهم، بل سارعوا بعد تسعة أشهر من انتهاء الحرب إلى تشكيل مجلس أعلى قرّر البدء -بالإصلاح الشامل- واتجهوا صوب التعليم، ونحو التصنيع التكنولوجي وحفزوا الهمم في أنفسهم، واجتهدوا في تفجير كفاءاتهم ومواهبهم، وأسّسوا مجالس منتخبة لتطوير المدارس واستيعاب أكبر قدر من الطلاب، فكان من نتائج ذلك ما يلي:
أصبح الطفل الياباني في الرابعة عشر من عمره، يتلقى تعليمًا لا يتلقاه الأمريكي إلا في الثامنة عشر من عمره،وتتراوح أيام الدراسة في اليابان 220 يومًا، بينما هي في أمريكا 180 يومًا، وبينما يحقق الطالب الأمريكي والأوروبي 100 نقطة في اختبارات الذكاء، فإن الطالب الياباني يحقق 117 نقطة.
أمـّا على الصعيد الاقتصادي.. فإنّ الدخل القومي لليابان سنة 1951م، كان يعادل ثلث الدخل القومي لبريطانيا، ونصف دخل أمريكا، وفي سنة 1990م، أصبح بمقدار ثلثي دخل أمريكا وثلاثة أضعاف دخل بريطانيا!!!
وأصبحت اليابان أغنى دولة في أصولها المالية والعقارية، حيث وصلت ثروتها في المجال إلى 43 تريليون دولار، بينما تقدر ثروة أمريكا في ذات المجال 36 تريليون دولار (1).. فالمواطن الياباني.. يعمل 2201 ساعة.. كمعدل سنوي عام 1990م.. بزيادة 300 ساعة عن العامل في الولايات المتحدة الأمريكية (2).
عندما تمتلك الأمم والشعوب الواعية.. أهدافًا محددة، ورؤى واضحة، تجعلها تحقق أهدافها..وما تفوق أحلامها.. تكون أكثر تركيزًا نحو الهدف المحدّد.. أكثر عزيمةً وإصرارًا على مواجهة التحديات و الأزمات والمؤامرات.
لقد استطاع -الشعب الياباني- أن يعيد إلى نفسه وإلى بلاده.. الكرامة الوطنية ويعيد الازدهار الاقتصادي والتكنولوجي.. قرّروا أن يضعوا أهدافهم وخططهم ويتحدّوا الظّروف والعقبات.. في الخمسينيات كان همّهم وتفكيرهم أن يصبحوا –الأمة الأولى– في إنتاج النسيج.. فبلغوا الهدف.
وفي سنة 1960، عقدوا اجتماعا آخر، وقالوا: ما هو هدفنا.. في هذا العقد؟؟؟ فقرروا تحقيق الحلم المستحيل!!! قالوا.. لنصبح الأمة الأولى في إنتاج الفولاذ.. لماذا كان هذا الهدف مستحيلًا؟؟؟ لأن اليابان لا تملك الموارد الطبيعية، فلا فحم ولا نفط ولا حديد خام، كان عليهم استيراد الموارد الطبيعية والمواد الخام مسافة آلاف الأميال إلى أراضيهم، وبناء معامل الفولاذ المتطورة، وتصنيع فولاذ من الدرجة الأولى، وإعادة شحنه مسافة آلاف الأميال، ثم بيعه بسعر تنافسي.. حلم مستحيل تمامـًا.. لكنّهم لم ينظروا إلى ما لا يملكونه بل نظروا إلى ما لديهم من إرادة العمل.. فبلغوا الهدف.
وفي سنة 1970، عقدوا اجتماعًا آخر، وقالوا.. لنحدّد هدف هذا العقد، نريد أن نصبح -الأمة الأولى- في إنتاج السيارات. فبلغوا الهدف. وفي سنة 1980 م، قالوا: في هذا العقد لنصبح -البلد الأول- في إنتاج الإلكترونيات والكمبيوتر. فبلغوا الهدف.. إنـّه سحر الأهداف والرؤية الواضحة للجميع (3).
وأخيرًا.. أصبحت اليابان في وقت قياسي بعد الحرب.. دولة متقدمة علميًا وصناعيًا وتكنولوجيًا.. تمتلك فائضًا ماليًا ضخمًا.. صناعاتها تغزو جميع أسواق العالم بأسره.. والسر في ذلك هو حب اليابانيين للعمل وإخلاصهم للوطن.. وفي هذا السياق.. قال الدكتور “مهاتير محمد” رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، وقائد نهضتها الاقتصادية، أنه تعلم من التجربة اليابانية أخلاقيات العمل والتي تلعب دورًا حاسمـًا.. في نهضة الشعوب، ومن أبرز سـماتها ما يلي: (الشعور بالوطنية والانتماء والفخر والولاء الكامل.. الاجتهاد والإخلاص في العمل.. والشراكة بين أصحاب العمل والعاملين لديهم، وإنصافهم بالأجور وساعات العمل ورعاية أسرهم.. والالتزام الكامل بقوانين وأنظمة العمل -بدقة تامة- حسب التعليمات المتبعة) (4).
……………………………….
لقراءة المزيد في هذا المجال، يمكنكم الرجوع إلى المصادر:
1- الشيخ حسن موسى الصفار: بناء الشخصية ومواجهة التحديات (ص 118، 119).
2- جريدة عكاظ السعودية: الـعـدد 9501 (ص 14).
3- سعد سعود الكريباني: كيف أصبحوا عظماء: (ص 27، 28).
4- الإنترنيت: الموقع الإلكتروني (www.al-mugtama.com/ magazine) موضوعه: قراءة في مذكرات مهاتير محمد، بقلم: محمد محمود.
رابط المصدر: