د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
دأبت المجتمعات الإنسانية على إلزام البعض بأداء اليمين وجعل الإنسان بمواجهة معتقداته وضميره لضمان الالتزام أو الصدق في الحديث أو العمل، فهو التزام قانوني حين يرد النص عليه في القانون أو الدستور بوجوب أداء عمل ديني معين واتخاذ الله سبحانه وتعالى شاهدا على صدق الحديث والوعد بالوفاء بالتعهد واستحقاق العقاب القانوني والأخروي في حال الحنث باليمين.
ويعد اليمين شرطاً أساسياً لمباشرة المهام فمن ينتخب لعضوية مجلس تمثيلي أو منصب رفيع في الدولة في الغالب يشترط أداءه يمين معين قبل المباشرة بالمهام والواجبات، وهذا ما تضمنه الدستور العراقي للعام 2005 وبعض الدساتير والقوانين حيث اشترطت على الحاكم وبعض من يشاركه في ممارسة السلطة على الجانب التشريعي أو التنفيذي أو القضائي إن يؤدي كلُ منهم اليمين، وما تقدم تقليد قديم عرفته المجتمعات البشرية منذ مئات السنين، حيث يقسم اليمين إلى أنواع منها (يمين الولاء للوطن حيث يتطلبه منح الجنسية للمتجنس الأجنبي، وكذا من يتسلم منصباً) و (يمين الصدق والذي يتم تطلبه من الشاهد أمام المحكمة أو من شخص ما لتتم تبرأة ساحته أحياناً).
ولا يقتصر الأمر على ما يرد في الدستور بل يكمل ذلك القوانين العادية فعلى سبيل المثال قانون المحافظات العراقي رقم (21) لسنة 2008 أشترط بالمادة (29) على المحافظ وعلى عضو مجلس المحافظة أيضاً أداء يمين قانوني معين قبل المباشرة بالمهام الموكلة إليه وفي السابق كان كبير رجال الدين في البلد يرأس الجلسة التي تتم فيها تأدية اليمين أو على الأقل بحضوره، والأمر أصابه التطور ليصل الآن إلى أداء اليمين أمام كبير القضاة أو رئيس وأعضاء المحكمة العليا في البلد.
ولقد تواتر النص بشكل صريح على اليمين في الوثائق الدستورية والقانونية العراقية وسنعطي بعض الأمثلة التطبيقية على ما تقدم:
أولاً: القانون الأساسي العراقي 1925:
إذ تضمن النص صراحة على وجوب أداء اليمين في موارد عدة أهمها ما ورد في المادة الحادية والعشرون منه التي تضمنت الآتي “يقسم الملك أمام مجلس النواب والأعيان، اللذين يلتئمان برئاسة رئيس مجلس الأعيان، يمين المحافظة على أحكام القانون الأساسي، واستقلال البلاد، والإخلاص للوطن والأمة، على أثر تبوئه العرش”، والنص المتقدم فيه من الإلزام الأدبي والديني والقانوني للملك الشيء الكبير فالملك قبل تولي السلطة يقسم بالمحافظة على القانون الأساسي والأخير تضمن باباً هو الأول المعنون بـ(حقوق الشعب) ليس هذا فقط بل تضمنت المادة الحادية والخمسين تأكيداً على أهمية القسم بالنسبة لأعضاء مجلس الأمة (النواب والأعيان) حيث ألزم القانون هؤلاء بضرورة ذلك بالنص على أنه “على النواب والأعيان، قبل الشروع في أعمالهم، أن يقسم كل منهم أمام مجلسه يمين الإخلاص للملك، والمحافظة على القانون الأساسي، وخدمة الأمة، والوطن، وحسن القيام بواجب النيابة” وفيما عدا الإخلاص للملك الفقرات الأخرى كلها تتعلق بحقوق الإنسان العراقي وتعد ضمانات، مهمة تلزم النائب إن لا يصدر عنه أي فعل أو قول من شأنه إن ينتقص من حقوق المواطن.
ثانياً: الدساتير والإعلانات الدستورية الجمهورية قبل العام 2003:
نلفت العناية إلى إن هذه الدساتير الغاية منها كان توطيد أركان النظم السياسية الاستبدادية الحاكمة ولم يلتفت واضعها إلى حقوق الإنسان فعلى سبيل المثال ورد في الدستور العراقي للعام 1970 إلزام في المادة التاسعة والثلاثون بأن يؤدي رئيس وأعضاء مجلس قيادة الثورة المنحل يمين تخلو عباراته من أي الإشارة صريحة للالتزام بحماية الحقوق والحريات نعم هنالك إشارة ضمنية لكنها ليست جامعة مانعة إذ جرى نص المادة بالشكل الآتي: “أقسم بالله العظيم وبشرفي ومعتقدي أن أحافظ على النظام الجمهوري،..، وأن أرعى مصالح الشعب وأصون استقلال العراق وسلامته ووحدة أراضيه وأن أعمل بكل تفان وإخلاص للحفاظ على كرامة الشعب وعزته وسعادته، وتحقيق أهداف الأمة”، فأين الكرامة من نظام استبدادي تفنن بامتهان كرامة الإنسان العراقي وسحقها بشتى السبل.
ثالثاً: بعد العام 2003:
1- قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية2004: حيث ورد في ملحق القانون الذي أصدره مجلس الحكم في العام ذاته أنه ” يؤدي أعضاء الحكومة المؤقتة اليمين أمام أعلى سلطة قضائية في العراق”، كما تضمن النظام الداخلي للجمعية الوطنية صيغة يمين قانوني يؤديه رئيس وأعضاء مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء والجمعية الوطنية ورد فيه “أقسم بالله العظيم أن أؤدي مهماتي ومسؤولياتي القانونية بتفان وإخلاص…. وأعمل على صيانة الحريات العامة والخاصة…”.
2- أما دستور جمهورية العراق للعام 2005 النافذ فقد تضمن النص في المادة الخمسين منه على صيغة اليمين الآتية “أقسم بالله العلي العظيم أن أؤدي مهماتي ومسؤولياتي القانونية بتفانٍ وإخلاص وان أحافظ على استقلال العراق وسيادته، وأرعى مصالح شعبه واسهر على سلامة أرضه وسمائه ومياهه وثرواته ونظامه الديمقراطي الاتحادي وان اعمل على صيانة الحريات العامة والخاصة واستقلال القضاء والتزم بتطبيق التشريعات بأمانة وحياد، والله على ما أقول شهيد”.
3- وأشار قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 إلى صيغة يمين يلتزم بأدائها المحافظ وعضو مجلس المحافظة جاءت وفق الآتي “أقسم بالله العلي العظيم أن أحافظ على العراق، وأصون مصالحه وسلامته، وان أرعى مصالح الشعب، واحترم الدستور والقوانين، وأرعى شؤون المحافظة، وأن أؤدي عملي بإخلاص وصدق وأمانة وحياد، والله على ما أقول شهيد” والنص المتقدم واضح العوار فلم يشر إلى وجوب احترام الحقوق والحريات الفردية رغم خطورة القرارات التي تصدر عن مجلس المحافظة أو المحافظ لاسيما تلك المتعلقة بالحقوق والحريات.
من النصوص أعلاه نلاحظ أن المشرع يشير إلى مصطلح الحريات العامة والخاصة والسؤال أين الحقوق؟ أقصد حقوق الإنسان ونشير إلى إن جانباً من الفقه الدستوري متفق على إن النصوص المتقدمة لاسيما النص الدستوري 2005 يحمل إشكالية ليست بالهينة فلماذا أسقطت كلمة الحق والدستور نفسه عنون الباب الثاني بـ(الحقوق والحريات) والمشرع الدستوري أطلق كلمة الحرية ولم يفصل بين حرية خاصة وعامة لذا كان النص المتقدم في اليمين الدستوري محل إشكال.
وعود على بدء نقول إن اليمين الدستورية يشتمل على عناصر مهمة هي:
1- الالتزام القانوني الممتزج بالديني والأخلاقي أمام الشعب: فمن الواضح إن الأنظمة الديمقراطية تجعل للشعب مركز دستوري متميز يتمثل بكونه المالك الحقيقي للسيادة والمتحكم بها وهو من يختار من سيمارسها نيابة عنه، ولابد لمن يتوب إن يكون على قدر حمل الأمانة ويكون على جانب كبير من الصدق والإخلاص.
2- أداء الالتزامات النيابية أو الوظيفية بأمانة وحياد: فمن نافلة القول ان هنالك علاقة بين الناخب والنائب تتجلى بضرورة تمثيله للجمهور دائرته التي انتخب منها بشكل موضوعي ليكون على قدر الثقة التي أودعت به.
3- احترام الدستور والتشريعات: فما تقدم هو معيار مشروعية الأعمال والتصرفات التي تصدر عن النائب أو المسؤول الحكومي وايما مخالفة تثير مسؤوليته الوظيفية والشخصية فضلاً عن السياسية أمام جمهور ناخبيه.
4- احترام مضامين العقد الاجتماعي: فمن المفترض ان أفراد الشعب ارتضوا طريقة للعيش في ظل نظام سياسي حاكم وحددوا بشكل طوعي متفق مع صحيح إرادتهم شكل الدولة ونظام الحكم فيها فقد تكون الدولة فدرالية أو بسيطة ملكية أو جمهورية…الخ.
كما ولا يفوتنا التنويه إن مخالفة أصول النيابة التمثيلية أو التنفيذية سيثير العديد من النتائج أخصها، إن يحترم المسؤول التشريعي أو التنفيذي إرادة الشعب (الإرادة العامة) وان يحرص على تحقيق مصالح الشعب، وبالرجوع إلى الدستور العراقي نجد بعض الإشارات التي تعزز ما تقدم ومنها على سبيل المثال ما ورد بالمادة الثانية من الدستور والتي قضت بأن “الإسلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع.
أ- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.
ب- لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
ت- لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور”
وبالتالي لا يمكن ان نتصور إن النائب يقترح أو يصوت على مشروع قانون أو قرار نيابي من شأنه إن يتعارض مع الإسلام وأحكامه العامة، أو بما يتناقض مع النظام الديمقراطي فيكرس سلطة شخص أو حزب أو فئة معينة أياً كان ما تتمتع به من ثقل اجتماعي أو ديني، أو بما يتعارض مع الحقوق والحريات العامة والخاصة، من جانب أخر يعد رئيس الجمهورية ورئيس وأعضاء مجلس الوزراء وكذا النواب من العاملين بالدولة والممثلين لإرادتها لذا يقسمون يمين الولاء والإخلاص وهم مؤتمنون على مصالح الشعب، إذ أخذ العراق بالديمقراطية النيابية بالنص في المادة الخامسة على أنه “السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية” ويتضح مما سبق كالشمس وضحاها ان من تقدم وصفهم ملزمين بحكم إنهم يمثلون الشعب ويمارسون السلطة باسمه ونيابة عنه بحماية وتعزيز الحقوق والحريات الشعبية وللتوثيق واستكمال بناء المسؤولية ألزمهم الدستور بأداء اليمين الدستوري.
وحين يتناقضون مع ما أقسموا عليه اليمين الدستورية ستثار مسؤوليتهم السياسية أمام الشعب بالدرجة الأساس فتتم محاكمتهم عن جريمة الحنث باليمين الدستورية التي أشار إلها الدستور العراقي بالمادة (61/سادساً) حين تناول مسؤولية رئيس الجمهورية وقرر إمكانية إعفائه من منصبه بقرار من البرلمان يتخذ بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، ولزيادة التحوط وخشية التعسف الزم الدستور بمحاكمة قضائية للرئيس أمام المحكمة الاتحادية العليا بموجب المادة (93) التي حددت إذ ورد النص بأن “سادساً: الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء” ووجه النقص أو القصور الذي شاب المعالجة الدستورية المتقدمة إن الدستور لم يقرر إمكانية مساءلة عضو البرلمان عن جريمة الحنث باليمين على خلاف ما بينه الدستور العراقي الملغى للعام 1970 والذي قرر إمكانية مساءلة النائب في المجلس الوطني عن الحنث باليمين الدستورية في المادة السادسة والخمسين منه بالنص على أنه “رئيس المجلس الوطني وكل عضو فيه مسؤول أمام المجلس عن خرق الدستور أو عن الحنث بموجبات اليمين الدستورية….”.
وما تقدم يحدونا إلى دعوة مجلس النواب العراقي إلى تضمين قانون مجلس النواب رقم (13) لسنة 2018 نصاً يجيز مساءلة العضو الذي يرتكب فعلاً يتنافى مع مقتضيات اليمين الدستوري الذي أقسمه لحين إجراء التعديل على دستور 2005 وتضمين ما تقدم في صلب المادة (61) والمادة (93) فغير كاف النص الوارد بالمادة (11/رابعا) من قانون المجلس المشار إليه أعلاه التي اعتبرت التخلف عن أداء اليمين بدون عذر مشروع غياباً عن حضور الجلسة، بل ينبغي المساءلة عن ذلك وعن انتهاك مضامين اليمين والواجبات التي تضمنها وأخصها تمثيل الأفراد ممن انتخبوه حماية لحقوق الشعب عامة وهؤلاء خاصة.
.
رابط المصدر: