واشنطن- اليمين المتطرف أو المتشدد ليس مصطلحا جديدا في الحياة السياسية الأميركية، لكنه شهد الكثير من البروز في الحيز العام في السنوات الأخيرة بعدما كان هامشيا بسبب تأثيره المحدود في السياسة. في العادة كان الاهتمام بهذا اليمين أمني الطابع، إذ اعتاد مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)، متابعة أنشطة الكثيرين من المنتمين لأوساط هذا اليمين بسبب استعداد بعضهم لتحويل أفكارهم المتطرفة إلى عنف كما في تفجير المبنى الاتحادي في مدينة أوكلاهوما عام 1995 وأدى لمقتل 168 شخصا.
مع نيل دونالد ترمب ترشيح الحزب الجمهوري سنة 2016 لخوض الانتخابات الرئاسية ضد هيلاري كلينتون عن الحزب الديمقراطي، أصبح الحديث عن اليمين المتطرف أمرا معتادا ومثيرا للاهتمام، ليتصاعد هذا الاهتمام كثيرا بعد “صدمة” فوز الرجل في الانتخابات الرئاسية بخلاف جميع التوقعات تقريبا، من ضمنها توقعه الشخصي نفسه. ضاعفت نتيجة الانتخابات الاهتمام الإعلامي والأكاديمي باليمين المتطرف كظاهرة أكثر انتشارا في الحياتين الاجتماعية والسياسية الأميركيتين لجهة الأفكار والمخاوف، مما توقع الكثير من الباحثين والسياسيين والصحافيين. لكن ما هو اليمين المتطرف؟
يطلق أصحاب هذا النوع من التفكير عادة على أنفسهم تسمية “المحافظين”. وهي التسمية الأكثر انتشارا لطيف واسع من الأفكار والممارسات والجماعات. اليمين المتطرف جزء واحد فيها فقط (يرفض كثير من المحافظين التقليديين إلحاق اليمين المتطرف بهم). كما يشير جذر كلمة “المحافظين” بمعناه المرتبط بالحفاظ والاحتفاظ، يؤمن “المحافظون” كفهم فكري- سياسي للعالم، عموما بـ”الثوابت” التاريخية وضرورة الحفاظ عليها حتى مع السماح ببعض التحديث فيها على نحو لا يخل بجوهرها، باعتبار أن هذه “الثوابت” نشأت وتطورت عبر أزمنة طويلة، واجتازت بنجاح اختبارات الزمان والمكان.
من أهم هذه الثوابت الدين والعائلة والجماعة، والتقاليد “الإيجابية” الناشئة من هذه كلها، التي يعتقد المحافظون أنها تتحول إلى مصادر أخلاقية وعُرفية تمنع الإنسان من “الانحراف” وتُحصنه أخلاقيا ضده (الانحراف) وتزوده بالقيم الروحية والاجتماعية التي تؤهله للنجاح في الحياة واتخاذ الخيارات الصحيحة فيها وبالتالي الاستمتاع بها.
مؤسساتيا، ينظر المحافظون باحترام إلى السلطة التي يعدونها شرعية (سلطة العائلة، الدين، المجتمع، الدولة)، ويؤمنون بشدة بحرية الاقتصاد، أي تقليل تدخل الدولة فيه إلى أقصى حد ممكن، والتنافس الاقتصادي الحر بين الأفراد كسبيل لتحقيق النجاح والسعادة.
يؤمن اليمين المتطرف في أميركا بالانعزالية وانسحاب الولايات المتحدة من الشؤون العالمية والنظر بريبة إلى التعاون الدولي
على الطرف الآخر، يقف الليبراليون برؤية مختلفة تميل أكثر إلى تبني التغيير، بعيدا عن “الثوابت” التاريخية التي ينبغي أن تخضع لإصلاح وتجديد مستمرين على أساس الظروف المحلية والحاجات الفردية والجماعية، مع تأكيد هذه الرؤية على “ثوابت” أخرى مختلفة تتعلق بالحرية الفردية وكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية والأصيلة غير القابلة للانتزاع. وتركيزها أكثر على الضمير الفردي في التشكيل الأخلاقي للمرء من التأثير الجماعي سواء الديني أو العائلي أو الاجتماعي.
ومع إيمانهم بأهمية التنافس الاقتصادي بين الأفراد، يؤمن الليبراليون بأن للدولة دورا ضروريا في تنظيم هذا التنافس ومساعدة الأشخاص الفقراء والأقل حظا في خوض هذا التنافس.
التمثل الحزبي الأبرز لليبرالية الأميركية هو الحزب الديمقراطي، فيما يمثل الحزب الجمهوري التمثل الأبرز للمُحافظة (ثمة نقاط التقاء نسبية بين الطرفين في سياق الاختلاف الفكري بين الاثنين في تفسير الأشياء).
يخرج اليمين المتطرف عن القيم العامة للمحافظين، فمثلا يتحول إيمانه بالجماعة إلى تبجيل مفرط لها، بافتراض أنها هوية واحدة وصلبة وفريدة بتفوقها واعتبار أنها مهددة من الجماعات أو “الهويات” الأخرى التي تتعرض إلى الشيطنة، كما في كراهية اليمين المتطرف للمهاجرين واعتبارهم خطرا (مثلا تصريح ترمب مؤخرا بأن المهاجرين يسممون دم أميركا ومنهم يأتي المجرمون)، ورفض التنوع والارتياب فيه، بوصفه إضعافا للهوية التي غالبا ما تتشكل من خليط من قيم دينية مسيحية وعرقية بيضاء.
ورغم إيمانه الشديد بالدولة، فإن اليمين المتطرف عادة يعتبر أن هذه الدولة اخُتطفت وشوهت لصالح أغراض “مشبوهة” من جانب القوى الليبرالية أو المحافظين المزيفين، وبالتالى لا بد من استرجاعها و”تحريرها” من قبضة هؤلاء. هنا يبدأ غزل اليمين المتطرف مع العنف واستعداده للانخراط فيه لأغراض “نبيلة” ذات طابع عام وليس شخصيا (كما في محاولة أنصار ترمب اقتحام مبنى الكونغرس في السادس من يناير/كانون الثاني 2021 لمنع تصديق نتائج الانتخابات الرئاسية التي خسرها الرجل لصالح الرئيس الحالي جو بايدن على أساس أن هذه الانتخابات مزورة وبالتالي يصبح استخدام العنف مبررا لتصحيح “خطأ” الدولة).
في مجال السياسة الخارجية، يؤمن اليمين المتطرف بالانعزالية وانسحاب الولايات المتحدة من الشؤون العالمية والنظر بريبة إلى التعاون الدولي سواء عبر مؤسسات الأمم المتحدة أو عبر التفاهمات والاتفاقات الإقليمية على اعتبار أن المنظومة الدولية الحالية تقوم على سرقة الموارد الأميركية وإشغال الولايات المتحدة بهموم ومشاكل عالمية مزيفة أو مبالغ فيها على حساب اعتنائها بالأميركيين كشعب.
ساهمت الحرب الباردة في بروز البعد الديني لبعض حركات اليمين المتطرف، بوصف أميركا بلدا بروتستانتيا مؤمنا وحاميا للإيمان إزاء الإلحاد الشيوعي
ويقف اليمين المتطرف ضد العولمة ويتهمها بتقويض الهوية الأميركية الأصيلة من الناحية الثقافية، ومن الناحية الاقتصادية وتقويض مصالح الأميركيين العاديين الذين يفقدون أعمالهم لصالح مواطني دول أخرى.
في هذا التفسير اليميني المتطرف للولايات المتحدة والعالم، ثمة الكثير من اللجوء للتفسيرات المؤامراتية التي يُرَوَّج لها عبر أدوات إعلام منخفضة المصداقية (كما في منظومة محطات الراديو اليمينية الواسعة الانتشار والتأثير لدى جمهور اليمين) مقابل الارتياب العميق بما يصدر من وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث المعروفة في الحيزين العام والمتخصص.
يمكن تتبع نشوء اليمين المتطرف على نحو مؤسسساتي ومنتظم إلى الحرب الأهلية الأميركية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي انتهت بخسارة ولايات الجنوب وإلغاء منظومة العبودية، الأساس الاقتصادي لهذه الولايات الزراعية ذات التوجه الاجتماعي المحافظ. برز من هذه الخسارة الكبرى- بما انطوت عليه من تعديل الدستور الأميركي لتفكيك العبودية ومنح حقوق المواطنة والانتخاب للسود- رد فعل عنيف تمثل في تشكيل منظمة “كو كلوكس كلان” (Ku Klux Klan) المشهورة أميركيا بأحرفها الأولى (KKK) التي أنشأ نسختها الأولى- بعد الحرب مباشرة في 1865- مقاتلون في جيش الجنوب الذي تم حله.
تخصصت هذه المنظمة في استهداف الناشطين السود والبيض المؤيدين لهم عبر أعمال عنف غرضها منع دمج السود في المجتمع الأوسع ودخولهم في مؤسساته السياسية خصوصا والحفاظ على التفوق “الطبيعي” للبيض كعرق. أدى اعتبار الحكومة الأميركية هذه المنظمة حركة إرهابية في 1871 بقانون من الكونغرس وتعقبها قضائيا، خصوصا في معقلها الأقوى ولاية ساوث كارولينا، إلى إضعاف وتفكيك نسختها الأولى على مدى السنوات التالية. برزت في نسختها الثانية بداية القرن العشرين، حتى في بعض ولايات الشمال كحركة وطنية أصلانية تريد إعادة أميركا “الأصلية” السابقة التي فُقدت بخسارة الحرب الأهلية، أي أميركا بروتستانتية تتمحور حول السيادة البيضاء (White Supremacy) وركزت على معاداة السود والكاثوليك واليهود، بوصفهم كائنات أدنى تلوث النقاء والتفوق الأميركيين، قبل أن تركز جهودها تاليا، في نسختها الثالثة تقريبا في خمسينات القرن العشرين، ضد حركة الحقوق المدنية للسود. لا تزال الـ”KKK” موجودة في ولايات أميركية كثيرة، لكن بنشاط عام أقل بكثير من السابق.
وهناك منظمات أخرى عديدة- بعضها محلي جدا- تتشارك في قيم اليمين المتطرف وإن كانت أقل أهمية وتأثيرا من الـ”KKK”، كالحزب النازي الأميركي الذي ازدهر بين الأميركيين من ذوي الأصول الألمانية في ثلاثينات القرن العشرين قبل أن يختفي إبان الحرب العالمية الثانية والعقد الذي تلاها، قبل أن يعود في نهاية الخمسينات.
وساهمت الحرب الباردة التي بدأت نهاية الأربعينات ووضعت الولايات المتحدة في مواجهة عالمية ومفتوحة ضد الاتحاد السوفياتي، في بروز البعد الديني لبعض حركات اليمين المتطرف، بوصف أميركا بلدا بروتستانتيا مؤمنا وحاميا للإيمان إزاء الإلحاد الشيوعي، والبعد الميليشياوي في حركات مسلحة محلية كانت ترى نفسها حامية للولايات المتحدة في حالة حصول غزو سوفياتي لها تفشل القوة العسكرية الأميركية في صده.
في أجواء يهيمن عليها القلق الاقتصادي، تزدهر مقولات شعبوية، جذابة خطابيا، لكنها فقيرة معرفيا ولا تستطيع الصمود أمام التحليل المنطقي الرصين للوقائع
ومع ذلك، بقيت كل هذه الحركات اليمينية المتطرفة على الهامش لجهة التأثير السياسي. ويغلب النظر إليها من عموم المجتمع الأميركي على أنها حركات متشددة ومعزولة في عوالمها الخاصة التي تكثر فيها التفسيرات المؤامراتية.
ومع بروز ترمب، وفوزه في انتخابات 2016 تغير المشهد تغيرا كبيرا وأصبحت هذه الحركات مثار قلق الكثيرين في الحيز العام، خصوصا مع التأكيد المتزايد لهذه الحركات على وجودها واندماجها السياسي في رئاسة ترمب. مع ذلك ليس صائبا افتراض أن هذه الحركات تشهد اتساعا لافتا أو أنها هيمنت على رئاسة ترمب السابقة وستفعل الشيء نفسه في إطار رئاسة مقبلة محتملة له.
واقع الحال أن خطابا معينا ومحددا تبناه اليمين المتطرف مبكرا انسجم مع حاجات ومصادر قلق قطاعات شعبية واسعة هي نفسها ليست يمينية متطرفة، لكن بسبب تضرر مصالحها وجدت هذه القطاعات في هذا الخطاب ما ينتبه لمصالحها المهددة ويقدم حلولا لها، عادة ما تكون تبسيطية ومغلوطة. فعلى سبيل المثال، تُقدم الهجرة غير الشرعية، خصوصا من الحدود الجنوبية للبلاد، على أنها خطر جسيم يهدد أميركا لجهة تصاعد نسب الجريمة واستنزاف الموارد المحلية للإنفاق على هؤلاء المهاجرين والمنافسة على فرص العمل. كما تُقدم العولمة الاقتصادية التي أفادت أميركا كثيرا على أنها السبب وراء إفقار عمال مصانع عديدة في المدن الصغيرة المحافظة، التي تمثل الكثير منها معاقل تقليدية للحزب الجمهوري، من الذين فقدوا أعمالهم بعد انتقال مصانع أميركية كثيرة إلى دول آسيوية وأميركية لاتينية تكون فيها كلف الإنتاج منخفضة.
في أجواء كهذه يهيمن عليها القلق الاقتصادي، تُربط تعسفيا مشاكل السوق والعرض والطلب واكتساب المهارات، بتهديد مفترض للهوية، لتزدهر عبر هذا الربط المضلل، لكن التبسيطي والمريح، مقولات شعبوية، جذابة خطابيا، لكنها فقيرة معرفيا ولا تستطيع الصمود أمام التحليل المنطقي الرصين للوقائع.
في مواسم انتخابية ساخنة وسريعة يقودها صراع الشخصيات وليس حوار الأفكار، تصعب مواجهة هذه المقولات وتفكيكها.
هنا تكمن قوة ترمب السياسية على المستوى الشعبي، إذ يستخدم الرجل مقولات اليمين المتطرف لمصلحته الانتخابية ليعطي هذا اليمين حجما سياسيا أكبر بكثير من حجمه الفعلي في الواقع.
المصدر : https://www.majalla.com/node/319001/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%B5%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%88%D9%81-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AF%D9%88%D9%86%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8