اجريت انتخابات مجالس المحافظات في العراق يوم 18/12/2023 للتصويت العام وسبقها بيومين اجراء التصويت الخاص للقوات الامنية والنازحين، وأعطت حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني الأولوية لإجراء انتخابات مجالس المحافظات منذ صدور قرار المحكمة الاتحادية العليا عام 2021 الذي أكد دستورية هذه المجالس، في ظل اجواء تخوف من أن تعود المجالس في نهاية المطاف إلى شكلها السابق غير الفعال، خاصة أن الاحزاب والكيانات السياسية تواجه جمهوراً محبطاً لا يثق فيهم ويفتقر إلى الثقة في مؤسسات الدولة. وهذا انعكس على طبيعة المشاركة السياسية للناخبين والتعاطي مع الانتخابات برمتها، وسنعالج المعطيات الثلاث تباعاً:
اولا: المشاركة الانتخابية
شهدت هذه الانتخابات اقبالا متدنياً، رغم وصولها لنسبة 41٪ حسب مفوضية الانتخابات لكن هذه النسبة مبنية على اساس الناخب المحدث لبطاقة الناخب البايومترية، وهنالك اكثر من 9 مليون ناخب يحق لهم المشاركة لم يحدثوا بياناتهم ما يعني ان نسبة 41٪ لا تتجاوز 22٪ من مجموع الناخبين الكلي، باعتبار ان هنالك 59٪ لديهم بطاقة ناخب بايومترية بما يتجاوز 8 مليون ناخب قاطعوا الانتخابات، في مشهد يعكس تراجع الثقة السياسية للجمهور بالانتخابات برمتها وبالأحزاب والقوى السياسية فضلا عن مجالس المحافظات وطبيعة عملها ومهامها، اي ان من لم يشارك في هذه الانتخابات من مجموع الناخبين تجاوز 17 مليون ناخب مقابل (6 مليون ونصف) ناخب، اشتركوا فيها.
تزايد العزوف الانتخابي مرده الى مقاطعة التيار الصدري الذي يمتلك من الناخبين ما يصل الى اكثر من 800 الف ناخب قد يصل الى مليون من غير اضافة مواليد جديدة للانتخابات، اضافة الى عدم تصريح المرجعية الدينية في النجف نحو تعزيز المشاركة او الدفع باتجاه ذلك لأسباب تتعلق بعدم ثقتها الى حد كبير بالأحزاب والقوائم الانتخابية رغم ايمانها ان الانتخابات هي الحل الامثل للتعبير عن الرأي واسلم طرق التغيير السياسي، ولولا المشاركة الفاعلة للتصويت الخاص والتحفيز الانتخابي للمكون السني في المناطق السنية والمختلطة لتراجعت النسبة بشكل اكبر، اذ استغل المكون السني انسحاب التيار الصدري لشغل المقاعد في بغداد وديالى وصلاح الدين والموصل وكركوك، واجراء الانتخابات المحلية في الاخيرة اسهم ايضا في زيادة نسبة المشاركة بعد اكثر من 18 عام لآخر انتخابات اجريت فيها، شهدت هذه المحافظة زخماً انتخابياً عالياً حفزه التوزيع العرقي والقومي والطائفي الذي يميز طابع هذه المحافظة فضلا عن اعتبارها من المحافظات المتنازع عليها اساسا في الدستور والواقع السياسي والاقتصادي.
مسألة العزوف الانتخابي والمقاطعة السياسية وعدم الاكتراث بالسياسة برمتها طغت في مناطق الوسط والجنوب بشكل اكبر نتيجة ضعف الاداء الإنجازي سواء على مستوى الحكومات الاتحادية او مجالس المحافظات في السنوات السابقة، ورغم تحسن اداء الحكومة الحالية الا ان الجمهور الانتخابي يعتبر ان الماسك لها هي ذات القوى السياسية التي اخفقت في تقديم الخدمات والامن سابقا، وان رئيس الحكومة لازال جزء من هذه القوى وله حدود مرسومة في الاداء والتموضع السياسي.
مع ذلك شكلت هذه الانتخابات ديناميكية ايجابية تحسب للحكومة والقوى الماسكة لها بعد تعطيل دام اكثر من عشر سنوات، في ظل اجراءات واجواء سليمة ودستورية دون ضغوطات او طعون او مخالفات وتلاعب وتزوير، مع وجود بعض الاشكاليات المحدودة التي رافقت العملية الانتخابية دون تأثير، وهذه بحد ذاتها معطى ايجابي مهم لإعادة كسب الثقة بالانتخابات مستقبلا، كما شكلت المنافسة والدعاية الانتخابية والجمهور الحزبي وفاعليته معطيات مهمة عززت نجاح هذه الانتخابات رغم الملاحظات الواردة في هذا السياق، فلا زال المال السياسي موجود ولا زالت الدعاية الانتخابية مكلفة وغير عادلة ولا زالت طريقة التسويق الاعلامي والدعائي والترويجي تتضمن مخالفات لقانون الاحزاب السياسية وقانون مفوضية الانتخابات.
ثانياً: نتائج الانتخابات
جاءت النتائج متوقعة او مقاربة للتوقعات خاصة مع غياب التيار الصدري مع مفارقة ما حصل عليه حزب تقدم من اصوات ومقاعد جاءت بشكل مغاير لما ارادته القوى المخاصمة للحلبوسي اذ ارادت تسليط الضوء على ابعاده عن المنصب واستهدافه سياسيا واعلاميا لتقويض جمهوره ومقاعده والحاصل خلاف ذلك.
كرديا لم يحقق الحزبين الكرديين في كركوك والموصل وديالى الاصوات المتوقعة والتي سبق ان حصلوا عليها سابقا نتيجة شدة التنافس وتداعيات ما بعد استفتاء الانفصال التي لا زالت مخيمة على الواقع الانتخابي الكردي في المناطق المختلطة والمتنازع عليها بعد استبعادها من المواقع المهمة والتضييق الذي عانته في ممارسة العمل الحزبي فيها، وكذلك الانقسام السياسي بين الحزبين الكرديين اليكتي والبارتي والانشقاقات الداخلية لليكتي واضطراره التموضع مع الاطار التنسيقي لضبط التوازن السياسي كردياً.
افرزت النتائج ايضا ضربة موجعة للقوى المدنية والعلمانية والمستقلين والتجمعات الاقتصادية النافذة التي راهنت على المال والامتعاض ازاء القوى التقليدية لكنها لم تحصل على ما كانت تراهن عليه وبقى وجودها محدودا وجمهورها متذبذب.
اما القوى التقليدية فاستطاعت استعادة وضعها الانتخابي بل فاقت ما كانت تحصل عليه من حيث عدد الاصوات بغض النظر عن المقاعد فيما لو كان التيار الصدري مشتركاً، اذا حددنا هذه القوى بتحالف نبني ودولة القانون وتحالف قوى الدولة الوطنية، ولهذا الموضوع اسبابه المتعلقة بأداء الحكومة الحالية وثبات جمهورها الانتخابي وقدراتها المالية وخبرتها في ادارة الماكنة الانتخابية والقدرة على المناورة والاتصال والتأثير.
القوى التقليدية السنية التي مثلها تحالف الحسم الوطني والعزم وتحالفات محلية محدودة في بعض المحافظات لم تستطع مزاحمة القوى الجديدة الصاعدة المتمثلة بحزب السيادة وتقدم فحصل الطرفان الاخيران على اغلبية المقاعد السنية على مستوى المحافظات المحررة وبغداد مع افضلية حزب تقدم.
ثالثاً: مخرجات الانتخابات
من خلال الخارطة الاولية لنتائج انتخابات مجالس المحافظات، ستكون لها مسارات آنية ومستقبلية ذات تأثير واضح على العملية السياسية العراقية سواء على مستوى التحالفات او اختيار رئيس مجلس النواب الحالي، وانتخابات مجلس النواب القادم وتشكيل الحكومة القادمة.
آنيا يمكن الحزم تقريباً بأن تشكيل المجالس وانتخاب المحافظين لن تكون مسألة معقدة في البصرة وكربلاء وواسط، بل ستشهد استقرار وسرعة في التشكيل بسبب فوز احزاب المحافظين فيها وحصولهم على نصف المقاعد او اقل بقليل ما يجعل وضعهم مريحاً في تشكيل المجالس وانتخاب المحافظ، كذا الحال في النجف، بابل، ميسان، ذي قار، المثنى والديوانية لسيطرة قوى الاطار التنسيقي على هذه المجالس من خلال تحالفاتها الفائزة: نبني، دولة القانون، وتحالف قوى الدولة، وانضمام ائتلاف الاساس، أبشر ياعراق، واجيال لها، اما في بغداد سيكون الوضع مركباً بين التعقيد والسلاسة، لكن سيحل بتقسيم المواقع على الفائزين فحزب تقدم الفائز الاول في بغداد والانبار سيكون له منصب رئاسة مجلس محافظة بغداد او نائب للمحافظ على اقل تقدير، وسيحصل تقدم على مواقع مهمة في الموصل، صلاح الدين، وديالى، التي سيكون وضعها السياسي اشبه بطريقة تشكيل الحكومة المحلية والمحافظ في العاصمة بغداد، اما الانبار فمنصب المحافظ في الانبار محسوم لتقدم والوضع سيكون سلساً للغاية.
تبقى كركوك العقدة الوحيدة في مخرجات هذه الانتخابات، بسبب التنوع العرقي والقومي وتقارب النتائج، اذ سيحاول الاكراد اعادة تأكيد نفوذهم في هذه المحافظة، في ظل منافسة المكون العربي والتركماني ولان الاخيرين دخلا في قائمة موحدة فالعقدة ستزداد في التوافقات على المنتصف والتموضع في التحالف كونها خارج التوافقات المسبقة في باقي المحافظات وعدم وجود اكثرية حزبية محددة داخل كل تحالف، فالمواطنين فيها ينظرون إلى الجهات الفاعلة السياسية على أنها الممثل الاساس للهويات والانقسامات العرقية القومية دون النظر الى مستوى الخدمات والاداء، اي ان كركوك تمثل معركة اثبات وجود واعادة بسط نفوذ من خلال القوى الانتخابية والتصويتية لكل جهة او مكون سياسي عبر هذه الانتخابات، ما يعقد الوضع بشكل اكبر ويؤثر على تشكيل المجلس واختيار المحافظ ويؤثر ايضا على طبيعة الاداء الإنجازي في هذه المحافظة وضرب استقرارها السياسي.
ان التموضع والتكتل والتحالف ما بعد الانتخابات المحلية بشكل عام، لن يكون على اساس البرامج والتفاهمات انما قائم على اساس الربح والخسارة والصعود والتراجع، ووفق ذلك ستتشكل اتجاهات سياسية قد تفرز تكتلات او تخندقات نحو تسمية المحافظين ورئاسة مجالس المحافظات فيها.
مع ذلك لن يكون التعقيد كبيرا لعدم وجود الفاعل الخارجي المؤثر والمتدخل في نتائج هذه الانتخابات ومخرجاتها، لكن الصراع على المواقع سيكون هو الاساس في التعقيد، خاصة ان مخرجات هذه الانتخابات سيكون لها انعكاسات على اوزان القوى السياسية البرلمانية الحالية فيما يخص انتخاب رئيس مجلس النواب من حيث تقديم تنازلات لمواقع في المحافظات ومجالسها مقابل الرئاسة فضلا عن المواقع التنفيذية الاخرى، وايضا الانتخابات النيابية القادمة وما يقدمه المحافظ او مجلس المحافظة من انجازات او اخفاقات سيكون له اثر تصويتي في انتخابات مجلس النواب القادم سلبا او ايجابا، اضافة الى اهمية هذه المواقع في توازن القوى السياسية والمناصب وتشكيل الحكومة القادمة لأنها ستبقى، والبرلمان والحكومة سيتغيران قريباً.
الخلاصة
أجريت انتخابات مجالس المحافظات بنجاح، وهذا سيعمل على تعزيز الاستقرار النسبي في العراق وتمنح حكومة السوداني الثقة لاستكمال ولايتها واجراء انتخابات برلمانية، هذه الانتخابات مهمة وضرورة دستورية، من الناحية النظرية، وتعزز العملية الديمقراطية، ولكن من الناحية العملية، قد لا تضيف شيء او تقدم منجزات واضحة بقدر ما ستجعل البلد يعاني من عبئ وثقل على الموازنات العامة للدولة وايجاد سياق اضافي من سيطرة الأحزاب السياسية النخبوية على الإدارة المحلية ما يزيد حدة الصراعات والانقسامات السياسية، وبالتالي ستعتبر هذه المجالس حلقة غير ضرورية وأداة لتمكين الفساد، وستشكل هذه التصورات مسار سلبي مؤثر على استعادة ثقة المواطن بالسياسة وتوسيع فجوة القطيعة والرفض والعزوف عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة ما يؤثر على شرعية العملية السياسية العراقية، ولهذا لابد ان تعمل مجالس المحافظات والمحافظين وقواها الماسكة على تقديم المزيد للمواطنين من الخدمات والمشاريع واستعادة بعض الثقة، لتتم اعادة النظر بمجالس المحافظات على أنها ناجحة، وبالتالي انسحاب هذا النجاح على المجال السياسي للدولة ومتغيرات العملية السياسية برمتها.
المصدر : https://www.mcsr.net/news868