انتخابات منتصف العمر الأمريكى

حتى اللحظة لم يستطع أحد تفسير الحديث الذى أدلى به الرئيس بوتين، خلال المنتدى الاقتصادى فى فلاديفوستوك، وتطرق فيه بالتعليق على انتخابات الرئاسة الأمريكية. امارات الجدية التى لا تفارق وجه الرئيس الروسى كانت حاضرة، وهو يعلن أنه بالضرورة سيدعم المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، طالما أن الرئيس بايدن أوصى ناخبيه بذلك، «لذا سندعمها أيضا». الحيرة التى لفت المراقبين، كانت بين احتمالين لم يصل أحد للجزم بينهما بعد، هل كان حديث بوتين جادا أم أنه يسخر. هناك تفسير أنه يستهزئ من المرشحين والقادة الأمريكيين، خاصة عندما أشار إلى أن الرئيس السابق ترامب فرض العديد من القيود والعقوبات على روسيا، وتمنى على كامالا أن تمتنع عن القيام بأشياء مماثلة!

سيظل الأمر معلقا فى تفسيره، لكنه بالتأكيد لن يكون حديثا عابرا، فهناك من هم معنيون بمثل تلك الأمور، ما يجعلهم يتفاعلون بسرعة مع حديث بهذا الوزن. لذلك لم تمض ساعات حتى خرج المتحدث باسم مجلس الأمن القومى جون كيربى للصحفيين معلقا بأن «الأشخاص الوحيدين الذين يحددون هوية الرئيس المقبل للولايات المتحدة هم الشعب الأمريكى ونحن سنكون ممتنين جدا، لو توقف السيد بوتين عن التحدث عن انتخاباتنا والتدخل فيها». الجانب الروسى حتى اللحظة، فى المخيلة الأمريكية متهم بتنفيذ عمليات تأثير عميقة عبر وسائل التواصل الاجتماعى أمريكية الصنع ـ لمصلحة ترامب، خلال انتخابات 2016. حقيقة هناك غموض فى تفسير طرفى هذه المعادلة، بين من يصف هذا السلوك بـ«تشنج أمريكى» غير مبرر، فى ظل سيطرة الولايات المتحدة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى بصورة كاسحة، وبين الرئيس الروسى الذى بدا مرتاحا للغاية وهو يثنى على «ضحكة» كامالا، ويصفها بالمعبرة والمعدية وتظهرها دوما بأنها فى وضع جيد.

هل تبدو أطراف المعادلة مقلوبة، أم أنها تجلس فى مكانها الصحيح وبالفعل تعترى الولايات المتحدة حالة استثنائية من القلق والتوتر الذى هناك عشرات الدلائل التى تؤكده بل وتبرر حضوره بهذا القدر فى المشهد الانتخابى. حادث إطلاق النار ومحاولة اغتيال المرشح الجمهورى ترامب، والتغيير الديمقراطى المتأخر والمفاجئ لمرشح الحزب كى يلحق بقطار المنافسة، مازالت مشاهد وخطوات عالقة فى أذهان الفرق الانتخابية لكلا المرشحين وغيرهما من المنخرطين فى إدارة السباق الانتخابى. لكن الثابت أنها أمور تفتح الباب على اتساعه لتبين أن وراءها أزمة أعمق، قد تبدأ من مقاعد السياسيين لكنها لن تتوقف وستمتد لتشمل بالضرورة، أزمة القيادة الأمريكية التى باتت على مشارف مواجهة أسئلة تشبه حالة «منتصف العمر». جدارة القيادة فى عصور سابقة لامعة، تطلبت من الولايات المتحدة والساسة الأمريكيين أداء مختلفا كثيرا عما يجرى اليوم، وتشكل الرؤى، والإجابات الأمريكية كانت أنضج بما يكفى حتى لو جرى الاختلاف عليها، فقد كانت تتفوق بسلاح الإرادة الصلبة الذى يغيب اليوم فى مشكلات كبرى، بحجم الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب إسرائيل على غزة. وهما مثالان بارزان لما يعتريهما من تعقيدات وتفاعلات، فضلا عن تداعياتهما الخطيرة وتوليدهما لمشكلات لا حصر لها، فى نطاقين لا يتصور أنهما لا يمسان مصالح الولايات المتحدة المباشرة، الساحة الأوروبية والشرق الأوسط. قبيل المناظرة المرتقبة بين المرشحين هاريس وترامب، حيث تحدث أول مواجهة بينهما فى مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، وهى واحدة من الولايات المتأرجحة الرئيسية التى ستسهم فى تحديد نتيجة الانتخابات، المناظرة التى ستجرى على قناة (ABC) تعد واحدة من أكثر اللقاءات المنتظرة فى هذه الانتخابات. الموضوع الذى بات أكثر إشغالا وأهمية للداخل الأمريكي؛ هو ما خرج به وزير العدل والمدعى العام الأمريكى «ميريك غارلاند» محذرا، من محاولات هجومية متزايدة للتأثير على الانتخابات الرئاسية المقبلة، ومؤكدا أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع مثل هذه التصرفات من «الأنظمة الاستبدادية» التى سماها المدعى العام فى حديثه بإيران وأتبعها بالصين وروسيا. فحديث الساعة الآن هو البيان المشترك من مكتب التحقيقات الفيدرالى ووكالات الاستخبارات الأمريكية، تم التأكيد أن إيران قد تكون وراء هجوم سيبرانى استهدف حملة المرشح الجمهورى ترامب، بعد التأكد أن طهران تسعى لاستغلال الانقسامات الاجتماعية والسياسية فى البلاد، كما ذكر البيان توافر أدلة أن القراصنة الإيرانيين تم توجيههم لاختراق حملات الديمقراطيين أيضا.

المدعى العام الأمريكى غارلاند؛ تطرق فى كلمته إلى التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية بإشارة إلى جهود «حلقة بوتين» الداخلية كما سماهم، عبر توجيه شركات العلاقات العامة الروسية لنشر معلومات مضللة، وأن هذه المجموعة المقربة من الرئيس الروسى طلبت من شركة أمريكية إنشاء محتويات دعائية تخدم أجندة الكرملين. وقد تبين أن الإجراءات العقابية التى صدرت مؤخرا بحق الشبكة الإعلامية الروسية (RT)، جاءت على خلفية اتهام المدعى العام الأمريكى لأعضاء بالشبكة، مما استلزم أن تقوم وزارتا الخزانة والخارجية الأمريكية بتوقيع عقوبات وفرض إجراءات عليها وعلى وسائل إعلام أخرى مدعومة من الكرملين. حالة الصخب الاستثنائية التى سادت بمجرد خروج البيان الأمنى الاستخباراتى وحديث المدعى العام، دفعت بدورها وزير الخارجية أنتونى بلينكن لأن يدخل على الخط، ويؤكد بدوره أن روسيا تستخدم «نفوذها الخفى» فى التأثير على الانتخابات الرئاسية، مما يلزمه فرض قيود على إصدار التأشيرات للعاملين فى وسائل الإعلام الروسية. مذكرا الجمهور الأمريكى ومغذيا لحالة الهوس العامة، بأن إدارة بايدن سبق لها اتهام «مارجريتا سيمونيان» رئيسة تحرير (RT) بالإشراف وتوجيه تلك الجهود منذ بداية 2024، لتجنيد مؤثرين أمريكيين لنشر معلومات مضللة.

لم يبق مجال؛ للاهتمام بالأزمة الاقتصادية العالمية، ولا بحجم الإنفاق الهائل الذى تستنزفه الحرب الروسية الأوكرانية من الخزائن الأوروبية، كما لا ينتظر أحد رؤى استراتيجية فى أى من ملفات العالم المشرعة هنا وهناك. وبالضرورة تغيب عمدا الأزمة الأخلاقية والقانونية والأمنية المهددة للشرق الأوسط برمته، ولكل من له مصالح فيه، عنوانها من كلمتين «القضية الفلسطينية».

 

المصدر : https://ecss.com.eg/48050/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M