- أعلنت النيجر و بوركينا فاسو ومالي، بالتوالي، انسحابها من المنظمة الدولية للفرنكفونية، بما يعني اكتمال انسحاب دول الساحل الأفريقي الثلاث المركزية من التجمع الناطق بالفرنسية بعد انسحابها من مجموعة الإيكواس.
- يُفسَّر قرار انسحاب الدول الساحلية الثلاث من المنظمة الدولية للفرنكفونية بعاملين أساسيين، هما: الاحتجاج على إجراءات العقوبات التي اتخذتها المنظمة ضد الأنظمة العسكرية الحاكمة في البلدان الثلاثة، ومواصلة الأخيرة استراتيجية خروجها المتدرج من تحت عباءة النفوذ الفرنسي.
- يُشكِّل انسحاب دول مهمة من غرب أفريقيا الناطقة بالفرنسية من المنظمة الدولية للفرنكفونية تحدياً خطيراً لهذه المنظمة التي تضم 93 عضواً من مختلف القارات، وتستشعر الأوساط القريبة من المنظمة الخطر من تقلُّص المظلة الفرنكفونية، خصوصاً مع تراجُع اللغة الفرنسية في أفريقيا.
أعلنت النيجر في منتصف مارس 2025 انسحابها من المنظمة الدولية للفرنكفونية، في الوقت الذي تأكَّد انسحاب جمهورية بوركينا فاسو من المنظمة نفسها. كما قامت دولة مالي بإجراء مماثل، بما يعني اكتمال انسحاب دول الساحل الثلاث المركزية من التجمع الناطق بالفرنسية، بعد انسحابها من مجموعة الإيكواس (المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا) المتَّهمة بخضوعها للسياسة الاستراتيجية الفرنسية في غرب أفريقيا.
خلفيات انسحاب الدول الساحلية
أعلنت النيجر في 17 مارس أنها أخْبرت فرنسا بانسحابها الفوري من المنظمة الدولية للفرنكفونية، كما أكَّدت المتحدثة باسم المنظمة الدولية للفرنكفونية، أورياك فاندي ويغي، في نفس اليوم، إن بوركينا فاسو المجاورة اتخذت القرار نفسه. وأعلنت حكومة مالي أيضاً في 18 مارس قرار انسحابها الفوري من المنظمة تضامناً مع حليفتيها، وتقديراً منها أن قرارات الهيئة الفرنكفونية تتعارض مع الأسس الدستورية للدولة. وكانت عضوية الدول الثلاث في المنظمة قد عُلّقت بعد الانقلابات العسكرية التي عرفتها هذه البلدان المستعمَرة سابقاً من فرنسا والناطقة بالفرنسية.
ومن المعروف أن النيجر احتضنت الاجتماع التأسيسي للمنظمة الفرنكفونية عام 1970، وكانت عضواً مؤسِّساً لها، كما أنها اعتمدت عند استقلالها الفرنسية لغةً رسمية للبلاد. ويُقدَّر عدد الناطقين بالفرنسية في البلاد بنحو 3 ملايين فرد، أي 13% من عموم السكان. وقد عُلِّقَت عضوية النيجر في المنظمة في 19 ديسمبر 2023، احتجاجاً على الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس السابق محمد بازوم في 26 يوليو 2023. أما بوركينا فاسو فقد انضمت إلى المنظمة عام 1970، كما اعتمدت الفرنسية لغة رسمية للبلاد منذ استقلالها، وتضم ما يزيد على 5 ملايين ناطق بالفرنسية (24% من عدد السكان). وقد عُلِّقَت عضوية بوركينا فاسو في المنظمة بتاريخ 8 فبراير 2022 إثر الانقلاب العسكري الذي عرفته البلاد في 24 يناير 2022. وبدورها كانت دولة مالي قد انضمت إلى المنظمة عام 1970، واعتمدت الفرنسية منذ استقلالها لغة رسمية، ويتحدث 17% من السكان الفرنسية (أكثر من ثلاثة ملايين فرد)، كما عُلقت عضوية مالي في المنظمة في 3 يونيو 2021 في إثر الانقلاب الذي أطاح النظام المدني المنتخب في 24 مايو من السنة نفسها.
ومن الواضح أن قرار انسحاب الدول الساحلية الثلاث المركزية، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، من المنظمة الدولية للفرنكفونية يُفسَّر بعاملين أساسيين، هما:
- استراتيجية الخروج المتدرج من النفوذ الفرنسي، التي بدأت بإنهاء التعاون العسكري مع فرنسا وتقليص أوجه التعاون الأخرى معها، والانسحاب من المنظمات والتكتلات المدعومة فرنسياً، مثل تجمع الدول الساحلية الخمس ومنظمة الإيكواس.
- الاحتجاج على إجراءات العقوبات التي اتخذتها المنظمة الدولية للفرنكفونية ضد الأنظمة العسكرية الحاكمة في البلدان الثلاث، من منظور الضغوط السياسية للعودة إلى الحياة الدستورية الطبيعية وتنظيم انتخابات ديمقراطية تعيد المدنيين للسلطة.
بيد أن للمعطيات الدولية الراهنة تأثيرها الحاسم في القرارات الأخيرة، وخصوصاً الصراع الروسي-الفرنسي/الأوروبي في أفريقيا، في سياق يشهد تزايد النفوذ الروسي في منطقة الساحل التي تشهد تحديات أمنية متزايدة مرتبطة بنشاط المجموعات الراديكالية المسلحة في الإقليم.
التأثيرات المستقبلية على المنظمة الفرنكفونية والنفوذ الفرنسي في أفريقيا
لا شك في أن انسحاب ثلاث دول مهمة من غرب أفريقيا الناطقة بالفرنسية من المنظمة الدولية للفرنكفونية يشكل تحدياً خطيراً لهذه المنظمة التي تضم 93 عضواً من مختلف القارات، يشتركون في الاستخدام الكلي أو الجزئي للغة الفرنسية (321 مليون فرد). ومن المعروف أن دول غرب أفريقيا ووسطها الناطقة بالفرنسية تشكل محور نشاط هذه المنظمة ومسرح النفوذ الفرنسي الأساسي في القارة.
وعلى رغم أن المنظمة عرفت توسعاً مستمراً في السنوات الأخيرة، خصوصاً بانضمام دول لا تعتمد الفرنسية لغة رسمية، فإنّ النفوذ الثقافي واللغوي الفرنسي في القارة عرف تراجعاً ملموساً في الأعوام الماضية. فرواندا التي كانت من أهم البلدان الناطقة بالفرنسية اعتمدت منذ عام 2010 الإنجليزية لغة رسمية للبلاد بدلاً من الفرنسية التي ما عاد يتحدث بها اليوم سوى أقلية تُقدَّر بأقل من 10% من السكان (725 ألف فرد بحسب معلومات المنظمة الدولية للفرنكفونية). وفي عام 2022 انضمت التوغو والغابون إلى الكومنولث (رابطة الدول الناطقة بالإنجليزية والتي استقلت عن بريطانيا)، وهما بلدان ناطقان بالفرنسية ومن المستعمرات الفرنسية السابقة، بما شكَّل تحدياً قوياً للنفوذ الفرنسي في أفريقيا.
ومع أن الجزائر ليست عضواً في المنظمة الدولية للفرنكفونية، إلا أنها تُعد الدولة الثانية من حيث عدد الناطقين بالفرنسية في أفريقيا (15 مليون فرد)، وبدورها اعتمدت في إصلاحاتها التربوية الأخيرة سياسةً لغوية جديدة تقلص حجم استخدام الفرنسية في كل مستويات التعليم، مع تحويل الإنجليزية إلى لغة التعليم الجامعي.
ولمواجهة هذه التحديات، اعتمدت فرنسا استراتيجيةً جديدة لتعزيز نفوذها الأفريقي، تقوم على المحددات الآتية:
- العمل على تأمين مركز النفوذ الفرنسي الأساسي في القارة، أي في غرب أفريقيا (السنغال، وساحل العاج (كوت ديفوار)، وبنين)، وفي وسطها (الكونغو الديمقراطية، وجمهورية الكونغو)، للحفاظ على الإرث الثقافي واللغوي في القارة.
- إعادة تحديد الأهداف الأساسية للمنظمة الفرنكفونية بتحويلها من أداة للهيمنة الثقافية واللغوية الفرنسية إلى منظمة دولية تتبنى التعددية الثقافية وحوار الحضارات والتقريب بين الشعوب والأمم.
- الانفتاح المتزايد على الدول الأفريقية غير الفرنكفونية، وبصفة خاصة الدول الصاعدة مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وأنغولا، لسد الثغرات المتولدة عن تراجع النفوذ الفرنسي في مناطق تركزه السابقة.
بيد أن الأوساط القريبة من المنظمة تستشعر الخطر من تقلُّص المظلة الفرنكفونية، خصوصاً مع تراجع اللغة الفرنسية في القارة الأفريقية التي تضم 75% من مستخدمي هذه اللغة، ودخول قوى دولية منافسة لفرنسا في الساحة الأفريقية.
استنتاجات
من الواضح أن قرار دول الساحل الثلاث المركزية، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، إعلان انسحابها من المنظمة الدولية للفرنكفونية، بعد أن أكملت انسحابها من تجمع الإيكواس، يندرج في سياق القطيعة المتزايدة مع هذه المنظمة التي علَّقت في السابق عضوية الدول المذكورة بعد الانقلابات العسكرية التي عرفتها. كما يندرج في إطار سياسة هذه الدول بفك علاقتها بفرنسا، وهو ما يعكس تراجعاً للنفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا. وفي الوقت الذي تشهد المنظمة الدولية للفرنكفونية تحديات عصية، إلا أنها لا تزال تشكل إطاراً مهماً للعمل الدبلوماسي الدولي.