اُستُكمِلَ المسار السياسي الانتقالي في تونس بعقد الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية في 27 يناير 2023، التي شهدت إقبالاً تصويتياً متدنياً على غرار الجولة الأولى. وفي ضوء ذلك، يمكن تقديم رؤية تقويمية كاملة للوضع السياسي التونسي ومسار الرئيس قيس سعيّد.
النتائج المستخلصة من المسار الانتقالي
بدأ هذا المسار مع قرارات الرئيس قيس سعيّد الاستثنائية في 25 يوليو 2021، التي علّق فيها البرلمان وأقال الحكومة، قبل أن يُنهي العمل بالدستور ويحل نهائياً المجلس النيابي. وفي 25 يوليو 2022 نُظِّم استفتاء على مشروع الدستور الجديد اُقِرَّ بنسبة مشاركة وصلت إلى 30.5% من أصوات الناخبين. وقد صاغ رئيس الجمهورية بنفسه هذا المشروع الذي يُقلِّص صلاحيات البرلمان، ويعزز صلاحيات الرئيس، في الوقت الذي رفضته أغلب القوى السياسية. وفي 17 ديسمبر 2022، عُقدت الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية في تونس بنسبة مشاركة منخفضة وصلت إلى 11.22%، نتيجة مقاطعة أغلب الأحزاب السياسية، لتتلوها الجولة الثانية التي نظمت في 27 يناير 2023، والتي اتسمت بمشاركة متدنية أيضاً بلغت 11.40%.
ويمكن أن نستخلص النتائج التالية من المسار الانتقالي في تونس:
- استطاع الرئيس قيس سعيد التحكم بصفة مستقلة في كل محطات المسار الانتقالي، دون إشراك القوى السياسية والمدنية، بما فيها المجموعات التي انحازت له في بداية المسار وفيما بعد انسحب عنه العديد منها. وقد نجح في إزاحة الأحزاب التي سيطرت على المشهد السياسي منذ 2011، وفي مقدمتها حزب النهضة، مُستفيداً من حالة الإحباط والنقمة السائدة في الشارع التونسي ضد المنظومة الحاكمة سابقاً.
- قاطع أهم القوى السياسية والحزبية التونسية مشروع الإصلاح السياسي الذي قدمه الرئيس قيس سعيد، واعتبرته مشروعاً انفرادياً، واعتبر البعض أنه يُناهض القيم الليبرالية والحداثية، في حين رأى البعض الآخر أنه يكرس النظام القاعدي المحلي على غرار اللجان الشعبية في جماهيرية القذافي، وذهب آخرون إلى أنه يكرس السلطوية والاستبداد ويُلغي نظام الفصل بين السلطات. ويمكن التمييز داخل المعارضة التونسية بين ثلاث قوى كبرى: جبهة الخلاص الوطني التي تتمحور حول حركة النهضة وحلفائها، وائتلاف الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية (التيار الديمقراطي، والحزب الجمهوري، وحزب العمال، والقطب الديمقراطي، وحزب التكتل)، والحزب الدستوري الحر. ولئن كانت هذه القوى تختلف من حيث التوجهات والمواقف، إلا أنها تتفق حول رفض مسار الرئيس قيس سعيد، وتطالب باستقالته وخروجه من المشهد السياسي.
- أظهرت نسبة المشاركة المتدنية في جولتي الانتخابات عزوف الغالبية الواسعة من الشارع التونسي عن العملية الانتخابية، بحيث لا يبدو أن البرلمان المقبل قادر على أداء دوره المفترض. ووفق الأرقام المعلنة وصلت نسبة مشاركة الشباب في الجولة الثانية من الانتخابات أقل من 5%، ولم تحصل الأحزاب السياسية المشاركة على أكثر من 8.44% من إجمالي المقاعد البرلمانية، وهي في عمومها تنظيمات قومية عربية ويسارية صغيرة ليس لها قاعدة شعبية حقيقية.
- فشل الرئيس قيس سعيد في انتشال البلاد من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي وصلت درجة غير مسبوقة من التأزم بنسبة بطالة إجمالية زادت على 15% (وأكثر من 37% بين الشباب في أواخر عام 2022)، ونسبة تضخم بلغت 10.1%، في حين بلغت المديونية العامة 80% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد فشلت محاولات الحصول على قروض جديدة من صندوق النقد الدولي رغم الاتفاق المبدئي معه في أكتوبر 2022، فضلاً عن تخفيض وكالة “موديز” في آخر تقرير لها تصنيف تونس الائتماني إلى Caa2 بما يعني أنها تواجه مخاطر عالية في التعثر عن سداد ديونها، الأمر الذي يزيد من تعقيد الملف التفاوضي مع الممولين والمستثمرين الخارجيين.
- باستثناء الدعم الجزائري، فشل الرئيس قيس سعيد في بناء علاقات دبلوماسية قوية وسليمة مع شركاء البلاد الإقليميين والدوليين. ففي الوقت التي تضررت علاقات تونس بالمغرب، زادت مصاعب السياسة الخارجية التونسية مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، التي تضررت من جراء ما اعتبرته انتكاسة للديمقراطية التونسية.
ولعل النتيجة الأساسية من هذه المعطيات، أن مشروع قيس سعيد السياسي في لحظة انسداد كامل، ولا يبدو أنه قادر على تحقيق أهدافه المعلنة من إنقاذ الوضع الداخلي التونسي.
آفاق الوضع السياسي في تونس
إذا كان مشروع قيس سعيد السياسي قد تعثَّر عملياً وفق مؤشرات الانتخابات التشريعية الأخيرة، إلا أن المعارضة التونسية أخفقت في التنسيق والتوحد فيما بينها، كما أخفقت في بناء كتلة حاشدة قوية في الشارع. ومن هنا تأتي أهمية “مبادرة الإنقاذ الوطني” التي تقدم بها في 27 يناير 2023 الاتحاد التونسي للشغل، بمشاركة ثلاث منظمات مدنية فاعلة، هي: الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهيئة المحامين، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وشكلت المنظمات المذكورة لهذا الغرض ثلاث لجان (للإصلاحات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية) تضم عدداً من أهم الشخصيات الفكرية والمدنية التونسية، من أجل تقديم مقترحات عملية لحل المأزق السياسي التونسي بالتنسيق مع رئيس الجمهورية والقوى السياسية والأهلية.
وفي ضوء هذه المبادرة، يمكن استجلاء ثلاثة سيناريوهات رئيسة في استشراف المستقبل السياسي التونسي:
1. سيناريو الحل التوافقي، الذي يستند إلى نجاح مبادرة المنظمات المدنية في إحداث دينامية جديدة للمصالحة والحوار وإعادة بناء المسار السياسي. ولا يزال هذا السيناريو بعيد المنال، لكن نقطة القوة الكبرى لاتحاد الشغل أنَّهُ يحظى بتقدير واحترام جُل الفاعلين السياسيين، كما أنه حافظ على الحياد في الصراع السياسي الداخلي، ومن ثم يتمتع بأوراق قوية تؤهله لأداء دور إيجابي فاعل في مسار التوافق الوطني. ومع أن الرئيس قيس سعيد شن هجوماً صريحاً على الاتحاد، وبدأ عملياً بملاحقة بعض قياداته، إلا أنه قد يضطر تحت الضغوط الداخلية والدولية للتعامل إيجابياً مع مبادرته التي يُنظر إليها بكثير من الاهتمام من لدن شركاء تونس الأوربيين.
2. سيناريو الانفجار الداخلي، الناتج عن استفحال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، واستمرار الاحتقان السياسي واتساع المعارضة الداخلية للنظام، بما يؤدي إلى تجدد الانتفاضات العمالية والأهلية على غرار ثورة 2011. ويبدو هذا السيناريو قوياً، والمؤشرات عليه متصاعدة، وقد يبدأ على غرار انتفاضة 2011 باضطرابات في مناطق الحوض المعدني في الجنوب، وبعض الاحتجاجات التي تقودها النقابات. كما أن الانهيار المرتقب للعملة الوطنية (الدينار)، مع استفحال الظروف المعيشية للمواطنين وندرة المواد الغذائية الأساسية، قد تكون بمنزلة العوامل الحاسمة في هذا المسار. وبالنظر إلى ضعف البرلمان المنتخب وتشتته وضعف الحزام السياسي للرئيس، فإن الحكومة الحالية تبدو عاجزة عن التعامل مع هذا السيناريو. ولا شك في أن مخاطر هذا المشهد تتزايد مع احتمالات فشل مبادرة الإنقاذ الوطني التي هي الأفق الجديد المتاح لحل الأزمة السياسية التونسية. وهذا السيناريو يبدو راجحاً، إلا في حال نجاح مخطط التسوية السياسية بقبول رئيس الجمهورية وضغط المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وهو سيناريو حظوظه محدودة حالياً.
3. سيناريو استمرار الأزمة مع التحكم فيها في الحدود الدنيا، بنجاح السلطات العمومية في إحداث تحسُّن نسبي في الأوضاع المعيشة، سواء من طريق الدعم الخارجي أو من خلال قدرة السلطات العمومية في الرفع من مؤشرات الحياة الاجتماعية. ويبدو هذا السيناريو مؤقتاً وغير قابل للاستمرار بالنظر إلى تعقُّد الوضع الداخلي التونسي وتأزُّمه.
استنتاجات
بعد استكمال مسار التحول الانتقالي في تونس إثر تنظيم الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، لا يبدو أن مشروع الرئيس قيس سعيّد حقق أهدافه المعلنة. وقد أظهر العزوف الواسع عن المشاركة في الانتخابات، وتنامي تيار المعارضة الاحتجاجية إخفاق دينامية التغيير الانفرادي التي يقودها الرئيس سعيّد. وفي ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية متردية، يبدو أن الأمل معقود على مبادرة المنظمات المدنية والحقوقية للمصالحة والتوافق الوطني، وفي حال فشلها تبدو البلاد سائرة في طريق الانفجار الداخلي وانهيار مؤسسات الدولة، وهو سيناريو ليس في مصلحة الجميع أن يحدث، وينبغي العمل على كبحه سريعاً.
.
رابط المصدر: